بيتسابالا: للصّلاة من أجل السّلام
وللمناسبة، ألقى بيتسابالا عظة قال فيها بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ: "في هذا اليوم، المخصّص لتكريم العذراء مريم والدة الإله، نحن مدعوّون للصّلاة بشكل خاصّ من أجل السّلام في العالم. وقبل كلّ شيء، للصّلاة من أجل السّلام هنا في الأرض المقدّسة، في أرضنا الّتي لا تعرف سلامًا. فهناك أجيال كثيرة تعاقبت دون أن تعرف هذا السّلام. ولعلّنا الآن نمرّ بأسوأ الأوقات فيما يتعلّق بآفاق السّلام الممكنة. اليوم، يظهر الحديث عن السّلام بعيدًا جدًّا ومنفصلًا عن الواقع.
لم يظهر ضعف المؤسّسات السّياسيّة والدّينيّة، بما فيها نحن، كما هو واضح في هذه المرحلة. يبدو أنّ التّطلّعات إلى حلول عادلة وحقيقيّة من أجل السّلام لشعوب هذه الأرض تتعرّض باستمرار للإحباط بفعل أحداث تؤدّي إلى عكس ذلك تمامًا. ليس لدينا في هذا الزّمن الصّعب وفي هذه الأرض الجريحة من نوجّه أنظارنا إليه. شخص يمكن أن يكون مرجعًا لرغبتنا في السّلام وإرادتنا للتّعاون من أجل بناء علاقات قائمة على العدل والكرامة للجميع.
ولكنّ هذا اليوم لا يقتصر على التّأمّل أو النّقاش حول آفاق السّلام، بل هو مكرّس أوّلًا وقبل كلّ شيء للصّلاة من أجل السّلام. وهذا ينقلنا فعلًا إلى بعد آخر. فبدون أن نرفع أنظارنا نحو السّماء، وبدون أن نستقبل النّعمة الّتي منحها اللّه للبشريّة، يسوع المسيح، الإله الحقّ والإنسان الحقّ، سيكون من الصّعب أن نجد الأدوات الّتي تساعدنا على فهم هذا الوقت العصيب. سيكون من الصّعب أن نبقي أبواب قلوبنا مفتوحةً للرّغبة الصّادقة في السّلام والإيمان بإمكانيّة تحقيقه. بل سنجد أنفسنا مثقلين بعبء الرّيبة والاستسلام.
يساعدنا النّصّ الإنجيليّ الّذي سمعناه في الدّخول إلى هذا البعد ورؤية زماننا بطريقة جديدة، خالية من المخاوف البشريّة. "وجاؤوا (الرّعاة) مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطّفل مضجعًا في المذود" (لوقا 2: 16).
نحن الآن ماضون، كحجّاج أمل، في الطّريق المفتوح نحو سنة اليوبيل، ونشعر بقربنا من الرّعاة الّذين، عندما دعاهم الملائكة، قرّروا "دون تأخير" الذّهاب إلى بيت لحم لرؤية ما بشّروا به. فالآية الّتي تسبق مقطع إنجيل اليوم، يقول الرّعاة بعضهم لبعض: هلمّ بنا إلى بيت لحم، فنرى ما حدث، ذاك الّذي أخبرنا به الرّبّ (لوقا 2: 15).
أصل الكلمة باليونانيّ الّتي قد استخدمها الإنجيليّ هي ريما (ῥῆμα)، الّتي لا تعني فقط "حدثًا" بل أيضًا "الكلمة". وقد ترجم القدّيس جيروم هذه الكلمة للّغة اللّاتينيّة إلى "فيربوم" (verbum)، قائلًا:
et videamus hoc verbum, quod factum est - (فلنر هذه الكلمة الّتي تمّت).
ذهب الرّعاة ليروا تحقيق الكلمة، تحقيق قول الرّبّ. وهذه الكلمة هي يسوع، ذاك الطّفل الّذي دعي بهذا الاسم بعد ثمانية أيّام من مولده.
أزداد اقتناعًا يومًا بعد يوم بأنّ السّلام الحقيقيّ، السّلام الّذي نطلبه اليوم بشكل خاصّ، ينبع أوّلًا وقبل كلّ شيء من الإصغاء إلى الكلمة الّتي يرشدنا إليها اللّه، ومن الذّهاب لرؤية وقبول يسوع، والالتزام بأن نكون من تلاميذه.
الإصغاء الفوريّ: نحن نعيش في أوقات وأيّام يتحدّث فيها الجميع عن السّلام، سواءً في وقته أو بغير وقته، عبر الصّحف، والتّلفاز، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، ويقدّمون تحليلات، وتفسيرات، واستراتيجيّات، وحلولًا. لكنّنا لاحظنا كم من الأوهام وخيبات الأمل أحدثها كلّ ذلك فينا.
