بيتسابالا في الميلاد: الأرض المقدّسة بحاجة أكثر من جميع الأراضي إلى يوبيل حقيقيّ
بيتسابالا وللمناسبة كانت له عظة اعترف في مستهلّها بصعوبة إعلان فرح الميلاد هذا العام فقال بحسب إعلام البطريركيّة:
"ليس لديّ مشكلة، هذه السنة، في الاعتراف بصعوبة الإعلان عن فرح ميلاد المسيح لكم أنتم الحاضرين هنا، ولكلّ من ينظر إلى بيت لحم من جميع أنحاء العالم."
وتابع: "نشيد الملائكة، الّذين ينشدون المجد والفرح والسّلام، يبدو لي نشازا بعد عام مليء بالمشقّة، والدّموع والدّماء والمعاناة، بسبب آمال خابت وخطط للسّلام والعدل تحطّمت. يبدو أنّ النّواح يتغلّب على النّشيد، والغضب يشلّ كلّ طريق للرّجاء.
تساءلت في الأسابيع الماضية عشرات المرّات: كيف يمكنني أن أعيش إن لم أتجاوز هذه المعاناة، وهذا الإحساس المؤلم بعدم جدوىٰ كلماتنا، حتّىٰ كلمات الإيمان، أمام قسوة الواقع، ومرارة التّيقّن من أنّ هذه المعاناة تظهر وكأنّها لامتناهية.
لكن هبّ لنجدتي رعاة الميلاد، الّذين، مثلي ومثل الأساقفة والكهنة في هذه الأرض، كانوا يسهرون في اللّيل ويحرسون رعيّتهم. في تلك اللّيلة، الّتي هي هذه، سمعوا الملائكة وصدّقوا الخبر.
لذٰلك قرّرت أن أستمع مرّةً أخرىٰ لقصّة الميلاد في سياق المعاناة الّتي نعيشها، والّتي لا تختلف كثيرًا عن سياق تلك الأيّام.
كما قد سمعنا: "وفي تلك الأيّام، صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع أهل المعمور. وجرى هٰذا الإحصاء الأوّل إذ كان قيرينيوس حاكم سورية. فذهب جميع النّاس ليكتتب كلّ واحد في مدينته. وصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة النّاصرة إلى اليهوديّة إلى مدينة داود الّتي يقال لها بيت لحم، فقد كان من بيت داود وعشيرته، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملًا" (لوقا ٢: ١-٥).
لقد أثّرت فيّ هذه اللّحظة: يوسف ومريم يعيشان نعمة ميلاد الطّفل، الميلاد الحقيقيّ، ليس في وقت أو في ظروف قرّراها أو كانت ملائمةً لهما. في ذٰلك الوقت، كانت قوّة إمبراطوريّة قاهرة تحكم العالم، وتقرّر مصيره الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
كانت أرضنا المقدّسة في تلك الفترة خاضعةً لمصالح دوليّة لم تكن أقلّ تأثيرًا مّمّا هي عليه اليوم. شعب من الفقراء كان يعمل جاهدًا من أجل رفاهيّة الآخرين، فطلب منه أن يساهم في الإحصاء العامّ. ومع ذلك، وبدون شكوى، وبدون رفض، وبدون تمرّد، ذهب يوسف ومريم إلى بيت لحم، مستعدّين للميلاد هناك.
هل كان ذلك استسلامًا منهما؟ أم تذلّلًا؟ أم عدم حيلة؟ أم عجزًا؟ لا! بل إيمانًا! والإيمان، عندما يكون عميقًا وصادقًا، هو دائمًا نظرة جديدة ومنيرة للتّاريخ، لأنّ "من يؤمن، يرى!".
وماذا رأى يوسف ومريم؟ في كلام الملاك، رأيا اللّه في التّاريخ. رأيا الكلمة الّذي صار جسدًا، والأزليّ الّذي اقتحم الزّمن، وابن اللّه الّذي صار إنسانًا! وهذا ما نراه أيضًا نحن هنا، في هذه اللّيلة، مستنيرين بكلمة الإنجيل.
نرى في هذا الطّفل مبادرةً جديدة وغير مسبوقة لإله لا يهرب من التّاريخ، ولا ينظر إليه بلا مبالاة عن بعد، ولا يرفضه بسخط لأنّه مؤلم ورديء، بل يحبّه، ويتبنّاه، ويدخل فيه بخطى طفل حديث الولادة، لطيف وقويّ في آن واحد، يجلب معه حياة أبديّة نجحت في أن تجد لذاتها مكانًا في قساوة الزّمن، من خلال قلوب وإرادات مستعدّة لاستقبالها.
إنّ ميلاد الرّبّ يكمن كلّه هنا. من خلال ابنه، يشترك الآب في تاريخنا، ويحمل عبء هذا التّاريخ، ويشاركه المعاناة والدّموع حتّى الدّم، ويقدّم له طريقًا للخروج نحو الحياة والرّجاء.
