بالتّفاصيل- الكلمات الّتي تُليت في افتتاح أعمال الجمعيّة السّينودسيّة القارّيّة للكنائس الكاثوليكيّة في الشرّق الأوسط
"في العام ١٩٩٢، وجّهَ بطاركةُ الشّرقِ الكاثوليك، إلى أبنائهم الموجودين في الشّرقِ والمنتشرين في أصقاعِ الأرض، رسالةً راعويّة بعنوان: "الحضورُ المسيحيُّ في الشّرق، شهادةٌ ورسالة". هذه الرّسالةُ رَسمَتْ لنا طريقَ الكنائسِ الكاثوليكيّة في الشّرق واختصرَتْ هويّتَها ومستقبلَها بكلمةِ "حضور". وإسمحوا لي في بدايةِ أعمالِ هذه الجمعيّةِ أن أتذكّرَ وإيّاكم ما وردَ في هذه الرّسالةِ حولَ دعوتِنا المشترَكة.
في هذه الرّسالةِ الرّاعويّةِ تحدّثَ الآباءُ بإسهابٍ عن حضورِنا في هذا الشّرقِ كدعوةٍ مِنَ الله، وهو شهادةٌ ورسالةٌ. وعلى مثالِ المسيح وكنيستِه، فإنَّ حضورَنا هذا هو حضورٌ متجسِّدٌ، فاعلٌ وأصيلٌ، في اللّغةِ العربيّةِ وفي التّراثِ العربيِّ ونحن من بُناته وفي الحضارةِ العربيّةِ ونحن من شاركَ في ارسائها. وحضورُنا، هو أيضًا حضورٌ في خدمةِ الإنسانِ دونَ تفرقةٍ أو تمييزٍ، وحضورُنا هو حضورٌ مسكونيٌّ للتّعاونِ المشترَك، وحضورُنا في الشّرقِ هو حضورُ الحوارِ مع ذوي الإرادةِ الصّالحة من مسلمين ويهود، وأخيرًا حضورُنا في بعدِهِ العالميِّ، بفضلِ أبنائنا المنتشرين، هو شركةُ الإيمانِ والمحبّةِ والانتماءِ الحضاريِّ أينما وُجِدْنا.
بعد مرورِ ثلاثين سنةً على ورقةِ الطّريق هذه، أعلنَ قداسةُ البابا مسيرةً سينودوسيّةً بعنوان "نحو كنيسةٍ سينودوسيّةٍ، شركةٌ مشاركةٌ ورسالة". أوليس "حضورُنا" الّذي شاءه البطاركةُ يتماهى مع هذه المسيرةِ السّينودوسيّة؟ أليس حضورُنا في هذا في الشّرقِ هو الشّركةَ الّتي تجمعُنا؟ أليست هذه هي المشاركةَ الفعّالة، والشّهادةَ الحقّة؟ نجتمعُ اليومَ، سبعُ كنائس كاثوليكيّة: أقباط، وسريان، وموارنة، وملكيّون، وكلدان، وأرمن ولاتين. توافدنا من الأراضي المقدّسة والأردنّ ولبنان وسوريا ومصر والعراق وأرمينيا، لِنصغيَ الى "ما يقولُهُ الرّوحُ للكنائس" ولِنصلّيَ ونفكّرَ معًا حولَ همومِنا المشتركة ونتشاركَ تطلّعاتِنا المستقبليّةِ بالرّجاءِ الّذي لا يَخيبُ. أمورٌ كثيرةٌ تجمعُنا وتوحّدُنا. تجمعُنا أوضاعُ بلدانِنا، حيث نفتقرُ جميعًا، وفي غالبِ الأحيان، إلى حرّيّةِ المُعتَقَد وحرّيّةِ التّعبير، وحرّيّةِ المرأة وحرّيّةِ الطّفل؛ ونسعى جميعًا وِفْقَ طاقاتِنا إلى محاربةِ الفسادِ في السّياسةِ والاقتصاد؛ ونسعى جميعًا إلى ممارسةِ الشّفافيّة في مؤسّساتِنا الدّينيّةِ والاجتماعيّةِ ونتوقُ إلى ممارسةِ المواطَنَةِ المسؤولة، ومحاربةِ الفَقْرِ والجهل. ونتألّمُ جميعًا من هجرةِ أبنائنا الّذين ضاق بهم أفقُ العيشِ الكريم، فتضاءلَ بذلك وجودُنا وشهادتُنا في الأرضِ الّتي اختارَها الرّبُّ موطنًا له... ولكنْ، نحن أبناءُ الكنيسةِ، لا تجمعُنا فقط همومُ الحياةِ وصعابُها، بل تجمعُنا أيضًا معموديّةٌ واحدةٌ، وإيمانٌ واحدٌ ومحبّةٌ واحدةٌ ورجاءٌ واحد. وإنطلاقًا من هذا الّذي يوحّدُنا، نعقِدُ هذا الأسبوعَ جمعيّتَنا السّينودوسيّةَ لنختُمَ بها المرحلةَ الثّانيةَ من "السّيرِ معًا"، أعني المرحلةَ القارّيّة. وقد حرَصْنا على أنْ تكونَ جمعيّتُنا، كما شاءها قداسة البابا فرنسيس.