الجميع يتحدّث عن السّلام، لكنّ القليل يصغون إليه. نعم، لأنّ السّلام يتحدّث، لكن لا أحد أو قليل فقط يصغون إلى صوته. فالسّلام يتحدّث باللّغة الّتي لا يفهمها إلّا أو۟لٓئك الّذين يقرّرون، دون تردّد، الذّهاب لرؤيته، تمامًا كما فعل الرّعاة. إنّ صوت السّلام يسمع فقط لأو۟لئك الّذين يبحثون عنه، الّذين ينطلقون في الطّريق، والّذين هم على استعداد للاعتراف بطفل يجب أن يحتضن ويحبّ كالقوّة الحقيقيّة الّتي تنقذ العالم.
السّلام لا يدرك إلّا من قبل الّذين يفتحون قلوبهم لما يعلّمه الرّبّ، وليس لما يمليه تفكيرهم الخاصّ أو رغباتهم في السّلطة. الرّعاة أرادوا الذّهاب، أرادوا رؤية الجديد الّذي يعدّه اللّه.
إذًا، أودّ أن نسأل أنفسنا اليوم: إلى أيّ مدًى نحن مستعدّون للإصغاء إلى صوت السّلام بدلًا من مجرّد الحديث عنه، للبحث عنه بدلًا من انتظاره، للسّير نحوه بدلًا من المطالبة بأن يحقّقه الآخرون أو انتظارهم ليقوموا بذلك، بدلًا من أن نلتزم نحن ببنائه بأنفسنا؟
حتّى هنا، في هذه الأرض الّتي تحمل كثيرًا من علامات الكراهيّة، لا زال هناك عديد من النّاس الّذين يرغبون في السّلام ويبذلون جهدهم من أجل ذلك. هل نحن مستعدّون للبحث عنهم والعمل معهم على إنشاء بيئات حياة مختلفة؟ هل لدينا الشّجاعة للقاء بعضنا البعض، دون الخوف من آراء الآخرين أو من سوء الفهم؟
العثور: وجد الرّعاة الطّفل، وامتلأوا فرحًا عندما أدركوا في يسوع عطيّة اللّه، وهكذا نالوا السّلام الّذي تحدّثت عنه القراءة الأولى لهذا اليوم، وهي البركة الشّهيرة لهارون الّتي نستخدمها في صلواتنا: "ويرفع الرّبّ وجهه نحوك ويمنحك السّلام!" (عدد 6: 26).
رحلوا في طلب الفهم، فمهّدوا السّبيل للاعتراف. في سنة اليوبيل هذه، وفي حياتنا الشّخصيّة والاجتماعيّة والكنسيّة، علينا أن نتقدّم من المعرفة إلى الاعتراف. نحن نعرف يسوع، ونعرف الطّريق الّذي هيّأه لنا، لكن ربّما لا نعترف به بما يكفي. هناك صراع داخليّ فينا، ذلك "اللّا مؤمن" الّذي بداخلنا، يجعلنا نجد صعوبةً في قبول يسوع، وفي تبنّي أفكاره، ومشاعره، وصليبه.
العثور على يسوع يعني الاعتراف بأنّ نعمته يجب أن تكون مغفرةً للآخرين. العثور على يسوع هو السّير في طريقه، وهو حمل صليبه، أيّ اتّباع أسلوبه في العمل والمحبّة.
السّلام الحقيقيّ هو نعمة، ولكنّه أيضًا مهمّة تتطلّب الصّبر والمثابرة، مبنيّة على التّخلّي عن الأنانيّة والطّموح الفرديّ، للدّخول في منطق الملكوت. بدون هذه الاستعدادات لأن نكون تلاميذ المسيح، سنكون قادرين على تحقيق هدنة أو تسويات، ولكنّنا لن نختبر السّلام الحقيقيّ.
السّلام الحقيقيّ يولد فقط من الصّليب، الّذي لا يعني القبول بالألم والموت، بل القرار بتقديم الذّات حتّى النّهاية، على رجاء القيامة.
أظنّ أنّ هذا هو الإسهام الأصدق الّذي يمكننا نحن المسيحيّين ويجب علينا تقديمه لقضيّة السّلام: أن نذكّر الجميع بأنّ السّلام لن يكون أبدًا ثمرةً مجرّدةً لاتّفاقيّات بشريّة. لقد رأينا مدى فعّاليّة هذه الاتّفاقيّات. السّلام، بالأحرى، يأتي دائمًا من "المزيد" الّذي يضيفه الحبّ، ذلك الحبّ الحقيقيّ الّذي هو كمال العدل (ولا نقيّده)، والّذي له، سواءً اعترفنا به أم لا، وجه واسم يسوع، الّذي ولد ومات وقام من أجلنا.
فليجدّد طفل بيت لحم، بشفاعة العذراء والدة الإله ووالدتنا، في كلّ واحد منّا وفي جماعتنا الكنسيّة، ذلك الحبّ القادر على منح القوّة والشّجاعة للبدء من جديد: للإصغاء إلى صوت السّلام، للتّعرّف عليه في شخص يسوع، وللعمل على تحقيقه دائمًا، دون يأس، هنا، وفي جماعتنا ومجتمعنا المدنيّ.
سنة مباركة!".