ولكنّه لم يدخل إلى تاريخنا وهو يتنافس مع أقوياء هذا العالم. فقوّة المحبّة الإلهيّة ليست فقط أقوى من العالم، بل هي قوّة مختلفة. هذا الطّفل، بعد أن عاش حياتنا حتّىٰ النّهاية، سيعلن بوضوح: "ليست مملكتي من هٰذا العالم. لو كانت مملكتي من هٰذا العالم لدافع عنّي حرسي ... ولٰكنّ مملكتي ليست من هٰهنا" (يوحنّا ١٨: ٣٦).
الخطوة الّتي يدخل بها اللّه التّاريخ هي خطوة الحمل، لأنّ الحمل وحده هو الّذي يستحقّ القوّة والقدرة، ومنه وحده الخلاص (رؤيا يوحنّا ٥: ١٢).
قياصرة هذا العالم يحتجزون القوّة في دائرة مفرغة، تمحق الأعداء ولكنّها تولّد دائمًا أعداءً جددًا (ونرى ذلك بمرارة كلّ يوم).
أمّا حمل اللّه، فقد ذبح وغلب، ويغلب بالحقّ، إذ يشفي قلب الإنسان العنيف، بالمحبّة المستعدّة للخدمة والموت، فتولّد حياةً جديدةً.
مريم ويوسف، بينما يبدو أنّهما يطيعان صاغرين قوّةً أكبر منهما، إلّا أنّهما كانا في الواقع ينظران إلى التّاريخ بعيون الله ويريان فيه مشروعًا إلهيًّا، فيه يدخلان المجد والسّلام.
ونحن أيضًا يمكننا ويجب علينا أن نبقى في أرضنا وأن نعيش واقعنا، غير مجبرين أو مستسلمين، ولا حتّى مستعدّين للهرب في أوّل فرصة.
نحن مدعوّون من قبل الملائكة كي نعيش هذه اللّيلة بإيمان ورجاء. نحن أيضًا، على غرار يوسف ومريم، والرّعاة، يجب أن نختار وأن نقرّر: هل نقبل بإيمان بشارة الملاك، أم نمضي في طريقنا؟
هل نؤمن أم نرتاب؟ هل نقرّر الولاء للمسيح ونتّبع أسلوب بيت لحم، أسلوب من هو مستعدّ للخدمة بالمحبّة ولكتابة قصّة حياة منسوجة بالأخوّة؟ أم نتّبع أسلوب القيصر أوغسطس، وهيرودس، وغيرهم كثيرين، ونختار أن ننتمي إلى من يكتبون التّاريخ بالقوّة والتّجبّر؟
طفل بيت لحم يأخذ بيدنا في هذه اللّيلة، ويرافقنا في معارج التّاريخ، ويساعدنا كي نقبله حتى النّهاية، فنسير فيه بثقة ورجاء.
لم يخف من الولادة في هذا العالم– إذ لم يزدر رحم عذراء- ولم يخش الموت من أجله. ويطلب منّا ألّا نخاف من قوى هذا العالم، بل أن نثابر في طريق العدل والسّلام.
يجب علينا، كما فعل يوسف ومريم، والرّعاة والمجوس، أن نسلك الطّرق البديلة الّتي يشير إليها الرّبّ، وأن نجد المساحات الملائمة حيث يمكن لأنماط جديدة من التّصالح والأخوّة أن تنشأ وتنمو.
لنجعل من عائلاتنا ومجتمعاتنا مهدًا لمستقبل مبنيّ على العدل والسّلام، الّذي بدأ بمجيء أمير السّلام.
صحيح أنّنا قليلون وربّما لا حضور لنا في مراكز القوّة وحلبات الصّراع حيث تتعارك وتتقرّر المصالح الاقتصاديّة والسّياسيّة. ولكنّنا، كالرّعاة، الشّعب المدعوّ إلى فرح الميلاد، ومشاركة الحمل في انتصاره الفصحيّ.
ولذلك نشعر أنّ الدّعوة الّتي أطلقها قداسة البابا للكنيسة جمعاء قبل ساعات قليلة عندما عبر عتبة الباب المقدّس مشيرًا إلى بدء سنة اليوبيل المقدّس 2025، موجّهة إلينا بشكل خاصّ: نحن حجّاج الرّجاء.
نحن المسيحيّين لا نعبر في التّاريخ كسيّاح مشتّتين وغير مبالين، ولا كبدو رحّل بلا وجهة، وتتقاذفهم الأحداث. إنّما نحن حجّاج، وعلى الرّغم من أنّنا نعرف ونشارك أفراح ومشقّات وآلام وقلق رفاق الطّريق، إلّا أنّنا نسير نحو الهدف الّذي هو المسيح، الباب المقدّس الحقيقيّ المفتوح على ملكوت الله (راجع يوحنّا 10: 9).