ولأنّها المرّةُ الأولى الّتي يجتمعُ فيها شعبُ الله في مختلفِ بلدانِ الشّرق الأوسط ومن الكنائسِ السّبعِ الكاثوليكيّة، إسمحوا لي مرّةً أخرى أن اردّدَ على مسامعِكم ما وردَ في الرّسالةِ الرّاعويّةِ الأولى لأصحابِ الغبطة البطاركة، الّتي كُتِبَتْ منذُ ثلاثينَ سنة، ولا تزالُ تحاكينا اليوم في جمعيّتِنا السّينودوسيّة هذه. يقول السّادةُ البطاركة إلى أبنائهم وإلى إخوتِهم في الكنائسِ المشرقيّة الأخرى: "إنَّ كنائسَنا في الشّرقِ تمتازُ بقِدَمِها، وغنى تراثاتِها، وتنوّعِ تعابيرِها الطّقسّية، وأصالةِ روحانيّاتِها وآفاقِها اللّاهوتيّة، وقوّةِ شهادتِها عَبْرَ القرونِ الّتي وصلَتْ حتّى الاستشهادِ البطوليِّ في بعضِ الأحيان. وكلُّ هذا رصيدٌ حيٌّ نحملُه في قلوبِنا، وحافزُ أملٍ عظيم، ومصدرُ ثقةٍ وثباتٍ نستلهمُه بينما نتلمسُ طريقَ المستقبل. إنَّ التّنوّعَ هو السِّمَةُ الأساسيّةُ للكنيسةِ الجامعةِ والمسيحيّةِ في الشّرق. ولقد كان هذا التّنوّعُ دومًا مصدرَ غنىً للكنيسةِ جمعاءَ عندما عشْناه في وحدةِ الإيمانِ وبروحِ المحبّة. ولكنّه، يا للأسفِ الشّديد، تحوّلَ إلى انقسامٍ وفرقةٍ بسببِ خطايا البشرِ وابتعادِهم عن روحِ المسيح. ومع هذا فإنَّ ما يجمعُنا أكثرُ وأهمُّ ممّا يفرّقُنا ولا يحولُ دونَ تلاقينا وتعاونِنا. إنَّ مسيحيّةَ الشّرقِ، على انقساماتِها، تشكّلُ في أساسِها وحدةَ إيمانٍ لا تتجزّأ. إنّنا مسيحيّون معًا في السّرّاءِ والضّرّاء. فالدّعوةُ واحدةٌ والشّهادةُ واحدةٌ والمصيرُ واحدٌ. وعليه فنحن مطالَبون بالعملِ معًا، بشتّى الطّرقِ والوسائل، لتثبيتِ جذورِ المؤمنين الموكلين إلينا، بروحِ الأخوّةِ والمحبّة، في مجالات عدّة يدفعنا إليها الخير المشترك لعامّةِ المسيحيّين، كما تدفعنا إليها تطلّعاتُ جميعِ المؤمنين من مختلفِ الكنائس المسيحيّةِ، الّذين يضعون كبيرَ آمالِهم في تعاونِنا وتقارُبِنا. في الشّرقِ، نكونُ مسيحيّين معًا أو لا نكون. وإن لم تكنْ العلاقاتُ بين الكنائسِ في الشّرقِ دومًا على ما يرام لأسبابٍ كثيرة، منها الدّاخليّةُ ومنها الخارجيّة، فقد حانَ الوقتُ أن ننقّيَ ذاكرتَنا المسيحيّة من رواسبِ الماضي السّلبيِّة مهما كانت مؤلمةً، كي ننظرَ معًا إلى المستقبلِ بروحِ المسيح وبهدْيِ إنجيلِهِ وتعاليمِ رسلِه".
