تفاصيل زيارة البطريرك الرّاعي إلى أبرشيّة طرابلس المارونيّة
وكان في استقبال البطريرك الرّاعي كلّ من رئيس أساقفة طرابلس المطران جورج بو جودة المستقيل، المطران المنتخب رئيسًا لأساقفة طرابلس الجديد يوسف سويف، راعي أبرشيّة جبيل المارونيّة المطران ميشال عون، رئيس بلديّة طرابلس الدّكتور رياض يمق، وفعاليّات المدينة وأبنائها من المؤمنين إضافة إلى لفيف من كهنة الأبرشيّة.
إستهلّ البطريرك الرّاعي الزّيارة برفع الصّلاة داخل كنيسة المطرانيّة، ثمّ كتب على سجلّ المطرانيّة كلمات تخلّد الزّيارة ليلتقي بعدها عددًا من فعاليّات المدينة الّذين قدّموا الدّعم لعدد من المبادرات الإنسانيّة والاجتماعيّة الّتي قدّمتها المطرانيّة لأبنائها.
بعدها توجّه الجميع إلى كاتدرائيّة الملاك ميخائيل في منطقة الزّاهريّة الّتي شيّدت في العام 1858، حيث ترأّس قدّاسًا احتفاليًّا بمناسبة عيد شفيعها القدّيس ميخائيل، بمشاركة وحضور المطارنة جورج بو جوده، يوسف سويف، وميشال عون، راعي أبرشيّة طرابلس وتوابعها للرّوم الكاثوليك المطران إدوار ضاهر، والنّوّاب جان عبيد، نقولا نحّاس، علي درويش، رئيس حركة الاستقلال النّائب المستقيل ميشال معوّض، النّائب العامّ على الأبرشيّة الخوراسقف أنطوان مخايل، المونسنيور نبيه معوّض، والخوري جوزاف فرح، قائد اللّواء الثّاني عشر العميد الرّكن المغوار فادي بو حيدر، رئيس اللّجنة الأسقفيّة للحوار المسيحيّ الإسلاميّ المطران شارل مراد ممثّلاً بمنسّق اللّجنة الأسقفيّة للحوار في الشّمال جوزاف محفوض وعدد من الكهنة والرّاهبات والمؤمنين، رؤساء بلديّات ومخاتير إضافة إلى شخصيّات اقتصاديّة، اجتماعيّة، أمنيّة، وأبناء الرّعيّة.
إستهلّ القدّاس الّذي خدمته جوقة كنيسة مار مارون بقيادة نديم معوّض، بكلمة ترحيبيّة القاها الخوري جوزاف غبش، قال فيها: "بفرحٍ واعتزازٍ كبيرَين نرحّبُ بكم يا صاحبَ الغبطة، الأبَ والرّأسَ لكنيستِنا المارونيّة، في هذه المدينةِ العريقة، مدينةِ طرابلس. لقد جئتُم بزيارتكم، على الرّغم من هذه الظّروف الصّعبة الّتي تمرُّ بها البلاد، لتعزِّزوا، كما في كلّ خطواتِكم الجريئة، روحَ الشّركةِ والمحبّة الّتي ما كللتُم يومًا من الدّعوة إلى عيشها.
اليوم تطأُ قدماكُم أرضَ طرابلس، وتحلّون في كاتدرائيّة مار ميخائيل، لتُضفوا على العيد الّذي تنكّسُه شدائدُ الحالة العصيبة، أنوارَ الرّجاء؛ فأنتم صوتُ الحقيقة في زمنٍ ضاعت فيه القيم وانحدرَ نحو الضّلال.
صاحبَ الغبطة، يا من أُعطيَ له مجدُ لبنان، أنتم الرّاعي الصّالح والأبُ الجامع، والمدبّرُ الحكيم. كلُّ عيوننا شاخصة إليكم، أنتم الرّبّانُ الحكيم، لسفينةِ الكنيسة والوطن، في خضمّ الأزمات والرّياح الّتي تعصف بنا من كلِّ حدبٍ وصوب. فنحن نعوّلُ على حكمتكم لتقودوا الوطن إلى ميناء السّلام والأمان والازدهار.
فباسم صاحبَي السّيادة والآباء الأجلّاء وأبناء الأبرشيّة، نتطلّع بثقةٍ وأملٍ إلى مواقفكم الجريئة وإلى النّهجِ الّذي أطلقتُموه، الحيادِ النّاشط، عسى أن ينهضَ لبنانُ من كبوتِه ويستعيدَ عافيتَه وحياتَه.
إنّنا نرفعُ صلواتِنا إلى الله، لكي يغدقَ عليكُم نعمَه الغزيرة، ويحميَكم من كلّ أذى، فتظلّوا الصّوتَ النّبويَّ الصّارخ في برّيّة هذا العالم. وشكرًا."
بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظة قال فيها: "تحتفل الكنيسة اليوم بعيدين ليتورجيّين هما: تجديد البيعة، وعيد الملاك ميخائيل شفيع هذه الكاتدرائيّة. ونقيم احتفالًا كنسيًّا ومدنيًّا بتدشين شوارع مطارنة لهم آثارهم في خدمة الأبرشيّة ومدينة طرابلس العزيزة وهم أنطون عبد وأنطون جبير وجبرايل طوبيا ويوحنّا- فؤاد الحاج. إنّها مبادرة حميدة من سيادة المطران جورج بو جوده ورؤساء بلديّة طرابلس المتعاقبين، وصولاً إلى رئيسها الحاليّ الدّكتور رياض يمق. لأنّها تذكّر بالتّاريخ الطّويل الّذي عاشه الموارنة مع المسلمين فيها، وبنوا معًا عيشًا مشتركًا على أساس من التّعاون والتّضامن في إنمائها الاجتماعيّ والاقتصاديّ والتّربويّ، وفي شدّ أواصر الوحدة الوطنيّة فيها. وقد ردّد الطّرابلسيّون الأحبّاء: "الحارة من دون نصارى خسارة". فتحيّة محبّة لعائلات طرابلس العزيزة، ولشخصيّاتها المدنيّة والسّياسيّة والدّينيّة، ولتراثها العريق. فمن هنا نتوجّه إلى الدّولة اللّبنانيّة، وبين مسؤوليها كبار من هذه المدينة، أن تخصّها وشعبها بعناية إنمائيّة فائقة كي تستعيد دورها "كمدينة الفقير"، بدلًا من أن تكون، كما أصبحت اليوم "مدينة الفقراء".
