بوجوده: مسيحيّو الشّرق يتحمّلون الآلام الكبيرة والاضطهادات القاسية
"نحتفل اليوم بعيد قدّيسة وصلت إلى القداسة من خلال الألم والعذاب. وقد يبدو في الأمر تناقض كبير، لأنّ الإنسان بطبيعته يسعى إلى اجتناب كلّ ما يسبّب له العذاب والألم، وبصورة خاصّة في عالمنا ومجتمعنا المعاصر، عالم البحث عن الرّاحة والبحبوحة والملذّات. إذ يكفينا أن نرى ما تعرضه علينا وسائل الإعلام الحديثة، المرئيّة والمسموعة والمقروءة، التي تدعونا كلّها إلى العودة إلى فلسفة المفكّر اليوناني القديم Epicure الذي أطلق شعارًا ما زال معتمدًا عند الكثيرين اليوم، وهو يقول: "إستفد من الحياة واستغلّها قدر المستطاع". أمّا القدّيسة رفقا، فقد تصرّفت على عكس ذلك تماماً إذ أنّها، بعدما كانت تتمتّع بصحّة جيدة، توجّهت في صلاتها إلى الرّبّ يسوع وطلبت منه أن يشركها بآلامه لكي تتمّ في حياتها ما قاله بولس الرّسول: "إنّني أتمّم في جسدي ما نقص من آلام المسيح". منذ طفولتها عرفت بطرسيّة الشبق الرّيس العذاب والألم المعنويّ أوّلاً، إذ أنّها فقدت والدتها وهي ما تزال بأمسّ الحاجة إليها، ما اضطرّها إلى العمل كخادمة في إحدى العائلات الدّمشقيّة. كما اختبرت الألم المعنويّ عندما سمعت خالتها وزوجة أبيها تتنافسان لإعطائها بالزّواج، كلّ واحدة منهما إلى شخص مقرّب إليها، فشعرت وكأنّها في نظرهنّ سلعةً للبيع والشّراء، بدون أن يكون لها رأي في الأمر.
عرفت كذلك الألم والعذاب عندما رأت أبناء شعبها وكنيستها يضطّهدون ويقتلون بالمئات والألوف في أحداث العام 1860، حيث تعرّض الكثيرون من المسيحيّين للذبح بينما السّلطات السّياسيّة التّركيّة تغضّ الطّرف عمّا يحدث، لا بل أكثر من ذلك، تسهم وتشارك علنيًّا في هذه المذابح. أمّا في الدير، وبعدما كانت تعيش حياة هادئة هانئة، تكرّس فيها وقتها للعمل والصّلاة، فقد استجاب الرّبّ يسوع طلبها فأشركها في آلامه، في قلع إحدى عينيها أوّلاً ثمّ إصابتها بالعمى الكلّيّ، وفي مرض العظام المؤلم الذي ضرب كلّ جسمها، فكانت تشعر بالآلام المبرحة التي جعلتها طريحة الفراش لا تقوى على النّهوض أبدًا، لكنّها مع ذلك سعت جهدها كي تصل بقدرتها الذّاتيّة زحفًا حتّى الكنيسة لتشارك في تكريم القربان المقدّس وعبادته. كلّ ذلك لا نستطيع أن نفهمه بشريًّا، وقد يعتبره البعض نوعًا من مرض نفسي إسمه المازوخيّة والذي يجعل الإنسان سعيدًا في تحمّله للألم في سبيل الألم. لكنّ ذلك لا يصحّ في القديسة رفقا، لأنّها لم تسع إلى الألم في سبيل الألم، بل إلى ما يمكننا أن نسمّيه الألم الخلاصيّ الشّبيه بآلام السّيّد المسيح، إذ إنّ العبارة التي كانت تتردّد على لسانها على الدّوام هي: مع آلامك يا يسوع، إنّه الألم الشّبيه بالنّار التي تحرق التّراب وتطهّره وتنقّيه، ليخرج منه الذّهب الرّنان والجميل.
إنّه الألم الشّبيه بآلام المسيح على الصّليب، الذي لم يسع إليه بطلب من أبيه أن يبعده عنه عندما قال: "يا أبت أبعد عنّي هذه الكأس إذا كان ذلك مستطاعًا، لكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك."
