درويش: نحن العرب مدعوّون لنكون رسالة سماويّة للعالم كلّه
"يزور قداسة البابا فرنسيس الإمارات العربيّة المتّحدة من 3 إلى 5 شباط 2019، وهي أوّل زيارة له إلى الخليج العربي. والبابا فرنسيس هو رئيس الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم، وسيّد دولة الفاتيكان، ولد عام 1936 في الأرجنتين. وهو أوّل بابا من خارج أوروبا منذ القرن الثّامن، بعد أن تولّى سدّة البابويّة آنذاك السّوري غريغوريوس الثّالث.
هذه الزّيارة تأتي بناءً على دعوة من الشّيخ محمد بن زايد آل نهيان والكنيسة الكاثوليكيّة في الإمارات، ليشارك البابا في لقاء عالميّ للحوار بين الأديان حول "الأخوّة الإنسانيّة". وقد وصفتها وسائل الإعلام العالميّة والدّوائر الفاتيكانيّة والإمارات، بأنّها زيارة تاريخيّة وتكمن أهميّتها بأنّها ترسّخ التّعايش الإسلاميّ- المسيحيّ، وثقافة الانفتاح على الآخر وقيم التّسامح والمودّة والتّعاون.
البابا فرنسيس يُعدّ اليوم، كسائر البابوات الذين عرفناهم في عصرنا الحديث، مثل القدّيس يوحنّا بولس الثّاني وبندكتوس السّادس عشر، رمزًا للسّلام في العالم، وقد اختار له عنوانًا للزّيارة، عبارةً من صلاة القدّيس فرنسيس الأسّيزي "اجعلني أداةً لسلامك"، أمّا شعار الرّحلة فهو مُجسّم يمثّل حمامة تحمل غصن زيتون بألوان علميّ الفاتيكان والإمارات.
بمناسبة هذه الزّيارة المهمّة والتّاريخيّة، لا بدّ أن نسأل عن دور الكنيسة الكاثوليكيّة في إطلاق ورشة عالميّة للحوار المسيحيّ-الإسلاميّ. ففي عام 1962، انطلقت أعمال المجمّع الفاتيكاني الثّاني بدعوة من البابا يوحنّا الثّالث والعشرين، بهدف إعادة بهاء الكنيسة وتجديدها روحيًّا وتحديد موقفها من قضايا العالم، لاسيّما تطوير علاقاتها مع العالم الحديث.
نتج عن المجمع المسكونيّ وثيقة مهمّة حول علاقات الكنيسة بالدّيانات غير المسيحيّة، وقّعها البابا بولس السّادس، وجاء فيها أنّ واحدة من مهمّات الكنيسة هي "تعزيز الوحدة والمحبّة بين النّاس، لا بل بين الأمم.. فكلّ الشّعوب جماعةً واحدةً، ولها أصل واحد لأنّ اللّه هو الذي أسكن الجنس البشريّ بأسره على وجه الأرض كلّها.." إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تنظر باحترام كبير للدّيانات التي تحمل شعاعًا من الحقيقة التي تنير البشر.
كما تخصّص الوثيقة حيّزًا كبيرًا للدّيانة الإسلاميّة، فهي تنظر بعين الاعتبار إلى المسلمين "الذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرّحيم الضّابط الكل، خالق السّماء والأرض المكلّم البشر" ولاسيّما أنهم يُجلّون يسوع المسيح كنبيّ ويكرّمون مريم أمّه. وتحضّ الوثيقة الجميع ليتناسوا الخلافات التّاريخيّة والعداوات التي قامت بين المسيحيّين والمسلمين، ويتحاوروا ليصلوا إلى "التّفاهم المتبادل ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعيّة والخيور الأخلاقيّة والسّلام والحريّة لفائدة جميع النّاس".
إن إحدى المهمّات التي تقوم بها الدّيانة هي أن تنسج علاقات صداقة بين النّاس، بصرف النّظر عن انتمائهم الدّينيّ، لأنّ الإنسان المؤمن لا يحقّق ذاته إلّا بالاهتمام بحاجات الآخرين، وبالبحث عن طرق عمليّة للمساهمة في تقديم حياة أوفر لهم؛ وبالتّالي يفرض على نفسه مشاطرتهم بما يفيض عنه من نعم، ماديّة كانت أم روحيّة.
والتّعاون بين المؤمنين المسيحيّين والمسلمين يؤمّن العدالة والسّلام في المجتمع، لأنّهم شركاء في الإنسانيّة. أمّا الحوار بينهم فهو أكثر من تبادل آراء وأحاديث وحلّ مشاكل آنية، إنّه لقاء قلوب وحجٌّ نحو الآخر، هذا الآخر المغاير في التّفكير والعقيدة. وفي حواري معه أقبل بما يؤمن وأدعوه ليسأل عن إلهي ويقبل إيماني.