يسرّني أن أحيي معكم هذه المناسبات، وأن أقدّم لكم التّهاني بعيد الملاك ميخائيل، المكرّم في هذه الكاتدرائيّة والمدينة. إنّه رئيس الملائكة وخصم الشّيطان، كما جاء على لسان النّبيّ دانيال (10: 13)، وفي رسالة يهوذا الرّسول (آية 9). ومعروف أنّه "المحامي عن شعب الله". يروي يوحنّا الرّسول في رؤياه أنْ "حدثت حربٌ في السّماء، ميكائيل وملائكته حاربوا التّنّين، وحاربَ التّنّينُ وملائكتُه، فلم يقوَ عليهم، ولا بقي لهم مكان في السّماء، فأُلقيَ التّنّينُ الكبير، الحيّةُ القديمة ذاك الّذي يُقال له إبليس والشّيطان" (رؤيا 12: 7-9). إنّ إسم ميكائيل يعني "من مثل الله؟" فإليه كمحامٍ عن شعب الله المؤمن والنّاصر لله نصلّي اليوم كي يحرس الملاك ميخائيل الأبرشيّة وطرابلس العزيزتين، ويَنصُر لبنان.
في هذه المناسبة الجميلة تشكر الأبرشيّة راعيها سيادة أخينا المطران جورج الّذي خدمها بتفانٍ مدّة خمس عشرة سنة، وترحّب براعيها الجديد سيادة أخينا المطران يوسف سويف الّذي هو إبنها، يحبّها وتحبّه. نصلّي على نيّة هذين الحبرين ملتمسين من الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، والقدّيس ميخائيل، رئيس الملائكة، أن يحقّق أمنياتهما في رسالتيهما الجديدتين.
كلّ هذه الاحتفالات تندرج في إطار التّجدّد الّذي تنطبق عليه كلمة الإنجيل: "حان عيد التّجديد في أورشليم" (يو 10: 22). إنّه اليوم عيد الدّعوة للتّجديد في حياتنا الشّخصيّة، وفي مؤسّساتنا. وكم نتوق أن يتحقّق في دولتنا بوجوه مسؤولين جددٍ فيها، وبنهجها وبمؤسّساتها الدّستوريّة كافّة. فالمسيح الرّبّ أتى "ليجعل كلَّ شيء جديدًا" (رؤيا 21: 5). أجل، لقد "حان عيد التّجديد" (يو 10: 22). ويسعدني أن أقدّم معكم ومع جالياتنا في مختلف الولايات المتّحدة التّهاني مع أطيب الدّعاء للرّئيس المنتخب السّيّد جو بايدن، راجين له النّجاح في خدمة أميركا والسّلام في العالم وحقوق الشّعوب.
في كلام الرّبّ يسوع في سياق جدال اليهود معه، كما سمعنا في الإنجيل، يكشف لنا ربّنا حقيقتين أساسيّتين يرتكز عليهما إيماننا وكلّ تجدّد. الأولى إعلانه أنّه المسيح، المرسل من الآب، ويعمل أعمال الآب. يسمّي المؤمنين به خرافه، وهو راعيها الصّالح. هم يسمعون صوته ويتبعونه، وهو يعرفهم ويحميهم من الذّئاب الخاطفة. الثّانية إعلانه أنّه إبن الله، المساوي للآب، وهو معه واحد. إلى وحدة الشّركة بين الآب والإبن يدعونا ربّنا لندخل بالإيمان والصّلاة، ونعيشها فيما بيننا وفي المجتمع، ونعمل على شدّ أواصرها، واضعين حدًّا للنّزاعات والخلافات والعداوات.
عندما يتجدّد الأشخاص تتجدّد المؤسّسات والمجتمعات. فالتّجدّد هو إصلاح العيوب الّتي شوّهت وجه الإنسان والكنيسة والمجتمع والوطن مع مرور الزّمن. فلا بدّ من العودة إلى الهويّة الأساسيّة، إلى نقطة الانطلاق، ومقابلتها مع الحاضر. وهذا أمرٌ ضروريّ، لأنّنا كلنّا بشر وعرضة للسّقوط. التّجدّد يوجب عدم ترك الأمور كما كانت. في الكنيسة، هذا التّجدّد يجب أن يطال الأشخاص والمؤسّسات التّربويّة مدارس وجامعات، والهيكليّات الرّاعويّة كالأبرشيّة والرّعيّة، والحركات والمنظّمّات الرّسوليّة. فيصبح الجميع أكثر إشعاعًا وانفتاحًا.
لكنّ التّجدّد لا يقتصر على الكنيسة فقط، بل يشمل الدّولة أيضًا، بمواطنيها ومسؤوليها وهيكليّاتها ومؤسّساتها، لكي يتأمّن فيها الخير العامّ، والسّلام الاجتماعيّ، وبناء شعب تسوده الوحدة والوفاق والتّضامن. لا نعني بالسّلام الاجتماعيّ غياب العنف، بل بناءه يومًا بعد يوم على أساسٍ من العدالة الأكمل بين المواطنين، كما نعني الإنماء الشّامل والمتوازن بين مختلف مناطق البلاد (راجع فرح الإنجيل 218- 219).
