بو جوده في رسالة الميلاد: الحوار بين مختلف مكوّنات المجتمع اللّبناني قد أعطى ثماره
"انّ حدث الميلاد ليس حدثاً تاريخيّاً عابراً نحتفل به مرّة في السّنة ثم نطوي الصّفحة لنعود فنحتفل به من جديد كل سنة، بل هو حدث دائم ومستمر، إذ أنّ المسيح يولد كل يوم وهو حاضر دائماً معنا، إذ أنّه كما قال يوحنا الرّسول قد صار بشراً وسكن بيننا، فرأينا مجده مجداً وحيداً من الآب، ملؤه النّعمة والحق. وقد جاء تنفيذاً لوعد الله لأبوينا الأولين، بعدما إبتعدا عنه ورفضاه، هذا الوعد قد تمّ بولادة المسيح يسوع، على ما يقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل غلاطية:"فلمّا تمّ ملء الزّمان أرسل الله إبنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشّريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشّريعة، فنحظى بالتّبني".
وتابع:"انّ هدف الميلاد وغايته الأولى والأساسيّة هي مصالحة الإنسان مع ذاته أوّلاً، ثمّ مع الآخرين ليستطيع المصالحة مع الله، ذلك أنّ الإنسان بعد إقترافه الخطيئة الأصليّة إكتشف عريه فاختبأ من وجه الله. لقد فقد السّلام الدّاخلي وأصبح يعيش حياة صراع مع نفسه، وفي حالة دائمة من القلق وعدم الإستقرار، كما سوف يعبّر عن ذلك بولس الرّسول في رسالته إلى أهل روما حيث يقول"نحن نعلم أنّ الشريعة روحيّة، ولكن بشر بيع ليكون للخطيئة، وحقّاً لا أدري ما أفعل، فالذي أريده لا أفعله، وأمّا الذي أكرهه فإياه أفعل. فإذا كنت أفعل ما لا أريد، فإنّي أوافق الشريعة على أنّها حسنة. فلست أنا الذي يفعل ذلك، بل الخطيئة السّاكنة فيّ، لأني أعلم أنّ الصّلاح لا يسكن فيّ، أي في جسدي، فالرّغبة بالخير هي بإستطاعتي، وأمّا فعله فلا، لأنّ الخير الذي أريده لا أفعله والشّر الذي لا أريده إياه أفعل... فمن ينقذني من هذا الجسد الذي مصيره الموت؟ الشّكر لله بيسوع المسيح ربنا. هذا الصّراع الذي يعيشه الإنسان في داخله هو البرهان القاطع على أنّه لا يعيش السّلام مع ذاته، فكيف يستطيع إذاً عيش السّلام مع الله ومع الآخرين".
أضاف بو جوده قائلاً"إنّ ما نعيشه وما يعيشه مجتمعنا اللّبناني في هذه الأيام يتنافى تماماً مع مفهوم الميلاد. فبدلاً من أن نقبل الآخر كما هو ونحترمه ونحترم آراءه، ولو كانت غير متوافقة مع آرائنا، غالباً ما نسعى إلى إلغائه والإستغناء عنه. فلنتذكّر أنّه لا وجود لنا دون الآخر، وأنّه لا يمكننا العيش بدونه. ولنتذكّر كلام بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس حيث يقول"ليس الجسد عضواً واحداً، بل أعضاء كثيرة".
وقال: "إنّنا نشكر الله على أنّ الأيام القاسية والصّعبة التي مرّت علينا في لبنان طوال سنوات طويلة، قد بدأت تتحسّن مع إنتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة جديدة. فالحوار بين مختلف مكوّنات المجتمع اللّبناني في الأشهر الماضية قد أعطى ثماره، وبدأت الأمور تتغيّر نحو الأفضل. وإنّنا نأمل أن يتابع المسؤولون السّياسيّون حوارهم الإيجابي، كي تعود للبنان الصّفة التي ميّزته منذ القديم والتي دعت البابا القديس يوحنا بولس الثاني إلى القول أنّه ليس مجرّد وطن، بل هو رسالة للشّرق والغرب، وللعالم أجمع؛ ويعود الناس ليقولوا: هنيئاً لمن له مرقد عنزة في لبنان".
وأردف:"لكن يبقى في القلب غصّة كبيرة، وألم كبير عندما ننظر إلى ما يحصل حولنا في بلدان شقيقة كالعراق وسوريا ومصر واليمن وغيرها من البلدان المجاورة، حيث تتساقط الضّحايا بالألوف، وحيث يعاني عدد كبير من إخوتنا المسيحيين خاصّةً، وغيرهم من المواطنين، من الإضطهاد والتّشريد والتّهجير، دون أن يجدوا لهم مأوى يلجأون إليه. ولذلك، فإنّ مسؤوليّتنا كمسيحيين هي العمل على مساعدتهم، وأن نتذكّر أنّ المسيح نفسه، وهو ما زال طفلاً قد هجّر، وانّ عدداً من أطفال بيت لحم قد ذبحوا بأمر من الطاغية هيرودس. فكم من الأطفال اليوم يهجّرون مع أهلهم في البلدان المجاورة ليعيشوا في المخيمات أو في العراء، محتملين البرد القارس دون أن يحصلوا على أيّة مساعدة. فهل يحقّ لنا أن نبقى غير مبالين أمام هذا الواقع؟ هل نقبل بأن نرمي ما يفضل عنّا من طعام جاهز بمناسبة الأعياد في سلال المهملات، ولا نساعد إخوةً لنا وأطفالاً هم معرّضون للموت جوعاً، ونحن متخمون؟ فلنتذكر، في هذه الأعياد قول السيد المسيح في إنجيل متى"كلّما فعلتم شيئاً لأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فلي أنا قد فعلتموه".
وختم بو جوده:"عيد الميلاد هو عيد المصالحة والسّلام، عيد أعلنه الملائكة عندما أنشدوا المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السّلام. فليكن بالنّسبة لكلّ واحد منّا عيد مسامحة وغفران، عيد إستقبال الرب يسوع إله السّلام في قلوبنا وعقولنا وليس فقط في بيوتنا ومنازلنا والمغارة المزيّنة والمتلألئة بالأنوار... فلنضئ قلوبنا للرّب يسوع ولنفتح له آذاننا لسماع تعاليمه والعمل بمقتضاها، ولنحفظها في قلوبنا على مثال العذراء، كي نستحقّ نحن أيضاً أن نسمع منه فيما بعد، في نهاية حياتنا على الأرض: "طوبى لكم لأنّكم سمعتم كلام الله وعملتم به".