يؤمن أبناء الأديان السّماويّة بأنّهم أبناء ابراهيم بالإيمان، فهم خلقوا على صورة اللّه ومثاله. هذا لا يعني أبدًا أنّي أُبشّر بأنّ الأديان كلّها واحدة ومتساوية، إنّما كرامة الإنسان المؤمن متساوية، والحوار بين الأديان لا يهدف إلى إيجاد أرضيّات مشتركة بين الأديان، إنّما ليتواجه المتحاورون بالمحبّة، والمحبّة هي الكفيلة أن توصلهم إلى الحقيقة المشتركة وإلى التّفاهم المتبادل.
أنا أفهم أنّ المسيحيّة، كما الإسلام، يجب أن يكونا حاميَيْن لـ "حضارة الوفاق" بين النّاس يعطيانهم الثّقة بمستقبل أفضل، ليس لأتباعهما فحسب، إنّما لجميع البشر، فمن غير الممكن أن نبني عالمًا تسوده العدالة دون تضامن حقيقيّ بين المؤمنين بإله واحد خالق الكون.
والعنف لن يتوقّف في العالم ولن تُغلق مصانع الأسلحة إلّا عندما يتّحد المؤمنون بالمحبّة ويتغلّبون على خطيئتهم وعلى العداء الموجود في أعماق حياتهم.
فدور الأديان هو صنع السّلام، أما المؤمن فعليه أن يتجنّد ليكون رسول السّلام والعدالة في العالم، لا أن يستغل ارتباطه الدّينيّ لكي يقوم بأعمال تتنافى مع طبيعة اللّه، لأنّ "اللّه محبة" (1يوحنا4/8).
لذلك على المسيحيّين الصّالحين، والمسلمين الصّالحين، أن يعتنقوا اليوم مبدأي الأخوّة واحترام الآخر، ويكونوا معًا رسالة سلام إلى العالم كلّه، فالعالم كلّه يتوق إلى وضع المحبّة فوق الكراهية، والمصالحة فوق الحرب، والحوار فوق الاقتتال. وهذا يعتمد على قدرتنا بالإقرار وبالاعتراف بعيوبنا ونواقصنا، وأن نواصل الحوار معًا وننمي صداقتنا ونحترم مساحات الاختلاف الموجودة بيننا ونقوّي مناخات الثّقة لنقطع الأوكسيجين عن تجّار العنف.
وعلى رغم الضّغوط العدائيّة والتّطرّف والدّمار الموجود حاليًّا في مجتمعنا الدّوليّ، وبخاصّة في المجتمع العربيّ، وعلى رغم الأحداث الدّمويّة التي نعيشها ونسمع عنها يوميًّا، لا نزال نأمل وبخاصّة نحن المؤمنين، بأنّ زمننا سيكون زمن سلام. فالمهمّ أن نتكاتف، ولا ندع هذا القرن يوصف بـ "زمن الرّعب"، بل يجب أن يكون وقتًا نحتفل به بأخوتنا، فيصبح عصرنا عصر الأخوّة بين البشر.
إن مبادرة الإمارات بدعوة قداسة البابا فرنسيس إلى هذا اللّقاء العالميّ يندرج ضمن جهود حكّامها في إرساء مبادئ التآخي والتّعايش بين الأديان، وقناعة من القيّمين عليها ومن قيادتها الحكيمة الرّشيدة، بأنّ الأخوّة الشاملة التي تنادي بها تنفي كلّ تمييز بين البشر، والحقيقة أنّ الإمارات باستضافتها هذا المؤتمر تجعل العالم ينظر إليها برجاء كبير، بأنّ عالمنا العربيّ ما زال ينضح بمبادرات تدهش العالم، لأنّنا نحن العرب مدعوّون لنكون رسالة سماويّة للعالم كلّه.
والبابا فرنسيس لبّى بفرح دعوة الشّيخ محمد بن زايد آل نهيان، لأنّه يحمل أوّلًا للإمارات مشاعر مليئة بالاحترام والتّقدير لدورها الرّائد وبسياستها المنفتحة والمتسامحة، ولرعايتها للأقليّات المسيحيّة التي تعيش في أرضها، ولأنّه يؤمن إيمانًا راسخًا بوجود سبل كثيرة مشتركة بين المسيحيّين والمسلمين توصلنا معًا إلى اللّه الخالق، فالتّعمّق بالفقه واللّاهوت يُلزمنا بأن نفتش عن قواسم مشتركة وهي كثيرة، كما يلزمنا بأن نتعاون ونقبل بعضنا البعض ونقبل الاختلاف الموجود بيننا.
أخيرًا آمل أن يكون الحوار الذي ننتظره في الإمارات حول "الأخوّة الإنسانيّة" حوار الرّوح الموجود بين مؤمنين يعبدون الإله الواحد، والرّوح لا يلزم الإنسان بأن يكون متعلّمًا، عالمًا، لاهوتيًّا أو فقيهًا، فقيرًا أو غنيًّا لكي يتلاقى مع أخيه الإنسان.
الرّوح يقود جميع المؤمنين بالإله الواحد، لكي يؤسّسوا أوطانًا عنوانها التّسامح والتّآخي، حيث يجد الجميع مساحات لعبادة اللّه كلّ على طريقته."