ما يؤسف له حقًّا، عندنا في لبنان، أنّ الجماعة السّياسيّة تحارب التّجدّد في إدائها وممارساتها، وتحارب الإصلاح المُطالب به دوليًّا في الهيكليّات والقطاعات. كنّا ننتظر، مع الشّعب الجائع والمنكوب والمتروك جريحًا على قارعة الطّريق، حكومة اختصاص على قياس التّحدّيات المصيريّة. فنسمع بتشكيل حكومة محاصصة، بدلاً من حكومة تعتمد المداورة الشّاملة في الحقائب الوزاريّة من دون استثناءات، وعلى أساس من الاختصاص والكفاءة (راجع المادّة 95/ب من الدّستور). فمن غير المقبول على الإطلاق أن يسيطر على الحكومة فريقٌ، ويقرّر شكلها فريقٌ، ويختار حقائبها فريقٌ، ويعيّن أسماء وزرائها فريقٌ، فيما الآخرون مهمّشون كأنّهم أعداد إضافيّة. كفّوا أيّها السّياسيّون النّافذون عن انتهاك الدّستور والميثاق ووثيقة الوفاق الوطنيّ. ما بالكم ترفعون لواء المبادرة الفرنسيّة، وتعملون بعكسها؟ أسّسوا لسلام جديد، لا لثورة جديدة! أسّسوا لوطن الدّولة الواحدة، لا لوطن الدّويلات!
كنّا ننتظر من الوزارات المعنيّة وبلديّة بيروت أن تهبّ لمساعدة منكوبي انفجار المرفأ وأهالي الضّحايا وأصحاب المنازل المتهدّمة، فإذا بها في غياب شامل وإهمال كأنّهما مقصودان، فيكونا جريمة ثانية إلى جانب جريمة الانفجار.
إنّنا ننتظر تحقيقًا عدليًّا يشمل الوزراء المعنيّين المتعاقبين والمسؤولين الإداريّين والموظّفين، منذ إدخال كمّيّة الـ2755 طنًّا من نترات الأمونيوم المحظورة مثل الأسلحة إلى المرفأ وإيداعها في العنبر رقم 12 مع كمّيّات كبيرة من المواد السّريعة الاحتراق، من دون أن يُجهّز هذا العنبر بأيّ آليّة إطفاء، فيا لجرم الإهمال وعدم الاكتراث! إليك أيّها الرّئيس فادي صوّان، المحقّق العدليّ تتّجه جميع الأنظار، وبخاصّة أنظار أهالي الضّحايا والمنكوبين والمعوّقين، وأنظار الكنيسة والمجتمع بعد أكثر من ثلاثة أشهر سادها صمت مطبق يثير القلق. إنّها ساعة القضاء النّزيه والشّجاع: فإمّا يستعيد الثّقة به، وإمّا يفقدها بالكلّيّة. لا أحد فوق القضاء سوى الله. قال أحد قضاتنا اللّبنانيّين: "يخسر القاضي نصف قوّته، عندما يخاف من الأقوياء؛ ويخسر النّصف الثّاني عندما يظلم الضّعفاء!".
إنّ أهالي ضحايا فوج إطفاء بيروت العشرة، ينتظرون إنصافهم وعزاءهم بإعلان أبنائهم "شهداء الواجب"، ومعاملتهم والتّعويض عنهم مثل شهداء الجيش وعائلاتهم. وهي الآن ساعة إنصاف رجال الإطفاء المعرّضين حياتهم دائمًا للخطر.
وفي المناسبة، لا بدّ من توجيه تحيّة شكر وتقدير لنقابة محامي بيروت ولفريق المحامين الّذين يتولّون مجّانًا متابعة ملفّات المتضرّرين وقد بلغت 1333 ملفّ ادّعاء. إنّها صورة جميلة عن القضاء والمحاماة.
نحن والشّعب نريد حقًّا عدالة تكشف الفساد والمفسدين، ولكن نريدها عدالة شاملة لا انتقائيّة؛ عادلة لا ظالمة؛ حقيقيّة لا كيديّة؛ قانونيّة لا سياسيّة. لذا نطالب أن يشمل التّحقيق في آن كلّ المؤسّسات المعنيّة بأموال الدّولة والمواطنين: من مصرف لبنان إلى وزارات الماليّة والطّاقة والأشغال العامّة والدّاخليّة والاتّصالات والبيئة وسواها، ومن مجلس الإنماء والإعمار إلى مجالس المناطق ومجالس إدارات المصالح المستقلّة، وصولاً إلى جمعيّات مختلفةِ الهويّات الّتي تلقّت أموالًا وبدّدتها.
وفي كلّ ذلك، يجب تجنّب العبث بمصير المؤسّسات الوطنيّة، أكانت عسكريّة أم أمنيّة أم قضائيّة أم ماليّة، الّتي هي في أساس منعة لبنان. فإنّ محاكمة المسؤولين فيها لا تعني إدانتها كمؤسّسة عامّة بحدّ ذاتها.
إلى الله العادل والرّحوم نرفع صلاتنا، بشفاعة أمّنا مريم العذراء ومار ميخائيل رئيس الملائكة، كي ينتصر الحقّ على الباطل، والعدل على الظّلم، والرّحمة على تحجّر القلوب. ونرفع نشيد المجد والتّسبيح، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."
في ختام القدّاس، توجّه البطريرك والوفد المرافق إلى الشّارع الملاصق للكاتدرائيّة، وأزاح السّتارة عن لوحة تحمل اسم المطران جبرائيل طوبيا عند مدخل الشّارع ليصبح شارع المطران طوبيا وذلك بمشاركة رئيس بلديّة طرابلس رياض يمق.