بعدها كانت كلمة لمنسّق الجمعيّة العامّة السّادسة عشرة لسينودس الأساقفة الكاردينال جان- كلود هولريخ جاء فيها: "بعد إغلاق المرحلة الأولى من مسيرتنا السّينودسيّة المتعلّقة بالكنائس الخاصّة والحقائق الكنسيّة الأخرى، تبدأ منذ شهر شباط فبراير ٢٠٢٣ المرحلة القارّيّة. وفي هذه المناسبة، يشرّفني بشكل خاصّ أن أكون حاضرًا في الشّرق الأوسط، حيث للسّينودسيّة تقليد طويل ولرغبتي بأن أختبر وأتعلّم السّينودسيّة منكم. وبفضل مساهمتكم الثّمينة، أنا مقتنع تمامًا، أنّه يمكن للكنيسة الجامعة أن تُصبح أكثر سينودسيّة، وأنّها قادرة أن توسّع مساحة خيمتها.
كما نعلم، جعل البابا فرنسيس من السّينودسيّة، الّتي تُفهَم على أنّها "السّير معًا" بالإصغاء إلى الرّوح، المحور المركزيّ لحبريّته. وإذا اجتمعنا الآن هنا في بيروت، فنحن نساهم، بالاشتراك مع الجمعيّات القارّيّة الأخرى وعلى أساس وثيقة العمل والتّقاليد السّينودسيّة الطّويلة في الشّرق الأوسط، في العثور على إجابة للسّؤال الأساسيّ الّذي يوجّه المسيرة السّينودسيّة برمّتها، وهو التّالي: "كيف يتحقّق هذا" السّير معًا "الّذي يسمح للكنيسة بإعلان الإنجيل، وفقًا للرّسالة الموكلة إليها، والّتي يجب أن تتحقّق اليوم على مستويات مختلفة؟ وما هي الخطوات الأخرى الّتي يدعونا الرّوح القدس إلى اتّخاذها لكي ننمو ككنيسة سينودسيّة؟
نحن نعلم أنّ "السّير معًا" مفهوم يَسهُل التّعبير عنه بالكلمات، ولكن ليس من السّهل تطبيقه". ويُعَدّ هذا "السّير معًا" أكثر دقّة في الشّرق الأوسط الّذي يتغنّى بواقع متعدّد الأديان والطّوائف، إلّا أنّ هذا التّنوّع هو بحدّ ذاته ثراء وفرصة جميلة تجعل السّينودسيّة ممكنة، لأنّها تتعلّق بالسّير معًا وليس السّير بانفراد. ومع الاقتناع بأنّ السّير السّينودسيّ هو من صنع الرّبّ، فإنّنا نسمح لأنفسنا بأن يقودنا روحه، الّذي هو البطل الحقيقيّ لرواية السّينودس. كما أودّ أن أدعونا لنسمح لأنفسنا بأن يسترشدنا الرّوح القدس خلال الاجتماعات المختلفة لهذة الجمعيّة في بيروت ليتجلّى فينا روح السّينودسيّة مثل "النّمط الرّسوليّ" للكنيسة، لمواجهة تحدّيات العالم المعاصر".
