بيتسابالا في قدّاسه الأوّل ككاردينال: الهويّة المسيحيّة هي بيت مضياف وباب مفتوح لسرّ الله والإنسان، وهكذا أودّ أن "أكون" كاردينالاً!
وكانت للمناسبة عظة ألقاها بيتسابالا وجاء فيها بحسب موقع بطريركيّة القدس للّاتين:
"الأبناء الأعزّاء،
إنّ الإفخارستيّا الّتي نحتفل بها لها "لون" خاصّ وجديد لنا جميعًا.
لا أشير فقط إلى اللّون الأحمر الأرجوانيّ الرّومانيّ الّذي منحني إيّاه الأب الأقدس وبه يكرّم كنيسة القدس الّتي أرأسها والحاضرة اليوم معي في هذه اللّحظة بالذّات. وأنا لا أفكّر أيضًا بأنّنا نحتفل في هذه الكنيسة البابويّة فقط بل أشير إلى الرّسالة "الجديدة" الّتي يعنيها هذا اللّون بالنّسبة لي ولك من تربطهم بي روابط إنسانيّة ومسيحيّة وكنسيّة.
في الواقع، لا يكفّ الرّبّ عن تكرار ما سمعناه للتّوّ في إنجيل اليوم لكلّ واحد منّا: "يا ابني، اذهب اليوم واعمل في الكرم" (متّى 21، 29). إنّ الدّعوة للاستجابة بصدق وإخلاص لمن يدعو، دون تردّد، تتردّد في قلوبنا جميعًا. وتحقيق الملكوت بيننا وإلى الأبد يعتمد على استجابة الجميع.
إذن ما الّذي يضفيه هذا التّنصيب؟ لماذا نحن جميعًا سعداء بذلك؟ هل هو مجرّد صدى للمحاكم الّتي لم تعد موجودة؟ هل هو مجرّد تقليد جليل، ولكنّه فولكلوريّ وغير مفهوم للكثيرين؟ هل هو مجرّد شرف، مهما كان مشروعًا، منحه البابا لنفتخر به؟ لو كان الأمر كذلك، لما كان من المنطقيّ "الاحتفال به" في اللّيتورجيا، أيّ أن نشترك في السّياق الغامض ولكن الحقيقيّ لعلاقة الرّبّ معنا وعلاقاتنا به، فنختبر عمق ترسّخنا في جسد المسيح السّرّيّ أيّ الكنيسة.
إنّي على يقين بأنّ كلّ رسالة جديدة هي خدمة، وكلّ "لقب" في الكنيسة له دوره ومسؤوليّاته، فهي ليست بخطوة جديدة نحو الأعلى، بل للسّير نحو العمق، أو بالأحرى "إلى القاع". فالكارديناليّة بالنّسبة لمن ينالها أو لمن يرتبطون بها تشكّل اتّحادًا أوثق مع كنيسة روما وأسقفها، وهي دعوة لنا جميعًا للنّظر إلى الكنيسة، الى مشاركة جديدة، كلّ بحسب العطيّة الّتي ينالها، في "الأسقفيّة"، والّتي تعني "النّظرة من فوق" والّتي يحملها أسقف روما نحو الكنيسة الجامعة، وهي "نظرة بطرس الرّسول".
لذلك أودّ أن أقرأ معكم من جديد ما اختبرناه بالأمس والكلمة الّتي سمعناها بنظرة بطرس.
إنّ نظرة بطرس هي قبل كلّ شيء نظرة خبير لضعفه، ولكنّها مليئة برحمة الله، فقد جعل من "نعم الله" قبل "لا الإنسان"، وهو ينتظرنا بصبر وأمانة في ظلّ تردّدنا، يرافقنا في ذهابنا وإيابنا في محبّة أمينة ومسؤولة. إنّ حماسة بطرس المتهوّرة ومخاوفه، وإنكاره ودموعه، وحبّه الصّادق والخائن، تتحدّث عن نظرة استطاعت أن تكتشف الحبّ في الفشل، والانتصار في الهزيمة، والثّقة في التّناقضات والإنكار. ولذلك، فإنّ رتبة الكاردينال، كما أفسّره، هي دعوة لوضع أنفسنا من وجهة النّظر هذه، للنّظر إلى ضعف الإخوة بحبّ صادق، للتّأمّل بتعقيدات التّاريخ بذكاء. نشترك جميعًا في ثقافة تمجّد النّجاح والأداء، وتهون كلّ شيء من خلال شعارات رنّانة وأحكام مرتجلة. نحن نبحث عن الكلمة ذات التّأثير، والبحث عن الحقيقة يفسح المجال لرأي الجميع أو لمن يهمّهم الأمر. إنّ نظرة بطرس، والّتي هي نظرة البابا، نظرة لا تعرف الاستسلام. قلنا إنّ بطرس شخصيّة متهوّرة، والّتي تظهر بسهولة على السّاحة، وهو الّذي اعترف أنّ يسوع هو مسيح الله؛ ولكن أيضًا هو الّذي يريد أن يوقف رحلته نحو القدس، فهو رجل متردّد وخائف، لا يملك الشّجاعة للاعتراف بذلك في لحظة الآلام المؤلمة، لحظة خيانته. لكنّه لا يخاف من فشله، ولا يتوقّف عندها، ولا يدع خطيئته تغلق قلبه، لأنّه يعرف كيف يندهش، كيف يبحث، كيف يبدأ من جديد، حتّى في لحظة الإعلان المفاجئ عن القبر الفارغ.