وتمثّلت المحطّة الثّانية من زيارة البطريرك الرّاعي إلى طرابلس بلقائه في قاعة كنيسة مار مارون مع فعاليّات وشخصيّات سياسيّة واجتماعيّة من بينهم: النّائب جان عبيد ممثّلاً كتلة "الوسط المستقلّ"، سمير الجسر، علي درويش، نقولا نحّاس، المحامي سامي رضا ممثّلاً النّائب محمّد عبد اللّطيف كبّاره، عزيز ذوق ممثّلاً النّائب المستقيل سامي الجميّل، النّائب المستقيل ميشال معوّض، والنّوّاب السّابقون مصباح الاحدب، مصطفى علّوش، محمّد الصّفدي، الوزيران السّابقان رشيد درباس وأشرف ريفي، رئيس بلديّة طرابلس الدّكتور رياض يمق، العميد أحمد عدره ممثّلاً رئيس فرع مخابرات الجيش، رئيس مفرزة استقصاء الشّمال الرّائد بطرس سيده، وفعاليّات المدينة.
وكانت كلمة للمونسنيور نبيه معوّض قال فيها: "لن أطيل الكلام لضيق الوقت، ولأنّنا أو مهما قلنا فيكم يا صاحب الغبطة لن نوفيكم حقّكم لما تبذلونه إن كان على صعيد الوطن وخصوصًا في هذه الظّروف الصعبة الّتي يمرّ فيها، فكانت مبادرتكم الفريدة "الحياد الإيجابيّ، هذه المبادرة الّتي لاقت ترحيبًا لافتًا من شريحة واسعة من اللّبنانيّين لما تنطوي على إيجابيّات لا قيامة للبنان بدونها، وثانيًا على صعيد قيادتكم الحكيمة لكنيستنا المارونيّة" ".
أضاف معوّض: "صاحب الغبطة إنّ رعيّة مار مارون مغتبطة بزيارتكم لها للمرّة الثّانية، وقد تزامن ذلك مع انتخاب راع جديد لأبرشيّة طرابلس المارونيّة وهو صاحب السّيادة المطران يوسف سويف، وهي اليوم ترحّب به بفرح متمنّية له مسيرة نموّ وإثمار في حقل الرّبّ".
ثمّ ألقى رئيس بلديّة طرابلس الدّكتور رياض يمق كلمة ترحيبيّة قال فيها: "باسم فاعليّات طرابلس وأهلها نرحّب بغبطة البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي في مدينته طرابلس. إنّه فخر لمدينة طرابلس أن تزوروها للتّذكير بأنّها مدرسة العيش المشترك والكنائس والمساجد رغم كلّ ما يحاك ضدّها من مؤامرات".
وتابع: "إنّها مدينة العلم والعلماء والكنائس منذ أكثر من 700 سنة وعائلاتها الطّرابلسيّة تشهد على ذلك. ونحن نقول اليوم للسّياسيّين اللّبنانيّين أنّ لبنان بحاجة للسّلام والعيش المشترك وليس التّناحر، وأكبر رهان زيارة غبطتكم الحبيبة اليوم للمدينة".
بدوره القى المطران بو جوده كلمة جاء فيها: "يطيب لي أن أرحّب بكم أجمل ترحيب في هذا اليوم المميّز من حياة مدينتنا الفيحاء، اليوم الّذي نزيل فيه السّتارة عن عدد من الشّوارع الّتي تكرّمت بلديّة طرابلس مشكورة بتسميتها على أسماء المطارنة أنطون عبد وأنطون جبير وجبرائيل طوبيّا ويوحنّا فؤاد الحاج، تقديرًا منها لكلّ الخدمات الّتي قاموا بها على جميع الأصعدة، الوطنيّة، السّياسيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة والتّربويّة.
لقد عرفت هذه المدينة بكونها مدينة العلم والعلماء وأعطت لبنان أشخاصًا عديدين تميّزوا بخدماتهم وكتاباتهم وأعمالهم الثّقافيّة والتّربويّة، في مدارس ومعاهد من مختلف الطّوائف والمذاهب والّتي بمجملها كانت تضمّ العديد من الطّلّاب الّذين يعرفون رفاقهم ويحبّونهم ولا يسألون عن دينهم لأنّهم يعتبرون أنّ الدّين للشّخص والوطن للجميع."
أضاف: "يتمّ لقاؤنا اليوم في هذه السّنة الّتي يحتفل فيها لبنان بمئويّة تأسيسه في العام 1920 بسعي من كلّ القيادات من كلّ الطّوائف، بقيادة من يمكن أن نسمّيه أبًا لبنان، البطريرك المكرّم إلياس الحويّك بالتّعاون والتّضامن مع أصحاب السّماحة والفضيلة ومن بينهم العديد من أبناء طرابلس كالشّيخ محمّد الجسر والشّيخ عبد الحميد كرامي وغيرهم".
وأشار بو جودة إلى أنّ "ما يميّز طرابلس بصورة خاصّة يا صاحب الغبطة والنّيافة، ويا أيّها الأحبّاء هو أغنية يردّدها الكثيرون اليوم للتّعبير عن انتمائهم العضويّ إليها والّتي كتبها الشّاعر المسيحيّ نزار فرنسيس وينشدها المطرب المسلم عاصي الحلّاني، والّتي تقول:
غطّي الشّمس بفي جبينك، بيحقّلك وطنك دينك
لو هالدنّيي سألت مينك قلّن إنّك لبنانيّ
بطل السّلم وبطل الحرب، همزة وصل الشّرق بالغرب
تتضلّ تحبّ وتنحب بيكفي إنّك لبنانيّ...
كلام يعبّر بمعناه العميق عن روحانيّة البطريرك الياس الحويّك الّذي كان يقول: طائفتي هي لبنان.
وهذا الكلام كرّره الأساقفة الّذين توالوا على خدمة هذه المدينة وأوّلهم المطران أنطون عريضة (البطريرك فيما بعد)، الّذي ما زال الجميع يذكرون أنّه رَهَنَ صليبه الذّهبيّ ليشتري القمح للمواطنين ويؤمّن لهم ضروريّات الحياة، والّذي نقل كرسيّ المطرانيّة من كرمسده إلى طرابلس لكي يفسح في المجال للمسيحيّين أن يعيشوا متآخين مع إخوانهم المسلمين ولا يبقوا غرباء عن بعضهم البعض.
