بمَ أوصى البابا لاون الرّابع عشر الرّاهبات الأوغسطينيّات؟
البابا الّذي عبّر عن فرحه باستقبالهنّ بمناسبة انعقاد جمعيّتهمّ العامّة العاديّة، قال في تفصيل كلمته بحسب "فاتيكان نيوز": "إنّه لمن دواعي سروري البالغ أن ألتقي بكنّ بمناسبة انعقاد جمعيتكنّ العامّة العاديّة. وأُحيّي الرّئيسة المنتخبة حديثًا، وأتمنّى لها كلّ التّوفيق، كما أشكر سابقتها على الجهد الّذي بذلته. إنّ اتّحاد الأديرة الأوغسطينيّة في إيطاليا يجمع كيانات رهبانيّة مُتعدّدة، ولكن تجمعها الموهبة عينها، وهذا يحمل دلالة خاصّة في زمن تلتزم فيه الكنيسة بأسرها بتعميق وتعزيز بُعدها السّينودسيّ. لقد ذكّرنا البابا فرنسيس بمدى أهمّيّة السّير معًا في اتّباع المسيح: أن نصغي مُتّحدين إلى صوت الرّوح القدس و"أن نتوجّه إلى وجه وكلمة الآخر، أن نلتقي وجهًا لوجه، وأن نسمح بأن تلمسنا أسئلة الأخوات والأخوة، [...] لكي يُغنينا التّنوّع". إنّ هذه القيمة متأصّلة في طبيعة شعب الله ذاتها، وهي شهادة نبويّة للمحبّة تُعدّ بالغة الأهمّيّة اليوم، في عالم تتضاءل فيه سُبل الحوار والمشاركة.
في هذا السّياق، أودّ أن أشير إلى ثلاثة جوانب من حضوركنّ ورسالتكنّ التّأمّليّة في الكنيسة. الأوّل هو عيش فرح الاتّحاد بالله والشّهادة له. لقد ترك لنا القدّيس أوغسطينوس صفحات في غاية الجمال في هذا الشّأن. ففي "الاعترافات" يتحدّث عن سرور يُمنح للّذين يخدمون الرّبّ بمحبّة خالصة، ويخلص إلى القول: "هذه هي السّعادة، أن تستمتع بنفسك، من نفسك، بسبب نفسك، ولا يوجد سعادة أخرى خارجها". إنّ الفرح الكامل للإنسان، ولاسيّما للمسيحيّ، يكمن في الشّركة مع الرّبّ، في تلك الألفة مع العريس السّماويّ الّذي تُكرِّسن له حياتكنّ بأسرها بحكم الدّعوة. وكما نعلم، لقد كانت هذه أيضًا هي الرّغبة الكبرى لأسقف هيبو القدّيس: حلم اضطر إلى التّنازل عنه بسبب التزامات الخدمة. لذا، فإنّ أوّل دعوة أوجّهها لكنّ هي أن تبذلن أنفسكنّ بمحبّة بلا انقسام في هذه الدّعوة، وأن تعانقن حياة الدّير بشغف: اللّيتورجيا، الصّلاة المشتركة والشّخصيّة، السّجود، تأمّل كلمة الله، والمساعدة المتبادلة في الحياة الجماعيّة. سيمنحكنّ ذلك سلامًا وعزاءً، وسيعطي رسالة رجاء أبلغ من ألف كلمة للّذين يطرقون أبواب أديرتكنّ.
