الأراضي المقدّسة
03 تموز 2025, 10:20

بيتسابالا لكهنة فرنسيسكان جدد: كونوا أدوات متواضعة بين يدي الله

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس بطريرك القدس للّاتين الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، الرّسامة الكهنوتيّة للفرنسيسكان في دير القدّيس المُخلِّص-القدس.

خلال قدّاس الرّسامة، ألقى بيتسابالا عظة قال فيها بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ: "الإنجيل الّذي نتأمّل فيه كلّ عام في هذه المناسبة لا يكفّ عن أن يفتح لنا آفاقًا جديدة. وفي هذا اليوم، نختار أن نتوقّف عند بُعد واحد فقط: كيفيّة معرفة الله، إمّا من خلال "اللّحم والدّم"، أيّ النّظرة البشريّة المحدودة، أو من خلال وحي الله وإلهامه. هاتان الطّريقتان تمثّلان موقفين مختلفين في علاقتنا مع الله، ومع واقع الحياة والعالم من حولنا. وهما كذلك، كما سنرى، نمطان مختلفان للحياة داخل الكنيسة.

لكي يعبّر الجموع عن رأيهم في يسوع، يستحضرون صورة الأنبياء الكبار في التّاريخ: "بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ الآخَرُ يقول: هو إِيلِيَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأَنبِياء" (متّى 16: 14). إنّهم يرَون فيه شخصيّة عظيمة ومتميّزة، لكنّهم لا يدركون فيه شيئًا جديدًا أو فريدًا، بل يُسقِطون عليه ملامح من سبقوه، فيرَون فيه ذات الأعمال، وذات المواقف، وذات الكلمة الّتي نطق بها أنبياء الله عبر التّاريخ.

إنّ فكر الجموع هو فكر بشريّ بحت، يأتي من "اللَّحمُ والدَّمُ" (راجع متّى 16: 17) "فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هٰذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات"، ثمرة لتأمّلهم وتفكيرهم. أيّ ثمرة تأمّلهم الشّخصيّ وتفكيرهم البشريّ. أمّا التّلاميذ، فلا يُمكنهم الاكتفاء بمثل هذه المعرفة المحدودة والسّطحيّة بيسوع.

ولا تزال التّجربة نفسها قائمة حتّى اليوم: حصر يسوع في إطار بشريّ يمكن لعقلنا أن يستوعبه كلّيًّا، والاقتراب منه فقط من منظور "اللّحم والدّم". فنراه شخصيّة مميّزة وجذّابة، نعم، لكن في نهاية المطاف، لا نراه إلّا واحدًا منّا، ولا شيء أكثر من ذلك.

إنّ جواب بطرس، إذًا، يتجاوز حدود الرّؤية البشريّة. فذاك الّذي تعجز الجموع عن إدراكه في شخص يسوع، ويظلّ محجوبًا عن أنظارهم، يُوهَب للتّلاميذ بوحيٍ من الآب الّذي في السّماوات (متّى 16: 17). لا يأتي من لحم ودم، ولا يُولَد من ملاحظة بطرس، أو من تفكيره، أو من خبرته. إنّه لا يكتفي بما هو معروف ومألوف، بل ينفتح على إعلان إلهيّ، على نور لا يمكن لبطرس ولا لسائر التّلاميذ أن يهبوه لأنفسهم، يل يعطى لهم هبة من العلاء.

إنّ شخص يسوع يحمل، في جوهره، أمرًا غير مسبوق وصادمًا، لا يمكن للعقل البشريّ وحده، ولا لـ"اللّحم والدّم"، أن يدركه. فالمطلوب هو تحوّل داخليّ نحو فهم جديد لله، إله يكشف ذاته في جسد إنسان وحياته اليوميّة. هذا الفهم لا يأتي نتيجة جهد فكريّ أو تحليل منطقيّ، بل هو ثمرة انفتاح على جذب الآب، ووليد دهشة تنبع من اللّقاء بسرّ يفوق إدراك الإنسان.