أمّا المطران أنطون عبد فما زال الجميع يذكرونه بشخصيّته الفذّة والقويّة والّذي كان يتعاطى بروح التّفاني والأخوّة مع القيادات السّياسيّة وبصورة خاصّة مع المغفور له الرّئيس رشيد كرامي الّذي حالما كان يصل من بيروت يأتي إلى المطرانيّة ليحيّي بذلك الحبر الجليل.
وقد خلفه على الكرسيّ الأُسقفيّ المطران أنطون جبير الّذي أبعدته الأحداث لفترة من الزّمن عن طرابلس لكنّه كان يحملها في قلبه خاصّة وأنّه قد ولد فيها في قبّة النّصر وخدم رعيّتها فترة طويلة قبل أن يسافر إلى البرازيل ثمّ يعود إليها أسقفًا يعرف أهلها لكونهم أبناء البلدة الواحدة".
وتابع بو جودة: "لم تدم حبريّة المطران جبرائيل طوبيّا إلّا حوالى الأربع سنوات، لكنّه خدم رعيّة مار ميخائيل، الكاتدرائيّة وكرسيّ المطران، سنوات طويلة عمل فيها على تنشئة الشّبيبة ومرافقتها في مختلف الحركات الرّوحيّة والرّسوليّة، والّذي كان يعرف الجميع بأسمائهم ويشركهم في نشاطاته والمخيّمات الرّسوليّة الّتي كان ينظّمها، والّتي كانت تعتبر مثالاً لما علّمه المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني عن ضرورة إشراك العلمانيّين في كلّ نشاطات الكنيسة. لم يكن يحسب حسابًا للتّعب ولا للمسافات الطّويلة، مع أنّه لم يكن يملك سيّارة، بل يجوب الأبرشيّة من أقصاها إلى أقصاها لينظّم الأخويّات والحركات الرّسوليّة المريميّة بالتّعاون مع عدد من الكهنة الأجلّاء الّذين أسّس معهم مجلّة نور وحياة كي تصبح وسيلة للتّربية والتّنشئة الدّائمة.
وأخيرًا المطران يوحنّا فؤاد الحاج، الّذي تابع دراسته اللّاهوتيّة والقانونيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة والّذي بعد عودته إلى لبنان أصبح رئيسًا عالميًّا لمؤسّسة كاريتاس، فأعطاها زخمًا كبيرًا كي تستطيع القيام بروح المحبّة لا تحسب حسابًا لمساعدة الفقراء والبائسين والمعدمين.
هؤلاء هم الّذين نكرّم ذكرهم اليوم بإزاحة السّتارة عن الشّوارع الّتي تحمل أسماءهم، إقرارًا من المدينة والمسؤولين فيها، نوّابًا ورؤساء بلديّات ومخاتير طالبين من الرّبّ مكافأتهم خيرًا على كلّ ما قاموا به، شاكرين رؤساء البلديّات الّذين توالوا على خدمة هذه المدينة وجوارها ولبّوا بكلّ طيبة خاطر طلبنا الّذي دعمه سماحة المفتي مالك الشّعّار وخلفه المفتي محمّد إمام الّذي يتابع هذه الرّسالة.
وإسمحوا لي هنا، بعد توجيه الشّكر لله على نعمه وعطاياه، أن أشكر إضافة إلى الفاعليّات السّياسيّة جميع الحركات العاملة في الحقل الرّوحيّ والاجتماعيّ".
بدوره أكّد اللّواء أشرف ريفي من أمام الكنيسة أنّ "زيارة الرّاعي عزيزة على قلب أبناء المدينة"، وقال: "نحن نؤكّد دائمًا على ضرورة استمرار العيش المشترك في طرابلس وفي كلّ لبنان، ونؤيّد كلّ المبادرات الوطنيّة الّتي يطلقها صاحب الغبطة ونجدّد ترحيبنا به وبالوفد المرافق في مدينته طرابلس".
ثمّ ردّ البطريرك الرّاعي بكلمة قال فيها: "أنا سعيد جدًّا لوجودي بينكم اليوم في طرابلس ومحبّتكم اليوم تجاوزت كلّ التّحدّيات، طرابلس العيش المشترك وأنا أحيّي هذا العيش معًا، لأنّ النّاس بحاجة إليه في ظلّ ما يحكى اليوم عن صراع الأديان والحضارات. وعندما نتحدّث عن العيش المشترك نكون أمام عائلة غنيّة بالمحبّة والتّلاقي."
وتابع: "طرابلس مدينة مفتوحة ومتجذّرة في العيش المشترك، ويؤسفنا أن تصبح هذه المدينة مدينة الفقراء، ونطالب الدّولة اللّبنانيّة بإنصافها، ونطلب من الرّبّ أن يباركها ويبارك فاعليّاتها لأنّ تاريخ طرابلس هامّ ومهمّ وتستحقّ الإنصاف، وهذا الأمر يوجب علينا أن نربّي أجيالنا على الثّقافة اللّبنانيّة والقيمة الحقيقيّة، لأنّ لبنان أكبر من وطن هو رسالة. ونأمل أن نخرج من الأزمة الّتي طالت كلّ الصّعد وبات فيها الإنسان يبحث عن لقمة عيشه".
وشكر البطريرك الرّاعي الرّؤساء الّذين تعاقبوا على بلديّة طرابلس وخصّ بالشّكر الدّكتور يمق الرّئيس الحاليّ على كلّ الجهود الّتي بذلها في سبيل إنجاح هذه الزًيارة، خصوصًا ما يتعلّق بتدشين الشّوارع بأسماء المطارنة الأربعة.
وشكر الرّاعي الجميع على "الحضور والمشاركة على الرّغم من الظّروف الصّعبة منوّهًا بنموذج العيش المشترك الّذي تطبّقه طرابلس والّذي تمثّل بتعاون البلديّة التّامّ وتشجيعها تطبيق مبادرة إطلاق أسماء أربعة مطارنة موارنة خدموا طرابلس على أربعة أحياء فيها."