وهكذا نأتي إلى البعد الثّاني من حضوركنّ في الكنيسة الّذي أودّ أن أسلّط الضّوء عليه: شهادة للمحبّة. في المثال الأوغسطينيّ، أنتنّ مدعوّات، بالأمانة للقاعدة، إلى التّشبّه بحياة الجماعة المسيحيّة الأولى في الشّركة الأخوية. قال ملفان النّعمة: "ليمنحكم الرّبّ أن تحفظوا هذه القواعد بمحبّة، كعاشقات للجمال الرّوحيّ، وتُطلِقن من حياتكنّ المشتركة المقدّسة أريج المسيح الذّكيّ". لذلك، لكي تنشرن عطر الله الزّكيّ في العالم، اجتهدن في أن تُحبّ الواحدة الأخرى بمودّة صادقة، كأخوات، وأن تحملن في قلوبكن، في الخفاء، كلّ رجل وامرأة في هذا العالم، لتقدّموهنّ للآب في صلاتكنّ. ولتكن عنايتكنّ واهتمامكنّ ببعضكنّ البعض بدون جلبة، وكنّ قدوةً في العناية بالجميع، حيثما تتطلّب الحاجة وتسمح الظّروف. ففي مجتمع تتّجه أنظاره بشدّة نحو الظّواهر الخارجيّة، وحيث لا يتردّد البعض، أحيانًا، في انتهاك احترام الأشخاص والمشاعر بحثًا عن الشّهرة والتّصفيق، ليكن مثالكنّ للمحبّة الصّامتة والخفيّة عونًا لاكتشاف قيمة المحبّة اليوميّة والرّصينة، المنصرفة إلى جوهر المودّة والمتحرّرة من عبوديّة المظاهر.
أمّا الموضوع الثّالث المهمّ الّذي أودّ التّوقّف عنده هو الاتّحاد نفسه. لقد سبق أن أيّد البابا المُكرّم بيوس الثّاني عشر بقوّة تعزيز هذا الشّكل التّشاركيّ في الحياة الرّهبانيّة "للحصول على توزيع أيسر وأكثر ملاءمة للمهام، وانتقال مؤقّت مفيد وضروريّ غالبًا للرّاهبات من دير إلى آخر لأسباب متنوّعة، ومساعدة اقتصاديّة متبادلة، وتنسيق للعمل، وصون للمحافظة المشتركة وغيرها من الأسباب". وقد أكّد البابا فرنسيس بشدّة على أهمّيّة السّير في هذا الاتّجاه في الدّستور الرّسوليّ "وجهك يا ربّ نلتمس"، والّذي تلته توجيهات تنفيذيّة دقيقة في الإرشاد "القلب المصلّي"، لكي "لا تبقى الأديرة الّتي تتشارك الموهبة عينها معزولة، بل تحافظ عليها في الأمانة، وتعيش القيمة الّتي لا غنى عنها للشّركة، مقدّمةً مساعدة أخويّة متبادلة".
كلّ هذا يُبرز مدى تقدير الكنيسة لأشكال التّعاون المذكورة، والحاجة إلى أن يعزّز الجميع العضويّة فيها ويعيشوها بشكل ملموس، بالانضمام إلى المبادرات المقترحة، حتّى على المستوى الوطنيّ، والانفتاح، عند الضّرورة، على فرص دعم خاصّة مثل الاندماج. إنّه تحدٍّ صعب، ولكن لا يمكن التّراجع عنه، حتّى لو تطلّب الأمر اتّخاذ خيارات صعبة وتقديم تضحيات، والتّغلّب على إغراء "المرجعيّة الذّاتيّة" الّذي قد يتسلّل أحيانًا إلى أوساطنا. فستعود منه بالضّرورة فوائد عظيمة على الجماعات، في مجالات متعدّدة، ولاسيّما في مجال التّنشئة الأساسيّ. لنتذكّر ما قاله القدّيس أوغسطينوس: "ما ترغب فيه جميل، وجدير بأن يُحَبَّ إلى أقصى درجة [...]. فليكن هذا الشّغف سببًا لك لا لرفض النّظام، بل لقبوله، لأنّه بدونه لا يمكن الوصول إلى ما يُحَبُّ بهذا الشّغف". أيّتها العزيزات، شكرًا لكنّ مرّة أخرى على حضوركنّ وعلى الدّعم المصلّي الّذي تقدِّمنَه لشعب الله بأسره. وأنا بدوري أعدكنّ بأن أذكركنَّ في صلاتي وأبارككنّ من صميم القلب."
