مصر
30 نيسان 2021, 06:30

تواضروس الثّاني يدعو في خميس العهد إلى التّواضع والاتّحاد والحبّ

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة تواضروس الثّاني قدّاس خميس العهد في دير الشّهيد مار مينا- مريوط، بمشاركة أسقف ورئيس الدّير الأنبا كيرلس أفا مينا، والأسقف العامّ لكنائس قطاع ألماظة ومدينة الأمل وشرق مدينة نصر الأنبا أكليمندس، ومجمع رهبان الدّير.

خلال القدّاس، ألقى بابا الأقباط عظة قال فيها بحسب "المتحدّث بإسم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة": "كلّ سنة وحضراتكم طيّبين في هذا اليوم الّذي هو أحد الأعياد السّيديّة وهو الخميس الكبير أو خميس العهد وهو أحد ثلاثة أعياد تأتي يوم خميس، فصح يونان وخميس العهد وعيد الصّعود.

وفي أسبوع الآلام، الأسبوع الممتلئ والمشحون بالصّلوات والعبادة والرّوحيّات، نشعر أنّ هذا الأسبوع يحوّلنا من الضّعف إلى القوّة، من الحزن إلى الفرح.

يبدأ أسبوع الآلام بعد جمعة ختام الصّوم وسبت لعازر، وأحد الشّعانين ثمّ تبدأ البصخة، والبصخة معناها كما نعلم، عبور والعبور هو ما يحدث خلال هذا الأسبوع، نعبر الضّعف إلى القوّة، من الحزن إلى الفرح، من الشّكل إلى الجوهر، من السّطح إلى العمق. فهدف هذا الأسبوع هو هدف خاصّ لكلّ واحد منّا.

يوم الثّلاثاء نسمّيه يوم الزّيت والرّحمة لأنّ فيه مثل العذارى اللّاتي ملأن مصابيحهنّ بالزّيت واستعددن، وفيه تذكار لأعمال الرّحمة الّتي يصنعها الإنسان.  

يوم الأربعاء يوم الطّيب والحبّ، الطّيب الّذي سكبته المرأة ومقدار الحبّ الّذي أفاح هذا الطّيب، مقابل خيانة يهوذا وما صنعه.

اليوم، خميس العهد هو يوم الماء والعهد، الماء في اللّقان، وأهمّيّة هذا اليوم أنّه يوم تستطيع أن تصنع فيه عهدًا مع الله. يوم تربط فيه نفسك بعهد وميثاق، أيّ وثيقة رسميّة، تأخده على نفسك أمام الله. فهذا اليوم هو يوم الماء والعهد.

عهود خميس العهد:

سنتكلّم عن ثلاثة عهود رئيسيّة يمكن لكلّ واحد أن يأخذها اليوم ويؤكّدها في حياته ويلتزم بها حتّى السّنة المقبلة، لنعود ونجدّد هذا العهد.

العهد الأوّل هو عهد الاتّضاع بغسل الأقدام:

ربّنا يسوع المسيح أخذ ماء وغسل أقدام تلاميذه. وكان هذا هو الدّرس الأخير. وأراد أن يجعله درسًا أخيرًا قبل الصّليب ليؤكّد على أهمّيّته، وليتذكّروه دائمًا. وهذا العهد كان من خلال الماء، بغسل الأرجل، والأرجل هي الّتي تحمل الإنسان، ومعروف أنّ القائد أو الكبير لا ينحني إلى الأقدام. لكن ربّنا يسوع المسيح أمام تلاميذه لا ينحني كقائد، وما صنعه قلب الموازين. لأنّه أراد أن يقدّم هذا الدّرس الهامّ جدًّا لحياة الإنسان لكي يقدر أن يصل لحياة الصّليب. وهو درس الاتّضاع.

ونحن في رحاب القدّيس العظيم مار مينا في ديره في مريوط وسير قدّيسين كثيرة في هذا الدّير عاشت وتعيش، ولكن المفتاح الّذي يؤدّي صليب السّيّد المسيح وحياة القداسة، يأتي من خلال الاتّضاع، فالاتّضاع هو حارس النّعمة الّتي يعطينا الله إيّاها. إن كنّا آباء رهبان أو آباء أساقفة، أو خدّام كيفما يكون وضعنا، هذه النّعمة لا يحرسها إلّا الاتّضاع.