وإختتم البطريرك متمنّيًا أن "يدرك السّياسيّون أهمّيّة هذا الوطن وأن تحلّ الأزمة الحكوميّة المسبّبة لأزمات كثيرة في القطاعات كافّة".
ثمّ توجّه الجميع لإزاحة السّتارة عن شارعي المطرانين يوحنّا فؤاد الحاج وأنطون عبد.
من هناك توجّه الموكب إلى كنيسة مار مخايل في منطقة القبّة، وتحدّث الخوري طوني بو نعمه فقال: "رغم صعوبة طرقاتنا، وقلّة عددنا، مع ذلك أبيتم يا صاحب الغبطة إلّا أن تتحفونا بهذه الزّيارة المباركة، وخصوصًا في هذا اليوم الّذي نحتفل فيه بعيد الملاك ميخائيل رئيس الملائكة وشفيع هذه الرّعيّة المباركة، لأنّكم الأب الحنون والرّاعي الغيور والمدبّر الحكيم. فعلى مثال سيّدنا يسوع المسيح الحمل الوديع والرّاعي النّبيل الّذي بموته وقيامته خلّص البشريّة جمعاء فكان طوال حياته على الأرض تارّة يزور المدن فيستقبله كبارها استقبال الملوك، وتارّة أخرى يزور القرى يحمل إلى سكّانها بشارة الخلاص والملكوت. فعلى مثاله شرّفتمونا اليوم يا صاحب الغبطة إلى قبّة النّصر في طرابلس كي تزيحوا السّتارة عن شارع بإسم المثلّث الرّحمة المطران أنطون جبير الّذي خدم هذه الرّعيّة وهذه الأبرشيّة بمحبّة وإخلاص، وذلك بمسعى من سيّدنا راعي الأبرشيّة المطران جورج بو جوده، الّذي أبى إلّا أن تكون هذه الشّوارع تحمل أسماء الأساقفة وليس فقط مكتوب عليها اسم "شارع المطران" ولا ندري أيّ مطران".
ثمّ أزيحت السّتارة عن شارع يحمل اسم المثلّث الرّحمة المطران أنطون جبير.
وظهرًا التقى البطريرك الرّاعي كهنة الأبرشيّة حول مائدة الغداء الّتي أقيمت على شرفه في دير مار يعقوب في كرم سدّه، في حضور المطارنة جورج بو جودة، يوسف سويف، منير خيرالله وراعي أبرشيّة طرابلس والكورة للرّوم الكاثوليك إدوار ضاهر ولفيف من الكهنة والإكليريكيّين.
وألقى النّائب العامّ الخوراسقف أنطوان مخايل كلمة قال فيها: "إنّ هذا المكان يذخر بذكرى رجالات كنيسة ووطن تفانوا في خدمة القطيع: من المطران بولس موسى الّذي كان أوّل من أعاد بناء الدّير، وسكن فيه، مرورًا بالمطران إسطفان عوّاد، وأنطون عريضة (البطريرك) القدّيس، وأنطون عبد، وأنطون جبير، وجبرايل طوبيّا، ويوحنّا فؤاد الحاج، وصولاً إلى المطران جورج بو جودة. كما وتشهد ممّرات هذا الدّير المبارك وحناياه على مرور سلسلة طويلة من الكهنة القدّيسين، تاركين فيه بصمات لا تمحى".
أضاف: "لقد أردتم، يا صاحب الغبطة، أن تدشّنوا في زيارتكم الكريمة هذه "متحف المطران جورج بو جودة الأبرشيّ" في كرسيّ مار يعقوب، والّذي شاء سيادته أن يتوّج به- مع مشروع "بيت الفتاة" في كفرفو- خدمته الأسقفيّة، تاركًا للأجيال القادمة مكانًا يحتضن ذاكرة الأبرشيّة الدّينيّة والوطنيّة، ويحافظ على إرث الآباء والأجداد، عابقًا ببخور الماضي المقدّس، وناقلاً صدى السّنين المباركة. إنّ حضوركم الأبويّ بيننا اليوم لخير دليل على محبّتكم لهذه الأبرشيّة. نصلّي إلى الرّبّ، بشفاعة الملاك ميخائيل، صاحب العيد، أن يمنحكم أيّامًا مجيدة، لتبقوا العين السّاهرة على رعاية قطيع المسيح الصّغير، الّذي أوكله الله لكم. أدامكم الله وأبقاكم ذخرًا للكنيسة والوطن".
بعدها التقى الرّاعي في صالون الدّير النّائبان إسطفان الدّويهي وجوزاف إسحاق، النّائب السّابق جواد بولس، رئيس اتّحاد بلديّات قضاء زغرتا زعني خير، رئيسي بلديتي كفرفو إيلي مناسا وكرم سدّه سليم ساسين ورئيس فرع مخابرات الجيش في زغرتا العقيد الرّكن طوني أنطون وعدد من راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات وكهنة وعلمانيّين.
وألقى المهندس روجيه مخوّل كلمة قال فيها: "لقد بنيت وحميت وجعلت للضّالّ مذبحًا، وللمؤمنين كنيسة، ولليتيم ملجأ، وللمسنّين راحة، وللعائلة وللمرأة وللطّفل وللشّباب كيانًا، وها انت اليوم تجعل للتّاريخ وللتّراث ملجأ. لقد كان همّك حماية تراث أبرشيّتنا الغنيّ بمقتنياته وأمجاده، ورغم كلّ العوائق المادّيّة والسّياسيّة، ورغم جائحة الأوبئة، ورغم كلّ الظّلام المستفحل والمطبق على صدورنا، ها أنتم اليوم تضيؤون شمعة في سواد هذا اللّيل الدّاكن. فليدوّن تاريخنا اليوم، ولنهلّل فرحًا بحضور راعينا صاحب الغبطة والنّيافة، ولنتصفّح معًا صفحات انطوت وأزهرت، علّنا نستخلص عبرة، علّنا نبني المستقبل، ولنبشّر".