بعدها كانت كلمة للأمين العامّ لسينودس الأساقفة الكاردينال ماريو غريتش سلّط فيها الضّوء على جانبين من جوانب المسيرة السّينودسيّة حتّى الآن، وقال: "الجانب الأوّل: إنّه لمن المهمّ أن يتّضح للجميع أنّ نجاح المسيرة يعتمد على المشاركة الفعّالة لشعب الله والرّعاة. إنّ الممارسة الصّحيحة للمجمع السّينودسيّ لا تضع هذين الموضوعين في منافسة أبدًا، ولكنّها تحافظ عليهما في علاقة ثابتة، ممّا يسمح لكليهما بأداء وظيفتهما الصّحيحة. لقد مكّنَت المشاورة في كنائس معيّنة شعب الله من تنفيذ تلك الطّريقة الصّحيحة للمشاركة في الوظيفة النّبويّة للمسيح، والّتي تتجلى في حسّ الإيمان أو معرفة الله sensus fidei لجميع المعمَّدين. ويمكننا أن نعتبر فعلاً أنّ ديناميكيّة الشّركة هذه ثمرة التّجربة المجمعيّة الّتي تبدّد أكثر من بضع مخاوف أوّليّة. إنّ مشاركة شعب الله بنشاط في حياة الكنيسة لا ينتقص من الخدمة الهرميّة بل، يقوّيها ويظهر وظيفتها الّتي لا غنى عنها في حياة الكنيسة.
الجانب الثّاني، هو أهمّيّة الإصغاء. الإصغاء إلى الرّوح القدس الّذي يتكلّم إلى الكنيسة. فالقول بأنّ "الكنيسة المجمعيّة هي كنيسة إصغاء" لا يمكن ولا يجب اختزاله في عبارة بلاغيّة. وكنّا قد طلبنا في الوثيقة التّحضيريّة أن نصغي إلى الجميع، حتّى البعيدين لأنّنا بالكلّ نعني الكلّ، ولا أحد مُستبعد. وفي هذا الصّدد، أشعر بالحاجة إلى التّأكيد على أنّه انطلاقًا من هذه المرحلة القارّيّة تحديدًا، علينا أن نكون أكثر انتباهًا للأصوات "داخل" الكنيسة، وتحديدًا تلك الأصوات الّتي تحدث اضطرابًا في الجسد الكنسيّ في كثير من الأحيان. كما نحن مدعوّون جميعًا، بضميرنا، إلى تقديم ردودنا: من المقتنعين بعمق إلى الّذين لا يزالون لديهم شكوك وصولاً إلى الّذين يعارضون علنًا. فلا أحد ممنوع من الكلام. ولهذا السّبب يجب أن نطلب من الرّوح المزيد من الشّجاعة للتّكلّم بالعلن، لنوضح قناعاتنا بالكامل، ولكن أيضًا للإصغاء الكامل إلى صوت الآخرين. ويمكن للجمعيّات القارّيّة، الّتي تشكّل فعلًا إضافيًّا للبصيرة الكنسيّة، أن تلعب دورًا حاسمًا في هذا المجال. هذا هو التّمييز الّذي تنتظره أمانة السّينودس من المرحلة القارّيّة لكي تتمكّن، على أساس الوثائق الصّادرة عن الجمعيّات القارّيّة السّبع، من وضع أداة عمل للجمعيّة العامّة تكون حقًّا تعبير عن الشّركة الكنسيّة.
أودّ أن أعبّر عن اقتناع قد أضفناه نضوجًا مع تقدّم المسيرة السّينودسيّة وهو أنّ الرّوح يقودنا لتتبّع المسار الكاثوليكيّ نحو السّينودسيّة. أنا على يقين أنّه من خلال هذا المسار سيكون من الممكن أيضًا إحراز تقدّم في الحوار المسكونيّ. ليرشد روح الرّبّ القائم من بين الأموات أنّ خطواتنا ويمنحنا الشّجاعة للسّير في الطّريق السّينودسيّ، الّذي- أنا أؤمن بهذا من كلّ قلبي- هو الطّريق الّذي يفتحه الرّبّ على كنيسة الألفيّة الثّالثة."