دينيّة
22 تشرين الثاني 2020, 08:00

خاصّ– هل "نَعَمُنا" لله على مثال "نَعَم" مريم؟

غلوريا بو خليل
في خضمّ كلّ ما نعيشه في العالم من وباء وحروب وفقر وقهر وخوف تأتي البشرى السّارة التي استهلّها الملاك أبّان ظهوره لمريم العذراء بكلمة "افرحي" لتعطينا نفحة رجاء، فنقوى ويقوى إيماننا برحمة الله وحكمته ومواعيده. نتأمّل اليوم هذه البشارة على ضوء إنجيل القدّيس لوقا البشير (1/ 26 – 38) بحديث روحيّ مع السّفير العالميّ للسّلام الأب الدّكتور طوني غانم الأنطونيّ.

"أحد بشارة العذراء بميلاد يسوع هو الأحد الثّاني من زمن الميلاد ففي الرّسالة إلى أهل غلاطية يدعونا مار بولس إلى سؤال ذواتنا: هل نحن شعب "شريعة" أم شعب "وعد" الله الحيّ؟أمّا في إنجيل لوقا فتدعونا كلمة الله إلى قبول مشيئة الله لنا ببساطة كلّيّة والعمل بموجبها، فتكون "نَعَمُنا" لله على مثال "نَعَم" مريم أمّ "النِعَم"." بهذه الكلمات استهلّ الأب غانم حديثه، وتابع قائلًا: "لذا نلاحظ بأنّ نصوص أناجيل زمن الميلاد، تخبرنا عن أمور عظيمة تتحقّق من خلال أمور بسيطة، من خلال ناس بسطاء عاشوا حياتهم قريبين من الرّبّ كخدّام له في حقل الرّسالة. فكلّ هذه الأحداث تعلّمنا أنّ كلّ إنسان مهما كان صغيرًا هو مدعوّ لأن يضع بصمته في الحياة، وإلا فوجوده عبثيّ ولا معنى له. ومريم العذراء هذه الشّابّة الصّغيرة البسيطة، هي فتاة بسيطة من الفتيات اللّواتي كنَّ ينتمين إلى مجتمع اليهود الذي فيه كانت المرأة في ذلك الزّمان درجة ثانية أو أقلّ. من النّاصرة، قرية ليست بأهميّة تجاه أورشليم المدينة العظيمة، هذا يعني أن كلّ شيّ هو مهم مهما كان صغيرًا ومن الممكن عمل أمور عظيمة انطلاقًا من مبادىء صغيرة… ما يريده الله من الإنسان، فقط أن يستقبله بفرح وبساطة وبدون خوف، ويحاول عيش دعوته فيفهم معنى نعمة الرّبّ التي يقبلها منه…".

وأضاف: "مريم حيال بشارتها، لم تخف، بل حاولت أن تكتشف دعوتها، الفريدة والغريبة، من خلال الوحي الذي لم تكن تتوقّعه. لم يكن سؤالها للملاك يحمل أدنى شكّ حيال قدرة الله، بل كان نابعًا من إيمانها الثّابت، وانتظارها تحقيق الوعد. فبادرها الملاك بالطّمأنينة؛ هي المملوءة نعمة، وقد نالت حظوة عند الله:

-  ألقيت عليها تحيّة "السّلام عليك": وهي التي قيلت لأورشليم، إبنة صهيون (زكريّا 9: 9).

-  سيحلّ الرّوح القدس عليها: كما كان يرفّ على وجه الغمر ويعطي الحياة (تكوين 1: 1).

-  ستظلّلها قدرة العليّ: كما كان الغمام يظلّل خيمة الوعد، مسكن الرّبّ (خروج 40: 34 – 35).

 -سيولد منها قدّوس: والـ "قدّوس"، هو اسم خاصّ بالله وحده. لذلك، فإنّ المولود منها يدعى ابن الله.

فهمت مريم إرادة الله المستمرّة منذ بدء التّكوين، فقبلت بها بدون تردّد. وما كانت لتقبل رسالتها، لولا ثباتها في الإيمان، ويقينها بأنّ الرّبّ ثابت في وعده لها. هي لم تنسَ يومًا أنّها خادمة الرّبّ، والرّبّ صالح ومحبّ. وكلّ ما يخلقه، هو حسن."