وللأسف ليس له مكان معيّن تتخرّج منه، ممكن تتخرّج مهندس أو مدرّس أو محامي لكن وتكون هذه وظيفتي، أو ممكن أصبح راهبًا في أحد الأديرة. لكن الاتّضاع لا يناله الإنسان إلّا من خلال العهد.

أمّنا العذراء مريم قالتها في عبارة وجيزة، "أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ." (لو 1: 52).

وهذا العهد أعطانا إيّاه السّيّد المسيح من خلال الماء ليذكّرنا أنّ بداية حياتنا من خلال المعموديّة، معموديّة الماء والرّوح، وهذه هي الحياة الجديدة.

والتّوبة أيضًا تتمّ بالدّموع، والدّموع نوع نقيّ من الماء. التّوبة تعني أيضًا الحياة الجديدة. ويأتي غسل الأقدام لكي ما يكون هو العهد الجديد الّذي يأخذه الإنسان ويعيش به.

شئ مهمّ جدًّا أنّ الإنسان يذكّر نفسه بهذا العمل (عمل الاتّضاع). لدرجة أنّي أحيانًا أتأمّل وأقول إنّ الله سمح بهذا الوباء العالميّ الّذي يجتازه العالم كمحنة شديدة في مواضع وبلاد كثيرة وله ضحايا بالملايين. إنّ هذا الوباء الّذي هو فيروس صغير جاء لكي ما يخضع الإنسان ويعلّمه الاتّضاع، حتّى وإن كان هذا تعليمًا قاسيًا (لأنّه من خلال المرض وأعراضه) ولكنّي أقصد أنّه جاء ليواجه تشامخ وتكبر الإنسان، "قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ." (أم 16: 18).

ولكي يبني الإنسان عهد جديد مع الله يجب أن يتعهّد أمام الله أن يعيش بهذا الاتّضاع وهذه الوداعة. والسّيّد لما أرادنا أن نتعلّم منه، وهو كنز الفضائل، قال: "تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ." (مت ١١ : ٢٩). وأظن أنّ الحياة الرّهبانيّة في أديرتنا قامت على هذا الاتّضاع، فالميطانيّات الّتي نقدّمها وكلمة أخطأت سامحني أو حاللني الّتي نردّدها باستمرار وحياتنا ونسكيّاتنا الّتي نمارسها داخل أديرتنا هي وسائل قويّة لكي ما تعلّمنا الاتّضاع. إن غاب عنك الاتّضاع غابت قوّة الله. وإن غاب عنك الاتّضاع اعلم أنّك بعيد عن السّماء. والاتّضاع هو في هزيمة النّفس، هزيمة الذّات. لأنّ ذات الإنسان هي الّتي تتحكّم فيه كثيرًا. "واحد شايف نفسه إنّه أفضل، إنه أحسن، إن مفيش زيّه، معاند دماغه ناشفه، دايمًا مخالف"، هذه كلّها أشكال تعبّر عن عدم الاتّضاع. لذا لدينا فرصة في هذا اليوم أن يكون في قلبك وأنت واقف تصلّي أن تعد الله، الوعد الأوّل: وعد الاتّضاع. أيّ أكون إنسانًا متّضعًا في حياتي، في علاقاتي في كلامي، في أسلوبي، حتّى في صمتي.  

العهد الثّاني هو عهد الاتّحاد:

وعهد الاتّحاد هو الّذي أسّسه ربّنا يسوع المسيح من خلال سرّ الإفخارستيّا (سرّ التّناول) وانتبه إلى أنّ عهد الاتّحاد جاء من حبوب القمح المتناثرة الّتي طُحنت وصارت دقيقًا ثمّ دخلت النّار فتحوّلت إلى الخبز. وحبّات العنب المتناثرة عُصِرت ثمّ صارت كأسًا واحدًا.