لقد كرّستم حياتكم لله من خلال نذوركم الرّهبانيّة، وها أنتم، بنيلكم الرّسامة الكهنوتيّة، تدخلون في خدمة الله. وبذلك، تصبح حياتكم مدعوّة لأن تعكس بالكامل عمل الله فيكم وفي الجماعة الّتي ستُرسَلون إليها. إنّ دعوتكم الآن هي أن تعلنوا يسوع، لا بالكلام فقط، بل بالشّهادة، كما قال بطرس: "أنت المسيح، ابن الله الحيّ" (متّى 16: 16)وهذا الإعلان لا يتحقّق إلّا من خلال شهادة حياتكم. فالكاهن الحقيقيّ لا يتمحور حول ذاته، بل يتمركز حول علاقته بالمسيح، جاعلًا منه القلب النّابض لكلّ خدمته. وهذا يتطلّب أوّلًا فسحة ثابتة للصّلاة الشّخصيّة والجماعيّة، كما يستدعي أن يُحتفل بالأسرار، وبالأخصّ الإفخارستيّا، بوقار. فالأسرار، ولاسيّما سرّ الافخارستيّا، ليست مُلكًا لكم ولا امتيازًا شخصيًّا، بل هي عطيّة المسيح ووديعة الكنيسة. ليُشرق المسيح في خدمتكم، ولتتجلَّى جمال الكنيسة، ولا تسمحوا لأنفسكم بأن تصبحوا مركز الخدمة الكهنوتيّة، أو محور الأسرار الّتي تحتفلون بها، أو الكلمة الّتي تعلنونها.

كونوا أدوات متواضعة بين يدي الله، يحمل من خلالها المسيح خلاصه للعالم. لا تدَعوا "اللّحم والدّم" يوجِّه خدمتكم الكهنوتيّة، بل افسحوا المجال لروح الله ليُلهِمكم ويرشد خطاكم دومًا. ليبقى المسيح حيًّا فيكم، فهو قلب الحياة الكهنوتيّة وجوهرها.

الكنيسة، الّتي وُلدت هنا في القدس يوم العنصرة، قامت على صخرة الإيمان الّتي تمثّلها بطرس، كما قال الرّبّ: "أنت صخر، وعلى هذه الصّخرة سأبني كنيستي" (متّى 16: 18)لكنّها بحاجة إلى كهنة يكونون بدورهم صخورًا حيّة تُبنى الجماعة من حولهم على مثال المسيح. إنّ جماعاتكم لن تتشكّل على صورة المسيح ما لم يكن أنتم أنفسكم صورة حيّة له. ولن تُبنى على صخرة بطرس إلّا إذا عشتم أمناء لها. لا توجد بدائل أخرى. كلّ ما سواها يُمنح كنعمة إضافيّة. وأيّ مرجعيّة في خدمتكم الكهنوتيّة لا تنطلق من المسيح ولا تتوجّه إليه، هي مرجعيّة باطلة وعقيمة.

ويمكنكم أن تميّزوا ما إذا كنتم حقًّا صورة حيّة للمسيح، وما إذا كانت جماعاتكم مبنيّة على المسيح حجر الزّاوية، إذا حاولت قوى الجحيم أن تتغلّب عليكم (راجع متّى 16:18)، وإن بدا أنّ العالم لا يفهمكم ويدفعكم إلى التّفكير والعمل بمنطق "اللّحم والدّم"، وليس بحسب وحي الآب السّماويّ. ولكن إن استسلمتم وحوّلتم خدمتكم إلى مجرّد مرافقة إنسانيّة، مهما بدت ضروريّة، وفقدتم جوهر دعوتكم كأدوات للخلاص، فأنتم تبتعدون عن رسالتكم الحقيقيّة. فالعالم اليوم لا يريد أن يسمع عن خلاص أبديّ؛ بل يسعى إلى خلاص فوريّ، أرضيّ، لحظيّ، يُحقّقه بذاته، وبمنأى عن الله.أمّا خدمتكم، فهي مدعوّة أن تُشير إلى الأبديّة، الّتي بدأت تنبض فيكم منذ لحظة دعوتكم، والّتي أنتم مدعوّون إلى أن تقودوا الآخرين نحوها.