من ثمّ كانت كلمة للمطران بو جودة عرض فيها لأبرز المراحل الّتي رافقت عمليّة إنشاء متحف في الإكليريركيّة تعرض فيه مخطوطات وبدلات قدّاس ومستلزمات استعملها البطريرك عريضة وغيره من المطارنة الموارنة عبر التّاريخ، وقال: "في أيلول سنة 1977 عيّنت رئيسًا لدير مار يوسف للآباء اللّعازاريّين في مجدليا، وكان مهدّمًا أثناء حرب السّنتين، فاستأجرت شقّة في مجدليّا للإقامة فيها مع الكهنة الّذين كانوا معي، وتفرّغنا للعمل الرّسوليّ والتّبشيريّ في مختلف رعايا أبرشيّة طرابلس وزغرتا ومنطقة الجبّة على عادة جمعيّتنا الّتي تحمل رسميًّا إسم "جمعيّة الرّسالة"، والّتي كان الأساقفة يكلّفونها القيام بهذه المهمّة، فيمضون في الرّعايا فترة طويلة من الزّمن يرافقهم شخص يهتمّ بتأمين الطّعام لهم، في ختام الرّسالة كانوا يؤدّون الحساب لمطران الأبرشيّة عن نتيجة عملهم، فيطلب منهم أسماء الّذين لم ينقّوا ضميرهم ويعترفوا بخطاياهم. مع تطوّر الحياة ووسائل التّواصل، أصبح بالإمكان التّنقّل بالسّيّارات إلى القرى والرّعايا والعودة إلى الدّير، توفيرًا على الأهالي، ولأنّ معظم الرّعايا كانت تفرغ تقريبًا من السّكّان أثناء النّهار. وكان يرافقنا في العمل الرّسوليّ والتّبشيريّ عدد من الشّبّان والصّبايا الجامعيّين للاهتمام بالأولاد والشّبيبة وتنظيم اللقّاءات لهم".
أضاف بو جوده: "من الأمور الّتي لاحظناها، هو أنّه في معظم الرّعايا كتب ومخطوطات قديمة وقيّمة، وكاسات القدّاس والمباخر وغيرها من الأمور الّتي تستعمل في الاحتفالات اللّيتورجيّة، موضوعة جانبًا، غير مستعملة، كالغفّارات وبدلات القدّاس المرصّعة بخيطان ذهبيّة وغيرها. لقد وضعت جانبًا لأنّ الميل إلى التّجديد أصبح عاديًّا وصار بإمكان الرّعايا تأمين الكاسات الجديدة إمّا بالحصول عليها من المغتربين وإمّا من المحلّات التّجاريّة الّتي تخصّصت ببيع الأدوات اللّيتورجيّة. المؤسف في الأمر هو أنّ عددًا من المسؤولين في الأوقاف لم يعرفوا قيمة تلك الكتب المخطوطة بالسّريانيّة والملابس البيعيّة، فتتعرّض للإتلاف. وقد رأيت في إحدى الرّعايا كتاب الحاش يسند عليه وكيل الوقف السّلّم ليصعد إلى التّتخيتة، فتتشلّع أوراقه، ثمّ يرمى أو يحرق. كنت ألفت الانتباه إلى ذلك، وأحذّر المسؤولين من خطورة ذلك، وأدعوهم ليحافظوا على كلّ هذه الأمور في الخزانات، حفاظًا على قيمتها الأثريّة، فيقبل البعض بذلك، ولا يكترث البعض الآخر بها".
وتابع: "وهكذا ولدت عندي فكرة في أن أسعى، بعد أن تسلمت مقاليد الأبرشيّة، الى إنشاء متحف، ولو صغير، توضع فيه كلّ هذه الأمور. كما اهتممت بتكريس قسم من بناء الدّير هنا في الدّار الأولى للمطرانيّة لترتيب الأرشيف الّتي كان يهتمّ بها من أسمّيه الكومبيوتر الحيّ الخوري فريد حبقوق، لأنّ المكان الّذي كانت توضع فيه الكتب والمخطوطات كان ضيّقًا فتكدّس فوق بعضها البعض ويأكلها العثّ والفئران. الأرشيف تنظّمت وهي الآن في طور المكننة وهي بحاجة ماسّة إلى المتابعة بتخصيص أحد الكهنة أو العلمانيّين لمتابعتها مع الخوري فريد، وهي مهمّة أسلّمها لأخي وخلفي المطران يوسف سويف الّذي يعرف جيّدًا ويقدّر قيمة هذه الكتب اللّيتورجيّة بما أنّ ذلك هو اختصاصه ويقوم بتنظيم اللّيتورجية على أكمل وجه".
وقال: "أمّا هذا المتحف الصّغير الّذي تدشّنونه اليوم يا صاحب الغبطة، فلقد أردت أن يكون مثلاً لمختلف الرّعايا لتنشئ هي بدورها المتاحف الرّعويّة، تحافظ فيها على كلّ ما فيها من كتب ليتورجيّة وكؤوس ومباخر وغفارات وشعاعات لزيّاح القربان وغيرها من الأمور. وفي ختام خدمتي الأسقفيّة في هذه الأبرشيّة الّتي أحببتها والّتي أردت وألحّيت على الحفاظ على وحدتها نظرًا لأهمّيّتها التّاريخيّة، وبعد أن حصلت على مبلغ من المال من خلال خدمتي فيها، في ما يسمّى دخل البطرشيل، أردت أن أقدّم لها هذا المتحف كتذكار يبقى ويدعو أبناء الأبرشيّة، كهنة وعلمانيّين، للصّلاة من أجلي في حياتي، وبعد موتي، ويذكروا معي في الصّلاة، كلّ الآباء اللّعازريّين الّذين خدموا هذه الأبرشيّة منذ أكثر من مائتي سنة، ولذلك وكذلك قرّرت أن أسمّي المقرّ الّذي بنيته في عكّار، في بلدة القبيّات، مركز القدّيس منصور الرّعويّ، ووضعت في الحديقة المحيطة به شخص هذا القدّيس الّذي عرف بأب الفقراء، والّذي كان شعاره: روح الرّبّ عليّ، فقد أرسلني لأبشّر المساكين.