والإتّحاد هنا يعني أنّ الإنسان يتحوّل من التّعدّديّة إلى الوحدانيّة. في أيّ مجتمع نعيش فيه نحن أفرادًا، لكن المهمّ أن يعيش الإنسان هذه الوحدانيّة في المجتمع الخاصّ به، ويفرح بها. وذلك في أيّ مجتمع، سواء مجتمع الدّير، أو الكنيسة، أو الخدمة، أو المجتمع المحلّيّ.

هذه الوحدانيّة لا تأتي إلّا بالنّار والعصر، أيّ أن يجتاز الإنسان الألم، ينسحق كما انسحق السّيّد المسيح تحت خشبة الصّليب. فقدّم لنا جسده ودمه لكيما نتّحد فيه. "مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ." (يو 6: 56).

إنتبه لئلّا يكون سلوكك في أيّ مجتمع هو سلوك "المخالف" للمجموعة، "المعترض" فتشذّ وتكسر هذا الاتّحاد.

اليوم هو يوم مهمّ جدًّا تأسّس فيه سرّ الإفخارستيّا، أيّ سرّ الشّكر، تأسّس من خلال السّيّد المسيح الّذي قال لنا هذا هو جسدي وهذا هو دمي.

عهد الاتّحاد أن تكون ضمن المجموع، لذلك هناك لمحة جميلة تقدّمها لنا الكنيسة وذلك يوم جمعة ختام الصّوم، في القنديل العامّ، نناله لكي تكون نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا صحيحة، ممتلئة صحّة، لندخل أسبوع الآلام بهذه الصّحّة الواحدة، فنصير كأوتار في قيثارة. الإتّحاد يجعل الإنسان دائمًا ناجحًا. ومن العبارات المشهورة هنا في البرّيّة: "على ابن الطّاعة تحلّ البركة" وأيضًا "المخالف حاله تالف". هذه ليست كلمات ولكنّها اختبارات للحياة الحقيقيّة. هذا هو عهد الاتّحاد، أيّ أن أقول أن أتّحد بك ولا يكون اتّحادي اتّحادًا شكليًّا، أو على سبيل العادة. وإنّما الاتّحاد يكون اتّحادًا حقيقيًّا فعليًّا.

فحينما قال لنا السّيّد المسيح "مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ." هذا تعبير قويّ على أنّك تثبت في المسيح وهو يثبت فيك.  

العهد الثّالث هو عهد الحبّ:

كلّنا نعلم أنّ السّيّد المسيح قام يوم خميس العهد بخمس أشياء هي: (أكل الفصح، وغسل الأقدام، وتأسيس سرّ الإفخارستيّا، وحديث العلّيّة، وأخيرًا الصّلاة الوداعيّة)، والصّلاة الوداعيّة أو الشّفاعيّة في البستان (المذكورة في يوحنا 17) تعتبر قوام عهد الحبّ الّذي يصنعه الإنسان مع الله، وسأضع أمامك بعض آيات منها تعلّمنا كيف يمتلئ الإنسان من هذا الحبّ:  

1- إسم المسيح لأنّ "اسم الرّبّ برج حصين..." في عدد 11 يقول "..." وفي التّقاليد الرّهبانيّة لدينا الصّلاة القصيرة أو صلاة يسوع "يا ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ" وتسمّى بـ"الصّلاة السّهميّة" لأنّها كالسّهم ورأسه الاسم الحسن ونقول في التّسبحة "اسمك حلو ومبارك في أفواه قدّيسيك" طالما تردّد اسم المسيح من قلبك تستطيع أن تقيم عهد الحبّ مع مسيحك، وطالما يخرج فمك الاسم الحلو المبارك لا يمكن أن يصدر كلمة خارجة بل تخرج الكلمات مصلحة بملح وحلوة.

