بيتسابالا: الإصغاء إلى كلمة الله هو العيد الحقيقيّ لكلّ إنسان
ويغوص بيتسابالا بهذا الحدث، ويقول بحسب إعلام البطريركيّة: "توقّفنا الأسبوع الماضي عند نهر الأردنّ، حيث كان يسوع وسط الجموع الغفيرة وتلقّى المعموديّة عن يد يوحنّا الّذي لم يدركه، وفي تلك اللّحظة، أكّد الآب هويّة يسوع ونزل عليه الرّوح على هيئة حمامة ودعاه الابن الحبيب (لوقا 3: 21-22).
اليوم نرى يسوع في وليمة عرس (يوحنّا 2: 1-11)، حاضرًا كإنسان عادي وبسيط بين المدعوّين، دون أن يظهر أيّ علامة تميّزه عن بقيّة الضّيوف.
في هذه الوليمة، يتوارى يسوع بين الكواليس: فهو ليس من الشّخصيّات الرّئيسيّة، ولا يلاحظ نفاذ الخمر؛ حتّى في حديثه مع أمّه، يؤكّد أنّه لا يستطيع أن يكشف عن نفسه بعد "ما لي وما لكِ، أَيَّتُها المَرأَة؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد" (يوحنّا 2: 4). يطلب يسوع أن تملأ الأجران بالماء ثمّ أن تقدّم إلى وكيل المائدة (يوحنّا 2:9-10)، الّذي لا يعرف من أين جاء هذا الخمر، تمامًا كالعروسين. حتّى التّلاميذ، لا يُذكر بشكل صريح أنّهم أدركوا المعجزة الّتي أجراها يسوع.
هذا مثال على أساليب الله وطرقه: يستمتع الجميع بخمر جيّد ووفير، ولكن يكاد لا يعرف أحد من أين جاء هذا الخمر، ولا يعلم أحد سبب تجدّد الحياة والفرحة بهذا الشّكل المميّز. من الجدير بالذّكر أنّ في التّقليد الكتابيّ، يُعتبر الخمر علامة للفرح والحياة.
بشكل أو بآخر، ما زلنا نحتفل بعيد الظّهور الإلهيّ: في هذا الأحد، إنجيل عرس قانا الجليل يُكمل عيد الظّهور ومعموديّة المسيح، ليُشكّل عيدًا واحدًا، عيد الله الّذي يكشف عن ذاته.
تأمّلنا الأحد الماضي كيف أنّ الله يكشف عن نفسه من خلال إخفائها.
نرى اليوم أنّ الله يكشف عن نفسه من خلال تدخّله في حياة النّاس، دون أن يبرز نفسه في المقدّمة، بل عبر حضوره البسيط والفريد. بهذه الطّريقة، يعيد لهم الحياة والفرح الّذي لا يعرفون حتّى أنّهم فقدوه "لَيسَ عِندَهم خَمْر" (يوحنّا 2: 3). وهذا ما يتحدّث عنه النّبيّ اشعياء في القراءة الأولى.
وليمة العرس هذه (يوحنّا 2 :1)، تذكّرنا بالوليمة السّماويّة الّتي يشير إليها النّبيّ اشعياء (راجع اشعياء 25:6-10). إنّها واحدة من أسعد اللّحظات في حياة قرية صغيرة مثل قرية قانا، حيث كانت لحظة فريدة للجميع أن يجتمعوا معًا، ليأكلوا ويشربوا في أجواء من الفرح والشّركة.
في تلك اللّحظة بالذّات، في ذروة الوليمة، ينفذ الخمر، دون أن يدرك أحد. هذه هي المأساة: لا أحد يدرك أنّه لم يعد بإمكانهم أن يفرحوا، وأن يحتفلوا، وأنّ بهجة الحياة قد انطفأت ”لَيسَ عِندَهم خَمْر".
ولكن مريم لاحظت الأمر، لأنّ هذه هي دعوة من تمارس الإصغاء في حياتها "كانَت أُمُّه تَحفَظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها" (لوقا 2: 51): أن ترى الحياة بعيون الله، وأن تدرك بشكل أعمق ألم وحاجة رجال ونساء عصرها.
مريم، إذن، تتولّى الأمر (يوحنّا 2: 3)، لكنّها لا تذهب إلى العروسين ولا إلى رئيس المائدة، وهو ما يبدو أكثر منطقيًّا. إنّها لا تبحث عن حلول مؤقّتة، بل تذهب إلى مصدر الحياة والفرح، الّذي هو هناك، مختبئًا بين الضّيوف. إنّها تعلم أنّه إذا كان حاضرًا، ففي المكان نفسه الّذي يبدو فيه أنّ كلّ شيء قد انتهى، ستكون هناك بداية جديدة وحقيقيّة.
ليس من قبيل الصّدفة أن يُشير الإنجيليّ يوحنّا في الآية 11 إلى أنّ هذه أولى المعجزات الّتي صنعها يسوع "هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فآمَنَ بِه تَلاميذُه". يسوع هو البداية الجديدة، هو بداية المعجزات الّتي ستعيد الفرح والحياة للإنسان اليائس.
ومع ذلك، فإنّ هذه البداية ليست تلقائيّة، ومريم تعرف ذلك جيّدًا: لذلك تظهر للخدم الطّريق للانخراط في مسيرة الولادة الجديدة "مَهما قالَ لَكم فٱفعَلوه" (يوحنّا 2: 5). الأمر يتعلّق بالمجازفة بخطوة تنبع من الثّقة، دون الحاجة إلى إدراك كلّ التّفاصيل. وهو يرتبط، على وجه الخصوص، بالانطلاق في رحلة الاستماع، لأنّ الإصغاء إلى كلمة الله هو العيد الحقيقيّ لكلّ إنسان.
عندما يكشف الرّبّ عن نفسه، يبدو أنّه لا يتغيّر شيء: لا تظهر علامات لافتة، ولا ظهورات مدهشة. ببساطة، تبدأ الحياة في التّدفّق من جديد. تبدأ في التّدفّق من كلمة تردّدت على مسامعنا مرارًا وتكرارًا، وقد سمعناها الأحد الماضي، الكلمة الحقيقيّة للعيد: "أَنتَ ٱبنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت" (لوقا 3: 22).
تلك الكلمة هي وليمة العرس الّتي يدعونا إليها الرّبّ، وتهب لحياتنا طابعًا جديدًا وفرحًا متجدّدًا في كلّ يوم."