وأشكر إخوتي الكهنة في هذا الدّير، وبصورة خاصّة الخورأسقف أنطوان مخايل، والخوري عزّت الطّحش، والخوري سيمون جبرايل، والخوري أنطونيو نفّاع الّذين تحمّلوا ويتحمّلون مسؤوليّة النّشء في إكليريكيّة مار أنطون البادوانيّ. والشّكر الكبير للمهندس الأستاذ روجيه مخّول الّذي صمّم ونفّذ وكرّس وقته عاملاً مع العمال هذا المشروع مجانًا، لا بل مساهمًا مادّيًّا في تكاليفه".
وأوضح بو جوده أنّ "الطّابق الأوّل من بناء هذا المتحف والّذي كان مسكنًا للرّاهبات عندما كنّ يهتممن بالأولاد يوم كان الميتم الّذي أصبح اليوم في كفرفو، قد تحوّل إلى مركز للإصغاء ومرافقة الأزواج المتعثّرين في حياتهم الزّوجيّة، وإلى مركز لاختصاصيّين في علم النّفس لمرافقة الإكليريكيّين والكهنة الّذين يعانون من صعوبات في حياتهم الكهنوتيّة". وقال: "إسمحوا لي، بهذه المناسبة، ومن دون أن أتكلّم مرّة جديدة بعد انتقالنا من هنا إلى مؤسّسة مار أنطون الاجتماعيّة في كفرفو والمعروفة بإسم الميتم، أن أرجو من غبطتكم مباركة المشروع الملحق بالمؤسّسة والّذي سيستقبل 14 فتاة ينهين دراستهنّ حتّى الشّهادة التّكميليّة ولا يعود بالإمكان استقبالهنّ في المؤسّسة لأنّ وزارة الشّؤون الاجتماعيّة لا تعود تتكفّل بهنّ. هذا المشروع أطلقته منذ سنتين، عند احتفالي باليوبيل الذّهبيّ لسيامتي الكهنوتيّة، وقد طلبت من الّذين يريدون أن يقدّموا لي أيّة هديّة، أن يستعيضوا عن ذلك بالمساهمة بتمويل بناء هذا المركز. وقد لبّى الدّعوة لغاية الآن عدد من المحسنين اسمحوا لي أن أذكر منهم: السّيّد جورج شبطيني، السّيّد يعقوب السّمور والسّيّد فرانسوا الشّدياق تخليدًا لابنته ريّا الّتي استشهدت على يد أحد المجرمين. هذا المشروع أيضًا هو من تصميم وتنفيذ المهندس روجيه مخّول الّذي عمل ليلاً ونهارًا، وبكلّ مجّانيّة، مشاركة معنا بهذا العمل الإنسانيّ، والّذي أودّ أن أقدّم له عواطف الشّكر والامتنان على كلّ ما قام ويقوم به في خدمة الأبرشيّة".
وختم بو جوده شاكرًا "راهبات العائلة المقدّسة وأخصّ بالشّكر رئيسة المؤسّسة الأخت ماتيلد ساسين على كلّ ما قمن ويقمن به في خدمة المؤسّسة وأولادها بروح التّفاني والمحبّة".
بعد ذلك قصّ الرّاعي الشّريط التّقليديّ لمتحف جورج بو جودة الأبرشيّ، ثمّ كانت جولة في داخله، ألقى بعدها كلمة جاء فيها: "إنّ المتحف يحفظ التّاريخ ويعلّم الأجيال ويؤمّن استمرار الأبرشيّة. ونحن في لبنان نخاف كثيرًا لأنّ من لا يحفظ تاريخه لا يحفظ مستقبله. إنّ الحرب في لبنان لم تنته لأنّ هناك أشخاص تريد أن تطوي صفحات التّاريخ، وتريد للّبنانيّين أن لا يعرفوا حاضرهم وقيمته، ولذلك يكتسي هذا المتحف أهمّيّة كبيرة، وأطلب من كلّ زائر أن يعود إلى جذوره وتصحيح الحاضر والتّطلّع إلى المستقبل والشّعب الّذي ينسى تاريخه لا يعرف حاضره وعندها يضيع. فانعش قاعدة الرّجوع إلى الجذور وتصحيح الحاضر ووضع خطة للمستقبل. كما نتأمّل من المسؤولين في لبنان أن نرجع لنرى من نحن، وأن نعيش حاضرنا دون ضياع، ولنا عودة إلى هويّتنا الأساسيّة. وبالتّالي نتأمل أن يكون هذا المتحف خطوة لمعرفة ذواتنا.
وتابع الرّاعي: "إنّ سياستنا في لبنان يجب أن تكون عودة إلى الذّات. وعندما ذكّرنا بالحياد النّاشط قلنا عن العودة إلى ماضينا وهويّتنا الأساسيّة لقد عشنا في لبنان لأكثر من 50 سنة دولة حياديّة ونعمنا بالإزدهار ولكن عندما أضعنا هويّتنا انظروا أين أصبحنا.
وإختتم الرّاعي زيارته في مؤسّسة مار أنطون الاجتماعيّة في كفرفو، المعروفة باسم (الميتم)، حيث كانت له جولة في أقسام المبنى الّذي يحتضن نحو 120 يتيم ويتيمة، واستمع إلى شروحات من رئيسة المؤسّسة الأخت ماتيلد ساسين، ثمّ أزاح السّتارة عن لوحة تؤرّخ لبدء العمل بمشروع بيت الفتاة الجديد، وبعد أن وضع حجر الأساس له استمع إلى شرح مفصّل عنه من المهندس روجيه مخّول."