إنّه ألم شبيه بألم الصّليب، وهو من أشد الآلام قساوة إذ كان ملعونًا كلّ من علّق عليه، لكنّ نهايته كانت القيامة والانتصار حتّى على الموت. وهذا ما جعل القدّيس بولس يقول في رسالته الأولى إلى أهل قورنثية: "إنّي لا أريد أن أعرف بينكم أيُّها الإخوة إلّا يسوع المسيح، ويسوع المسيح المصلوب، لأنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة، أمّا عندنا نحن المخّلصين، فهي قوّة الله. فلقد تحمّل المسيح الألم والعذاب أوّلاً في حمل صليبه، وفي تلقّيه الضّربات والجلد من قبل الجنود والجموع، ثمّ في رفعه على الصّليب، بعدما كلّل بالشّوك، ثمّ طعن جنبه بحربة، وقد شاركته كلّ تلك الآلام أمّه مريم التي بقيت واقفة على أقدام صليبه، ثم قبّلته في حضنها بعد موته، وهي صامدة ثابتة في إيمانها واثقة بأنّها المرأة التي قال عنها سفر التّكوين بأنّها ستكون أمًّا للذي سيسحق رأس الحيّة الشّيطان.
بهذه المشاركة في الآم المسيح تقدّست القدّيسة رفقا، إذ تحمّلت الآلام والعذابات المبرحة عندما عاشت أحداث 1860 في دير القمر، التي إستشهد فيها آلاف المسيحيّين، وقد خلّصت أثناءها طفلاً تحت ثوبها الرّهبانيّ كي لا يقتله المسلّحون. وقد مجّدها الله مع إبنه يسوع ورفعها إلى درجة القداسة لتكون مثالاً وقدوة لجميع المسيحيّين، وبصورة خاصّة لمسيحيّي الشّرق الذين يتحمّلون في هذه الأيّام الآلام الكبيرة والاضطهادات القاسية، كما هو حاصل في العراق ومصر والباكستان وغيرها من البلدان. فإنّ آلامهم لن تذهب سدى، بل على العكس تمامًا فإنّها ستكون آلامًا خلاصيّةً، وتجعل من الدّماء التي تسفك حبًّا بالمسيح زرعًا لمسيحيّين جدد كما يقول ترتليانوس.
بهذا الموضوع تحدّث قداسة البابا فرنسيس، بمناسبة الاحتفال بعيد القدّيس مكسيميليان كولب الذي افتدى أحد الحكومين بالموت تحت الحكم النّازيّ. وهنالك اليوم الكثير من الشّهداء المضطهدين حبًّا بالمسيح، ويعطي قداسته فكرة واضحة عن عدد المسيحيّين الذين استشهدوا سنة 2016 وقد بلغ عددهم 90 ألفًا، ويضيف إنّ بين 500 و600 مليون مسيحي لا يستطيعون اليوم التّعبير بحرّيّة عن إيمانهم وعيشهم في مجتمع اليوم.
وإنّ الدّعوة موجّهة لنا جميعًا اليوم لكي نجعل من هذه العذابات والآلام التي تصيبنا آلامًا شبيهة بآلام المسيح، آلامًا خلاصيّةً تجعلنا ننتصر على الموت، ونتحوّل إلى شهود حقيقيّين له مردّدين مع القدّيسة رفقا: "مع آلامك يا يسوع"، إنّنا نقبل منك كلّ ما ترسله إلينا من صعوبات، ونتّكل عليك أنت الذي قلت إنّك ستبقى معنا إلى منتهى الدّهر، كي تقوّينا في إيماننا وترسّخنا فيه؛ فنعيش الشّعار المستوحى من رسالة القدّيس بولس إلى أهل كولوسي الذي يقول فيها: "إنّي أفرح في الآلام التي أقاسيها لأجلكم، وأتمّ في جسدي ما ينقص من مضايق المسيح لأجل جسده، الذي هو الكنيسة" (كولوسي1/24). فنبقى راسخين في الإيمان، متجذّرين ومتأصّلين فيه، مبنيّين على المسيح."