وفي نهاية المطاف، وكما نعلم جميعًا، فإنّ هذه تجربة يوميّة بالنّسبة لأولئك الّذين يعيشون في القدس. في تلك المدينة المقدّسة والمتعبة، حيث بدأ بطرس خدمته كمبشّر للإيمان، نتعرّض كلّ يوم لإغراء الاستسلام للضّعف، والتّعب من آلاف التّردّدات السّياسيّة والوطنيّة والدّوليّة، وترك الكلمة الأخيرة للإنكار وخيبات الأمل، أو السّعي نحو الحلّ السّهل أو إصدار أحكام متسرّعة؛ ومع ذلك، لا يوجد نقص في كلّ يوم من علامات الأمل الصّغيرة، والتّحدّيات الجديدة للحوار والمصالحة الّتي تشعل فينا الحماس من جديد، وتشجّع فينا الثّقة، وتجدّد فينا الأمل، فتجعلنا غاضبون مثل بطرس: "لم نصطد شيئًا، ولكن بحسب كلمتك سألقي الشّباك!" (أنظر لوقا 5: 5).
إنّ نظرة بطرس قادرة على ذلك، لأنّها نظرة مملوءة من نظرات يسوع، نقرأ في الأناجيل: "فنظر يسوع إلى بطرس" (لو 22، 61). أنا بالتّأكيد لست رومانسيًّا، وأيّ شخص يعرفني يعرف ذلك جيّدًا!- ولكن بالنّسبة لي أيضًا، من الصّعب الهروب من تأمّل جمال نظرة المسيح الّتي أشعلت العديد من القصص الرّائعة عن الحياة والقداسة في كنيسة الأمس واليوم. ماذا رأى بطرس عندما التقت نظرته بنظرة يسوع؟
لا شكّ أنّه رأى نظرة معلّم، شخص يتكلّم بسلطان عن الله والنّاس، عن الحياة والموت. بالنّظر إلى المسيح، أو بالأحرى، السّماح له بأن ينظر إليه، يتعلّم بطرس تدريجيًّا أنّ ابن الله، بعد تجسّده، سيبذل نفسه حتّى الصّليب. سيكون قد فهم أنّ بذل الذّات إلى درجة إنكارها هو الفعل الحقيقيّ للحبّ، بل هي طبيعة الله ذاتها، وسيتعلّم أن يكون ويعيش كتلميذ بنكران ذاته وعيشه نفس مشاعره (انظر فيلبّي 2: 5)، فلن يرفض أن يغسل الرّبّ قدميه، بل أن يغتسل بالكامل. وبعد أن غسله المسيح بدموع التّوبة، أصبح شاهدًا لآلامه وموته بسبب المحبّة، وهناك أصبح قادرًا على قيادة قطيع الله الموكول إليه، لا كسيّد يسود عليه بل كإخوة "بقلب صالح" بحسب مشيئة الله (راجع 1 بط 5: 2). وهكذا نظر بطرس الصّالح، مع المسيح، إلى موته الّذي لم يرده، باعتباره فعل المحبّة الأخير لإخوته، الّذي به يتمجّد الله.