ستُواجهون العديد من الاحتياجات لدى الأشخاص الّذين ستوكل إليكم رعايتهم، وكثيرون منهم لن يجدوا مرجعيّة سواكم. وستكون تلك الاحتياجات كثيرة ومتنوّعة، لأنّ الفقراء سيكونون دومًا في وسطكم، بل يزدادون يومًا بعد يوم. ويلٌ لكم إن أهملتم حاجاتهم المادّيّة متذرّعين بالاهتمام بأرواحهم فقط، وويلٌ لكم أيضًا إن حصرتم خدمتكم في تلبية تلك الحاجات المادّيّة وحدها. فالعالم سيضع أمامكم قضايا عديدة: من الظّلم، والمعاناة، والوحدة، والجوع، والفقر. وهذه أصوات لا يجب تجاهلها، بل الإصغاء إليها والتّفاعل معها بصدق وتعاطف. وعليكم أن تجعلوا من تلك المعاناة معاناتكم. لكن تذكّروا أنّكم مدعوّون، فوق كلّ استجابة إنسانيّة، أن تحملوا إلى تلك الجراح استجابة الله، لأنّها وحدها القادرة على أن تغرس الرّجاء، وتزرع التّعزية، وتقدّم حضور المسيح الشّافي. نعم، ستنخرطون في مبادرات اجتماعيّة، ورعويّة، وتربويّة عديدة، وستكون مباركة ومثمرة، ما دامت لا تنطلق من ذاتكم، بل من محبّتكم للمسيح ووفائكم للكنيسة.

ستأتي أيّام يصبح فيها هذا الكهنوت، الّذي تتهيّأون لنيله اليوم بكلّ فرح، وكأنّه حمل ثقيل، وتغدو فيه الوحدة والتّعب واقعًا ملموسًا لا يمكن تجاهله. أجل، سيأتي زمن الفصح الخاصّ بكم. فكما أعقب اعتراف بطرس مباشرةً إعلان يسوع عن آلامه، "وبَدأَ يسوعُ مِن ذٰلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدة" (متّى 16: 21)، كذلك أنتم، سيكون عليكم أن تصعدوا إلى القدس. لكن هذه المسيرة ستصبح درب خلاص، إذا بقيتم دائمًا تقتاتون لا من "اللّحم والدّم"، بل من الله الحيّ، إذا منحتم كلمته الحيّة مكانًا في أعماقكم، وإذا كانت الأسرار الّتي تحتفلون بها تُغذّي قلوبكم أوّلًا، قبل أن تُغذّي جماعاتكم. فإن بنيتم كهنوتكم على أمانة العلاقة بيسوع، فستقدرون مثله أن تعبروا فصحكم بثقة، وأن تدخلوا بستان الزّيتون على رجاء القيامة. حينها، ستكونون حقًّا أدوات للخلاص، وشهودًا للحياة الأبديّة، ورسلًا لرجاء لا يُخيب (رومة 5: 5).

هل ستقدرون أن تعيشوا هكذا؟ أتمنّى ذلك من كلّ قلبي. نحن فعلًا بحاجة إلى شهود من هذا النّوع. لترافقكم العذراء الطّاهرة في خدمتكم الكهنوتيّة، وحيثما دُعيتم للخدمة، لا تنسوا أن تُصلّوا أيضًا من أجل كنيستنا الصّغيرة في القدس، لكي تتمكّن، في هذا السّياق المضطرب والمأساويّ، من الاستمرار في الشّهادة لرجائنا في المسيح، ابن الله الحيّ. آمين."