2- الكلمة المقدّسة من خلال محبّتك للإنجيل وأن تعيش وتعيش وتغوص فيه، يقول في عدد 14 "أنا أعطيتهم كلامك" فكلّ كلمة هي ممنوحة لنا ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يعبّر عن الحبّ، ويكرّر المسيح كثيرًا ما نقرأه في فصول أسبوع البصخة وصبته بأن نحبّ بعضنا بعضًا، فالحبّ يأتي من خلال عمقك في الكلمة المقدّسة.

3- حياة القداسة، يقول في عدد 17 "قدّسهم..." أيّ أنّ حياة القداسة تساعدك أن تمتلئ حبًّا، والمحبّة الّتي تخرج منك تجعلك في حياة قداسة، نسمع المسيح كثيرًا يكرّر تعبير "الحقّ الحقّ أقول لكم" وهو تعبير عن أهمّيّة الحقّ والوضوح الّذي تظهر أهمّيّته في قوله أيضًا "قدّسهم..."، أيّ أنّك عندما تعيش في الوصيّة تعيش في القداسة وتفوح منك رائحة المسيح الزّكيّة.

4- الوحدة، كما تحدّثنا قبلاً عن عهد الوحدانيّة من خلال الإفخارستيّا، نجد المسيح في الصّلاة الوداعيّة عدد 21 يقول "ليكون..."، وأرجوك أن تقرأ هذه الصّلاة اليوم كثيرًا وتنتبه إلى بعض الكلمات مثل تعبيرات الوحدة، الّتي من خلالها تقيم عهد الحبّ وتحافظ عليه، وكما قال داود النّبيّ "أحبّك يا ربّ يا قوّتي..." (مز 18)، لم يقل قوّتي في سلاحي أو معرفتي أو منصبي، بل قوّتي في هذا الحبّ منك أنت يا من تمنحني القوّة.  

الخلاصة أيّها الأحبّاء في يوم خميس العهد، أنّه اليوم الّذي نستطيع فيه أن نقيم عهودًا ونتمسّك بها طوال العام لنجدّدها في العام التّالي، عهد الاتّضاع بغسل الأقدام، وعهد الاتّحاد من خلال سرّ الإفخارستيّا، وعهد الحبّ من خلال صلاة البستان (الصّلاة الوداعيّة).

يعطينا مسيحنا أن تكون عهودنا أمامه مختومة بخاتم الرّوح القدس، وتكون عهودًا نقدّمها له من قلوبنا. ونرجو أن يعطينا الله أن نعيش فيها ونتمتّع بها على الدّوام. اليوم يوم فرح حيث أنّه اليوم الأوّل الّذي نقدّم فيه الذّبيحة لأنّنا لا نقدّم ذبيحة في أيّام الاثنين والثّلاثاء والأربعاء من البصخة.  

لنا سعادة كبير أن نكون في هذا الدّير العامر، دير الشّهيد مار مينا بمريوط مع نيافة الأنبا كيرلّس آفا مينا ونيافة الأنبا أكليمندس وكلّ مجمع الآباء الرّهبان الأحبّاء الموجودين معنا. نصلّي أن يرفع الله هذا الوباء وهذه الجائحة، وأيضًا يجب أن نحترس كثيرًا ونراعي الإجراءات الاحترازيّة لأنّها خطّ الوقاية الأوّل أمام هذا الفيروس اللّعين، أخاطب كلّ من يشاهدوننا ويسمعوننا أن يلتزموا ولا يستهينوا بهذه الإجراءات، فهي رغم بساطتها (من غسل الأيدي وارتداء الكمامة والتّباعد الجسديّ والالتزام بالتّهوية الجيّدة والطّعام الصّحّيّ الغنيّ بالعناصر الغذائيّة لتقوية جهاز المناعة) لكنّها تحمي بصورة كبيرة جدًّا، فأرجوكم أن تلتزموا بالأعداد المحدودة في الكنائس، فالقدّاسات المقامة في الكنائس كثيرة وكلّها بنفس الفاعليّة، ويهمّنا أن نحافظ على صحّة الجميع.

ليحفظ الرّبّ ويبارك الجميع، ويتمّم لنا البصخة المقدّسة بسلام ويرينا فرح قيامته. له كلّ مجد وكرامة، من الآن وإلى الأبد. آمين."