أصدقائي الأعزّاء، في كلّ مرّة نحتفل بالإفخارستيّا، نكون تحت نظر المسيح ونعانقه. إنّ احتفال اليوم يعني قبولنا بجعل أنفسنا تلاميذًا للنّظر إلى كلّ شيء، مع بطرس، بدءًا من المسيح. نحن مدعوّون، مع بطرس، إلى النّظر دائمًا إلى المسيح من جديد، وعلى الرّغم من الصّعوبات الحتميّة الّتي تميّز الطّريق المسيحيّ اليوم أكثر من الأمس، نشعر أنّنا مدعوّون لاختيار المسيح وإنجيله ليكونا الطّريق والحقّ والحياة لتفكيرنا وأفعالنا. في أوقات الارتباك والشّدّة الكبيرين، الكنيسة مدعوّة للبدء من جديد، من المسيح المعلّم والرّبّ. إنّ إنجيله ليس مجرّد مدوّنة أخلاقيّة، أو ما هو أسوأ من ذلك، مجرّد مرجع يعتمد عليه في الآداب الدّينيّة والمدنيّة. إنّ إنجيل المسيح، هو المسيح نفسه، هو الكلمة الّتي تعد بالحياة والّتي تتطلب الإيمان الّذي يقود للتّوبة والتّغيير الاجتماعيّ.
في زمن ديكتاتوريّة المشاعر، حيث تختلط المشاعر الذّاتيّة والحقيقة مع ما يثيرها من أحاسيس، لا يمكن اختزال الإيمان إلى مشاعر حميمة، بل يجب أن تكون خيارًا مقنعًا يوجه الحياة ويغيّرها. نحن مدعوّون مع بطرس إلى الخروج من ضيق الأنا أو الآراء المشتركة والانفتاح على المسيح الّذي يجمعنا مع الكنيسة بأسرها. من خلال الإعلان بأنّك بيننا في الكنيسة، ستعود الينا هويّتنا الحقيقيّة: أنت بطرس! (متّى 16، 18). لن تكون هويّة جامدة ومنغلقة ومستبعدة ومعارضة لهويّات الآخرين، بل نتلقّاها كهبة، تطهّرها المحبّة المصلوبة، تسعى للخدمة كي يصبح الجميع إخوة.
وهنا أيضًا لا يسعني إلّا أن أفكّر في القدس والأرض المقدّسة، في أبرشيّتي الّتي أتوجّه إليها في هذه اللّحظة بمودّة وشكر على محبّتهم ودعمهم وتشجيعهم في الفترة الأخيرة. تلك الأرض الرّائعة والمثيرة، ملتقى مختلف الثّقافات والأديان والشّعوب، وفي هذا السّياق، نحن المسيحيّون عددنا قليل جدًّا، ووفقًا للحسابات البشريّة، لا علاقة لنا بالموضوع. إنّ تجربة النّظر إلى هذا التّنوّع بنظرة بطرس قبل أن تلتقي بنظرة المسيح، أيّ بنظرة مخيفة، وهي نظرة عدوانيّة وعنيفة، هي تجربة قويّة. يمكن للسّياسة والمؤسّسات الثّقافيّة والاجتماعيّة، وأحيانًا حتّى الكنائس، أن تختار طريق المطالبات والصّراع والمصالح الحزبيّة، وحتّى العنف. يبدو أنّ احتلال المساحات عن طريق إقصاء الآخرين، الّذين يُنظر إليهم على أنّهم منافسون وأعداء، هو الطّريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
ولكنّنا كمسيحيّين مختلفون، ويجب أن نكون مختلفين، لأنّنا مدعوّون لأن نختار كلّ يوم أن نكون تلاميذ للمسيح، الآن وللنّهاية. يجب علينا أن نسير خلف الرّبّ، مستعدّين للذّهاب حتّى إلى حيث لا نرغب، ولو أرغمنا على ذلك. إنّ الاختلاف المسيحيّ لا يكمن في نقاط قوّتنا أو في هيبتنا بل في اختيارنا للمصالحة والحوار والخدمة والسّلام. فالآخر بالنّسبة لنا ليس منافسًا، بل هو أخ. بالنّسبة لنا، الهويّة المسيحيّة ليست حصنًا ندافع عنها، بل بيتًا مضيافًا وبابًا مفتوحًا لسرّ الله والإنسان حيث نرحّب بالجميع. نحن مع المسيح للجميع.
أيّها الإخوة والأخوات، هكذا أودّ أن أعيش وأن "أكون" كاردينالاً. هكذا أودّ أن تكون البطريركيّة اللّاتينيّة، الّتي أصبحت بشكل مفاجئ مقرّ الكرادلة، بدعوتها ورسالتها. هذه هي الطّريقة الّتي أودّ منكم جميعًا أن تختاروا بها أن تكونوا مسيحيّين، تلاميذ للمسيح، مشدّدًا إيّاكم بصلاتي كما وأطلب صلاتكم من أجلي.
فلتشفع فينا مريم العذراء، الّتي نكرّمها كوالدة الإله في هذه البازيليك، لنا ولكنيسة القدس وتعضدنا في مسيرتنا الجديدة هذه."