نحن نجسر ونؤمن بأنّ الكلمة، منذ أن تجسّد هنا، يواصل، في كلّ إنسان وفي كلّ زمان، تخصيب التّاريخ، وتوجيهه نحو كمال المجد.
وهكذا، أيّها الأحبّاء، في هذا العام وفي هذا المكان بالتّحديد، يكتسب الإصغاء إلى ترنيمة الملائكة الّتي تعلن فرحة الميلاد معنًى أكبر! وفي هذه اللّحظة، يكتسب الاحتفال بسنة الرّبّ المقدّسة، بل بالسّنة المقدّسة الّتي هي الرّبّ نفسه، معنًى جميلًا وعميقًا!
تلك التّرنيمة ليست نشازا، بل هي ما تجعل صخب الحروب والبيانات الجوفاء الصّادرة عن الأقوياء تبدو نشازا! تلك التّرنيمة ليست ضعيفة، بل تتتفاعل بقوّة مع دموع المتألّمين، وتحثّ علىٰ نزع سلاح الانتقام واللّجوء إلىٰ المغفرة.
يمكننا أن نكون حجّاج الرّجاء حتّى في وسط الشّوارع والمنازل المدمّرة في أرضنا، لأنّ الحمل يسير معنا نحو عرش أورشليم السّماويّة.
إنّ سنة اليوبيل، بحسب التّقليد الكتابيّ، هي سنة خاصّة يطلق فيها سراح المسجونين، وتلغى فيها الدّيون، وتردّ الأملاك لأصحابها، وتستريح فيها الأرض أيضًا.
إنّها سنة لعيش خبرة التّصالح مع الآخر، والسّلام مع الجميع، وتوطيد العدل.
إنّها سنة تجديد روحيّ، على المستوى الفردّي والجماعيّ.
يحدث هذا لأنّ الله يبادر في سنة اليوبيل إلى إلغاء جميع الدّيون. هي سنة التّصالح بين اللّه والإنسان، حيث يتجدّد كلّ شيء. ويريد اللّه أن تتمّ هذه المصالحة بتجديد الحياة والعلاقات بين البشر. تلك هي أمنيتي للأرض المقدّسة، الّتي تحتاج إلىٰ أكثر من جميع الأراضي إلىٰ يوبيل حقيقيّ. نحن بحاجة إلى بداية جديدة في جميع مجالات الحياة، بحاجة إلى رؤية جديدة، بحاجة إلى شجاعة للنّظر إلى المستقبل برجاء، دون الاستسلام للعنف والحقد، الّلذين يغلقان كلّ فرصة أمام المستقبل. ليت كلّ جماعاتنا تعيش تجديدًا روحيًّا حقيقيًّا. وليكن لنا أيضًا في الأرض المقدّسة بدء جديد: يقوم على إلغاء الدّيون، وإعتاق المسجونين، وردّ الممتلكات إلى أصحابها، ولتبدأ بشجاعة وعزم مسارات جادّة وصادقة للتّصالح والمغفرة، فبدونها لن يكون سلام حقيقيّ.
أريد أن أشكر إخوتنا في غزّة، الّذين التقيت بهم مؤخّرًا. أؤكّد لكم صلاتنا وقربنا وتضامننا. لستم وحدكم. بالحقيقة، أنتم واقع مرئيّ للرّجاء وسط الكارثة والدّمار الشّامل الّذي يحيط بكم. ولكنّكم لم تيأسوا، بل بقيتم متّحدين، راسخين في الرّجاء. شكرًا لشهادتكم الرّائعة الّتي تدلّ على القوّة والسّلام!
وفكري يذهب أيضًا إليكم أيّها الإخوة والأخوات في بيت لحم. هذا العام أيضًا، كان العيد حزينًا، يحمل في جعبته القلق والفقر والعنف. عشتم مرّة أخرى اليوم الأهمّ لكم بطعم المعاناة وانتظار أيّام أفضل. لكم أقول: تشجّعوا! لا يجوز أن نفقد الرّجاء. لنجدّد ثقتنا باللّه، فلنّ يتركنا وحدنا. وهنا في بيت لحم، نحن ننحتفل بحقيقة أن اللّه معنا وبالمكان الّذي كشف فيه ذاته. تشجّعوا. نريد أن يصل من هنا لكلّ العالم نفس إعلان السّلام الّذي سمع منذ ألفي سنة!
لننطلق مع الرّعاة مجدّدًا لنشهد هذا الحدث العظيم الّذي منّ اللّه علينا بمعرفته. نحتفل بعيد الميلاد أيضًا عبر الرّموز الخارجيّة للعيد، لأنّه ولد لنا ولد ملأ التّاريخ والعالم كلّه بالأمل. حوّل الألم إلىٰ ألم ولادة، وأعطانا جميعًا فرصةً للانطلاق نحو فجر عالم جديد!".