الأراضي المقدّسة
24 تموز 2025, 08:45

بيتسابالا: المسيح لم يغادر غزّة

تيلي لوميار/ نورسات
وصف بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا مشاهداته بعد عودته من زيارة غزّة الّتي قام بها مع البطريرك ثيوفيلوس الثّالث، ونقلها إلى العالم عبر كلمة افتتاحيّة ألقاها في مؤتمر صفحيّ مشترك عقده البطريركان في الثّاني والعشرين من الجاري في مركز النوتردام- القدس.

وفي كلمته، قال بيتسابالا بحسب إعلام البطريركيّة: "عاد البطريرك ثيوفيلوس الثّالث وعُدتُ أنا من غزّة وقلوبُنا مكسورة لما شهدناه هناك، غير أنّنا وجدنا عزاءً كبيرًا في الشّهادات المؤثّرة الّتي قدّمها لنا العديد ممّن التقيناهم.  

دخلنا أرضًا يكسوها الدّمار، فوجدنا في عمق ركامها ملامح إنسانيّة نادرة. سرنا بين أنقاض الأبنية المتهدّمة، ووسط خيام انتشرت في السّاحات والأزقّة، وعلى الطّرقات والشّاطئ؛ خيام تحوّلت إلى مأوى لمن فقدوا كلّ شيء. وقفنا إلى جانب عائلات أنهكها المنفى الطّويل، حتّى غاب عنها الإحساس بالزّمن، إذ لا تلوح في الأفق ملامح عودة. رأينا أطفالًا يتحدّثون ويلعبون دون تردّد أو خوف، وقد صار دويّ القصف جزءًا من يوميّاتهم.  

ورغم هذا الواقع القاسي، لمسنا ما هو أعمق من الدّمار: كرامة الإنسان الّتي تأبى أن تنطفئ. رأينا أمّهات تحضّرن الطعام للغير، وممرّضات يضمّدن الجراح بلطف، وأشخاصًا من ديانات مختلفة ما زالوا يرفعون الصّلوات إلى الله الّذي يرى ولا ينسى.

المسيح لم يغادر غزّة. هو حاضر فيها، مصلوب في أجساد الجرحى، مدفون تحت الرّكام، لكنّه يسطع في كلّ عمل رحمة، وفي كلّ شمعة تُبدّد الظّلام، وفي كلّ يد تُمدّ إلى من يتألّم. لم نأتيهم كسياسيّين ولا كمبعوثين دبلوماسيّين، بل كخدّام للرّبّ، كرعاة شعب الله. والكنيسة، بكلّ مكوّناتها، لن تتخلّى عنهم أبدًا.   

من الضّروريّ أن نُؤكّد، بل أن نُكرّر، أنّ رسالتنا لا تستثني أحدًا، فهي موجّهة إلى الجميع دون تمييز. إنّ مستشفياتنا، وملاجئنا، ومدارسنا، ورعايانا، من كنيسة القدّيس برفيريوس إلى كنيسة العائلة المقدّسة، ومن مستشفى الأهليّ العربيّ إلى خدمات الكاريتاس، هي أماكن مفتوحة للّقاء والخدمة والمشاركة، تحتضن المسيحيّين والمسلمين، المؤمنين والمشكّكين، اللّاجئين والأطفال، وكلّ من أنهكته الحاجة.

المعونات الإنسانيّة ليست خيارًا، بل ضرورة وجوديّة؛ إنّها الفارق بين الحياة والموت. إنّ تأخيرها لا يُعدّ مجرّد تقاعس، بل بمثابة حكم بالموت على الأبرياء. كلّ ساعة تمضي بلا طعام أو ماء أو دواء أو مأوى تُخلّف ألمًا عميقًا لا يمكن تجاهله.لقد شهدنا بأعيننا رجالًا واقفين تحت الشّمس لساعات طوال، فقط على أمل الحصول على وجبة تسدّ جوعهم.إنّه مشهد يحمل من الذّلّ ما لا يُطاق، ومن الألم ما لا يُنسى. وهو وضع لا يُمكن تبريره أخلاقيًّا، ولا يُقبل إنسانيًّا.

من أجل ذلك، نحن نُثمّن ونُساند الجهود الجبّارة الّتي يبذلها جميع العاملين في المجال الإنسانيّ، محلّيّين ودوليّين، مسيحيّين ومسلمين، متديّنين وعلمانيّين، أولئك الّذين يُجازفون بكلّ شيء ليُعيدوا الحياة إلى هذه البقعة الغارقة في الدّمار والبؤس.

واليوم، نرفع صوتنا عاليًا إلى قادة هذه المنطقة والعالم بأسره: لا يمكن بناء مستقبل على أساس الأسر، أو تهجير الفلسطينيّين، أو الانتقام. لا بدّ من أن نسلك طريق يُعيد الحياة إلى موضعها، ويُرجع الكرامة إلى أصحابها، ويستعيد إنسانيّة فُقدت تحت وطأة العنف.

نضمّ صوتنا إلى صوت قداسة البابا لاون الرّابع عشر، في صلاة التّبشير الملائكيّ يوم الأحد الماضي، إذ قال: "أوجّه إلى الجماعة الدّوليّة نداءً من أجل ضمان القانون الإنسانيّ وحماية المدنيّين ومنع العقاب الجماعيّ واللّجوء العشوائيّ إلى القوّة والتّهجير القسريّ للسّكّان".

لقد آن الأوان لوضع حدّ لهذا الجنون، وإنهاء آلة الحرب، وجعل الخير العامّ للإنسان فوق كلّ اعتبار.

نرفع صلاتنا، ونوجّه نداءنا، من أجل إطلاق سراح كلّ من حُرموا من حرّيّتهم، ومن أجل عودة المفقودين والمحتجزين، ومن أجل شفاء العائلات الجريحة الّتي أنهكتها المعاناة، على جميع الجبهات.  

وحين تضع هذه الحرب أوزارها، سيكون أمامنا درب طويل وشاقّ، لبدء مسيرة الشّفاء والمصالحة، بين الشّعب الفلسطينيّ والشّعب الإسرائيليّ، من الجراح العميقة الّتي خلّفتها في حياة عدد لا يُحصى من الأبرياء.إنّها مصالحة لا تقوم على النّسيان، بل على الغفران؛ لا تهدف إلى طمس الجراح، بل إلى تحويل الألم إلى حكمة، والمعاناة إلى بصيرة. وحده هذا الطّريق، بما فيه من صدق وألم وشجاعة، قادر أن يصنع سلامًا حقيقيًّا، لا سياسيًّا فحسب، بل إنسانيًّا أيضًا.وبصفتنا رعاة الكنيسة في الأرض المقدّسة، نُجدّد عهدنا بالتّمسّك بالسّلام القائم على العدالة، وبالكرامة الّتي لا تُشترط، وبمحبّة لا تعترف بحدود أو حواجز.

فلنحرص على ألّا يتحوّل السّلام إلى مجرّد شعار يتردّد، فيما الحرب تظلّ الخبز اليوميّ للمحرومين."