وأكمل قائلًا: "لذا هذه البشارة تدعونا إلى عيش الإصغاء لصوت الرّبّ من خلال وضع ثقتنا به على مثال مريم، وبتسليم ذواتنا له في حياتنا، ومن خلال الـ "نعم" التي نقولها بأمانة وثقة… نصغي، إلى كلمة الرّبّ، فتتجسّد هذه الكلمة في أعماقنا لتكون إنسانًا، لتكون واقعًا متجسّدًا في حياتنا، ولتصبح صلاتنا واقعًا معاشًا بحقّ مع يسوع، عمانوئيل، الله معنا."

وأردف قائلًا: "من مميّزات الإنسان المسيحيّ، إنّه الإنسان الذي يصغي، والذي يصغي معناه أنّه يتأمّل بعمق، فيسمع الإنسان الكلمة فتدخل الكلمة في أحشائه التي تستقبلها ويتفاعل معها، ولا تبقى هذه الكلمة مُلكًا له فقط، بل يهديها أيضًا للآخرين معلنًا البشارة السّارّة لهم من خلال أفعال حبّ تعبّر عن هذا الرّوح الحقيقيّ المتفاعل فينا. الله يريد أن يكون في العالم من خلال إنسان… صحيح أنّ بشرى التّجسد فريدة، ولكنّها ستتكرّر في كلّ مرّة ندخل في حوار مع الله لنفهم إرادته، حوار مبنيّ على التّواضع والخضوع التّامّ.

الله يدعونا ويتكلّم معنا اليوم هنا في هذا المكان بالذّات، إنّه يرسل ملاكه ليقول لكلّ واحد منّا: "السّلام عليك أيّها الممتلئ نعمة، الرّبّ معك، مبارك أنت بين النّاس، ومباركة الثّمار التّي ستحملها للنّاس بعد هذا اللّقاء بيني وبينك"، فهل نحن واعين لحقيقة هذه الدّعوة وهذه الصّلاة؟ دعوة تجسّد يسوع في كلّ واحد منّا، هل نستطيع ان نقبل الكلمة (يسوع) في أحشائنا ومن ثمّة نلده للعالم؟ لن نستطيع أن نكون كلّنا رجالاً ونساءً أمًّا حقيقيّة ليسوع، إن لم يكن كلّ واحد منّا أمًّا، فلن نشعر بالحقيقة بأهميّة أيّ مولود جديد في العالم، لأنّ الأمّ تتعب وتحمل متألّمة فرحة طفلها أشهر طويلة وليالي صعبة منتظرة برجاء من تعطيه ذاتها، ومن تعطيه للعالم إنسانًا حقيقيًّا…".

وإختتم الأب الأنطونيّ موصيًا: "فلنتأمّل ولنصلّي ولنستقبل الكلمة، ولنحمله في أحشائنا فيعشعش في كياننا، ولنلده إلى العالم، فنكون مع مريم العذراء نستقبل كلّ إنسان البشرى السّارة من الله، وتُظهِر هذه البشارة الدّعوة الإلهيّة للإنسان، إذ إنّ المخاطِب هو الله والمخاطَب هو الإنسان، ونستطيع أيضًا أن نقول أنّ هذه البشارة هي سؤال الله للإنسان عن مدى استعداده لتقبّل الشّراكة معه، وهذا السّؤال هو دعوة كلّ الإنسان وكلّ إنسان. في هذا الأحد المبارك، دعونا نخرج من ذواتنا لنستقبل الله، دعونا نخرج من مركزيّتنا وانطوائنا وأنانيّتنا، فليست العلاقة مع أحد قائمة على ما سوف أحصل عليه منه، بل على ما أستطيع أن أهبه له. ولندع مريم تضمّنا إلى صدرها، بعد أن جعلها ابنها أمًّا لنا. تظلّلنا بنعمها، وتعلّمنا أن نصغي إلى وحي الله، فنفهم إرادته في كلّ الأحداث التي نعيشها: من فرح وحزن، من صحّة ومرض، من نجاح وفشل، من سلام واضطهاد... إلخ، فنعمل بحسب مشيئته؛ وكلّنا إيمان ثابت، أنّ الله صادق في وعده لنا، وهو وحده القادر على كلّ شيء، يحوّل كلّ ما يؤذي الإنسان، إلى ما يعود عليه بالخير."