بيتسابالا: إنّ من لا يستجيب إلى حاجة أخيه لا يمكنه لقاء الرّبّ بشكل حقيقيّ
"يحتوي إنجيل اليوم على مقطع "مُربِك" للتّلاميذ الّذين عادوا من رسالتهم متعبين وبحاجة إلى استرجاع قواهم. ورغم دعوة يسوع لهم إلى أخذ قسط من الرّاحة فإنّنا نجد النّاس تلحّ في طلب رؤية يسوع.
ونتساءل: كيف تتوافق حاجة التّلاميذ مع حاجات النّاس؟ لماذا يطلب يسوع لتلاميذه وقتًا للانفراد والرّاحة، ولكن بعد ذلك تمامًا لا يفعل شيئًا لإبعاد الجمع الّذين أقبلوا إليه؟ وكيف يتوافق الأمران معًا؟
إن أصغينا جيّدًا، نرى أنّ هذه الأسئلة تؤثّر أيضًا على نمط حياتنا. فمن ناحية لدينا الرّغبة في أن نكون مع الرّبّ، ومن ناحية أخرى لا يمكن تلبية هذه الحاجة بالكامل، فالمرء مدعوّ بطريقة أو بأخرى إلى أن ينفتح على الآخر.
إنّ من لا يستجيب إلى حاجة أخيه لا يمكنه لقاء الرّبّ بشكل حقيقيّ.
وعليه، يرحّب يسوع بعودة التّلاميذ ويدعوهم إلى عيش خبرة انفراد وخلوة. وللتّحدّث عن هذه الخلوة، يستخدم القدّيس مرقس تعبيرين.
التّعبير الأوّل هو "تَعتَزلونَ فيه" (مرقس 6: 31)، وهو تعبير يتكرّر في إنجيل مرقس: عندما يفسر يسوع لتلاميذه على انفراد معنى الأمثال (4: 34)، وعندما يمضي ببطرس ويعقوب ويوحنّا وينفرد بهم على جبل طابور (9: 2)، وعندما يطرح عليه تلاميذه أسئلة صعبة لا يجيب عنها أمام الجميع، بل متى كانوا وحدهم (9: 28، 13: 3). في العلاقة الشّخصيّة والوثيقة الّتي تجمع بين يسوع وتلاميذه، تعود خبرة "الانعزال" هذه وتصبح مساحة تتغذّى فيها وتنمو الصّداقة والرّغبة في الإصغاء والمشاركة والمعرفة المتبادلة. وعليه يرتبط تعبير "تَعتَزلونَ فيه" بخبرة يوحي الرّبّ من خلالها عن ذاته لتلاميذه.
أمّا التّعبير الثّاني فهو "مكان قفر" (مرقس 6: 31). إنّ المكان الّذي يقود يسوع تلاميذه إلى الاعتزال فيه هو صحراء، أيّ مكان منعزل. لم تكن الصّحراء في الكتاب المقدّس مكانًا يقصده المرء للاستجمام والرّاحة، بل مكان صراع وعطش وجوع وتجربة ومسيرة شاقّة. إنّه المكان الّذي يختاره الله لشعبه كي يتعلّم فنّ الاتّكال على الله وفنّ المشاركة مع كلّ متطلّبات ذلك.
ما يسبّب الدّهشة والإرباك هو أنّ مكان القفر هذا ليس منعزلاً يصعب على النّاس الوصول إليه، بل هو مكان سالك ويسهل ارتياده، إلى حدّ أنّ النّاس يسبقونهم إليه (مرقس 6: 33). يعرفون أنّه بإمكانهم العثور على التّلاميذ في ذلك القفر.
وقد دُعي يسوع وتلاميذه كي يشعروا بجوع النّاس ورغبتهم في الحياة. دُعوا إلى العثور على الرّاحة ليس في مكان منعزل، بل في استقبال الآخر مع كلّ ما يتطلّب ذلك من عناء.
وعليه، نحن لا نذهب إلى الصّحراء، مكان العزلة، للاستجمام، بل كي نشعر بعطش وجوع الآخرين. هذه هي الخبرة الّتي تعطي الحياة معنى وحماسة وقوّة. هذه الخبرة هي ما ندعوها بالتّعاطف والشّفقة (مرقس 6: 34).
وعليه فإنّ رغبة يسوع في أن يكون مع تلاميذه وتأمين الرّاحة لهم كانت حقيقيّة.
من الصّحيح أيضًا أنّ يسوع يعلم أنّ تحقيق هذه الرّغبة يتمّ عبر استقبال الحشد الكبير من النّاس والتّنبّه لجوعهم. وهذا وحده يقود إلى الرّاحة الحقيقيّة.
في المقابل، الهروب من الواقع هو مصدر شقاء واضطراب وإحباط. من يعلم كم مرّة نجد أنفسنا مُتعبين بسبب بحثنا المفرط عن راحتنا وبسبب علاقة غير سليمة مع الرّبّ.
يتمثّل الصّراع، الّذي يُدعى التّلاميذ إلى خوضه في الصّحراء، في بحثهم عن إله لن يَصِلوا إليه إلّا بمقدار مشاركتهم إيّاه حبّه وعشقه للإنسان.
أمّا الوحي المرتبط بـ "مكان الانعزال" فلا يستهدف الرّبّ بقدر ما يستهدف رسالة التّلاميذ. لقد ذهبوا وعادوا، إلّا أنّ عودتهم لا تعني انتهاء رسالتهم ولا بدء وقت الرّاحة. لماذا؟ لأنّ جوع الإنسان لا يتوقّف، كما لا تتوقّف رغبة الله في أن يصبح ملكوته قريبًا."