بيتسابالا: أعيننا المصابة بالأنانيّة معرّضة لعدم رؤية وفهم منطق المحبّة
"يحتلّ الهيكل دورًا هامًّا في المقطع الإنجيليّ لهذا الأحد (مرقس ١٢: ٣٨– ٤٤). هناك يتواجد يسوع ليعلّم. في هذا المكان، التقى بجموع عديدة من النّاس وحاورهم. وأحيانًا تحوّل هذا الحوار إلى انتقاد لاذع.
نحن في نهاية الفصل الثّاني عشر من إنجيل مرقس. في الفصل الثّالث عشر نجد الخطاب الأخرويّ وتبدأ بعد ذلك أحداث آلام المسيح في الفصل الرّابع عشر.
وعليه، فإن اللّوحة الّتي يرسمها المقطع الإنجيليّ اليوم هي لوحة ختاميّة. وهي مسك الختام في تعليم يسوع لنا. لهذا السّبب نعتبر هذا المقطع غاية في الأهمّيّة. نجد فيه صورتين متناقضتين.
نجد في الصّورة الأولى (مرقس ١٢: ٣٨– ٤٠) شخصيّات مليئة من ذاتها وتطلب لنفسها حيّزًا كبيرًا لأنّها تسعى إلى لفت الانتباه وإثارة الإعجاب وتعزيز مكانتها.
أمّا الشّخصيّة الأخرى فهي أرملة فقيرة لا تشغل حيّزًا كبيرًا، ولا تلفت انتباه أحد سوى يسوع (مرقس ١٢: ٤١– ٤٤).
كيف تختلف هاتان الشّخصيّتان؟
يمكن أن نجد مفتاح قراءة النّصّ في مكان حدوث المشهد. إنّه الهيكل، المكان الأمثل للّقاء مع الله. هناك يصعد الإنسان لرؤيته.
في الحقيقة، لا يرى الكتبة أحدًا لانشغالهم الشّديد ولرغبتهم في لفت الأنظار إليهم. كلّ ما يقومون به، حتّى أعمالهم الدّينيّة لا تسمح لهم أن ينظروا إلى أبعد من أنفسهم. إنّهم، في إنجيل القدّيس مرقس، نقيض التّلميذ المثاليّ.
في المقابل، لا ترى الأرملة سوى أمرًا واحدًا. نظرتها إلى الله حقيقيّة وواقعيّة إلى درجة أنّها تعطيه كلّ ما تملك وكلّ حياتها.
تعبّر الأرملة عن ذلك بحركة قويّة تبدو غير منطقيّة لسببين على الأقلّ.
لماذا يُعطي المرء كلّ ما يملك ويبقى بدون لقمة العيش؟ هل من الممكن أن يطلب الله ذلك؟ ولماذا يتمّ ذلك في الهيكل ومن أجل الهيكل، طالما نقرأ بعد ذلك بآيتين نبوءة يسوع عن الهيكل الّذي لن يبق فيه حجر على حجر (مرقس ١٣: ٢)؟ وعليه، إن أعطت هذه المرأة، الفقيرة أصلاً، كلّ ما تملك، ألا تزداد فقرًا؟ في الواقع لا. بإعطائها كلّ ما لديها تصبح ثريّة، لأنّ المرء، إن أحبّ، وهب كلّ ما يملك للآخر، ولا يشعر بالفقر في لحظة العطاء. على العكس تمامًا، يشعر بغنى العلاقة الّتي كوّنها بنفسه والّتي تنعكس في الهبة الّتي قدّمها. إنّ ما نعطيه هو ما يجعلنا أثرياء.
فعلة الأرملة لا تنتهي ولا تزول. سيزول الهيكل وسيتمّ تدميره. إلّا أنّ العلاقة، الّتي عبّرت بها المرأة عن محبّتها، ستبقى لأنّها علاقة حقيقيّة. لا تكون العلاقة حقيقيّة إن لم نجازف بكلّ حياتنا وبما نملكه، تمامًا مثل هذه المرأة.
المظاهر هي فقط ما يبحث عنه الكتبة في علاقتهم مع الله. أمّا الأرملة فهي تريد إرضاء الله من خلال تقدمة كلّ ما تملك ودون الرّغبة في الظّهور.
هذا هو ببساطة منطق الإنجيل: يكسب حياته فقط من يفقدها. إنّه منطق يعرّفنا عليه إنجيل القدّيس مرقس خطوة بعد خطوة. من الآن فصاعدًا وعلى مسافة قصيرة من آلام المسيح، يرى يسوع تجسّد هذا المنطق في الأرملة الفقيرة.
كما وأنّ حضورها لا بل مثالها يُعلنان أنّ السّاعة قد حانت ويدعوان يسوع لدخول سرّ الآلام بثقة، لأنّ كلّ ما سيضحّي به بمحبّة سيتمّ استرجاعه بشكل كامل.
هذا هو نقيض منطق الكتبة. كلّ من يظنّ أنّه يربح عن طريق إعجاب النّاس به سينتهي في الدّمار على غرار الهيكل، الّذي انهدم ولم يعد ينفع.
في النّهاية نتساءل: ماذا رأت هذه الأرملة لتقوم بهذا العمل؟
نستطيع القول إنّ هذه المرأة رأت ما هو جوهريّ في الله. رأت أنّ الله في ذاته هبة لا تنضب ومجّانيّة لا حدود لها. لذلك فإنّ الطّريقة الوحيدة للقائه هي تسليم أنفسنا إليه. إنّها المقايضة الوحيدة المسموح بها في الهيكل، لأنّها تعطي للهيكل معنى وجوده، إذ يكتمل هذا المعنى في الهيكل الجديد أيّ في جسد الرّبّ، فادي الجميع.
تتقاطع النّظرات في إنجيل اليوم: يحذّرنا يسوع (مرقس ١٢: ٣٨) من أولئك الّذين يريدون لفت أنظارنا، ويريدنا بالمقابل النّظر (مرقس ١٢: ٤١ و٤٣) إلى من لا يسعى إلّا إلى نظرة الله، لأنّ هؤلاء النّاس هم المعلّمون الحقيقيّون الّذين يعلّموننا طريق الحياة.
كما يجب أن نمتلك أعينًا جديدة نالت الشّفاء على غرار عيني برطيماوس (مرقس ١٠: ٤٦– ٥٢)، وإلّا فإنّ أعيننا المصابة بالأنانيّة معرّضة لعدم رؤية وفهم منطق المحبّة، الأمر الّذي يؤدّي إلى الاستخفاف به بحسب معيارنا البشريّ."