بارولين: علينا أن نقبل إرث البابا فرنسيس ونحوّله إلى حياة معاشة
وفي عظته، دعا الكاردينال بارولين الشّباب لكي يغذّوا حياتهم بالرّجاء الحقيقيّ الّذي له وجه يسوع المسيح، وقال بحسب "فاتيكان نيوز": "تراءى يسوع القائم من بين الأموات لتلاميذه وهم مجتمعون في العلّيّة، حيث أغلقوا على أنفسهم الأبواب خوفًا. كانت نفوسهم مضطربة وقلوبهم غارقة في الحزن، إذ إنّ المعلّم والرّاعي الّذي تبعوه تاركين كلّ شيء قد سُمِّر على الصّليب. عايشوا مشاهد رهيبة، وأحسّوا باليتم والوحدة والتّيه، وكأنّهم مهدّدون بلا ملجأ ولا نصير.
إنّ هذه الصّورة الأولى الّتي يعرضها علينا الإنجيل في هذا الأحد تُجسّد بأمانة حالنا نحن أيضًا: حال الكنيسة والعالم بأسره. فالرّاعي الّذي أنعم به الرّبّ على شعبه، البابا فرنسيس، قد أنهى رحلته الأرضيّة وتركنا. نحيا اليوم ألم الفراق، ويغمرنا حزن عميق، ويعتصر القلق قلوبنا، وتتملّكنا مشاعر التّيه، تمامًا كما شعر الرّسل بموت يسوع. ومع ذلك، يعلن لنا الإنجيل أنّه في لحظات الظّلمة هذه بالذّات، يأتي إلينا الرّبّ بنور قيامته ليبدّد ظلمات قلوبنا. هذا ما ذكّرنا به البابا فرنسيس منذ بداية حبريّته، وجعل منه محور خدمته، مؤكّدًا أنّ فرح الإنجيل– كما كتب في الإرشاد الرّسوليّ فرح الإنجيل– هو "الفرح الّذي يملأ قلب وحياة الّذين يلتقون بيسوع. والّذين يسمحون له بأن يخلّصهم يتحرّرون من الخطيئة والحزن والفراغ الدّاخليّ والعزلة. فمع يسوع المسيح يولد الفرح وينبعث على الدّوام".
إنّه الفرح الفصحيّ الّذي يعضدنا في ساعات المحنة والحزن، والّذي نشعر به اليوم يكاد يكون ملموسًا في هذه السّاحة؛ نراه مرتسمًا بنور خاصّ على وجوهكم أنتم، أيّها الفتيان والفتيات الّذين جئتم من مختلف أصقاع الأرض لتحتفلوا باليوبيل. لقد أتيتم من جميع أبرشيّات إيطاليا، ومن أوروبا، ومن الولايات المتّحدة إلى أميركا اللّاتينيّة، ومن أفريقيا إلى آسيا، ومن الإمارات العربيّة المتّحدة... معكم، حقًّا، يحضر العالم كلّه! إليكم أوجّه تحيّة خاصّة، ملؤها الرّغبة بأن تشعروا بحضن الكنيسة ودفء محبّة البابا فرنسيس، الّذي كان يتمنّى لو التقاكم، ونظر في أعينكم، وجال بينكم ليحيّيكم.
أمام التّحدّيات العديدة الّتي تنتظركم– وأخصّ بالذّكر تحدّي التّكنولوجيا والذّكاء الاصطناعيّ، السّمة البارزة لعصرنا– لا تنسوا أبدًا أن تغذّوا حياتكم بالرّجاء الحقيقيّ الّذي له وجه يسوع المسيح. فمعه، لا شيء سيكون عظيمًا فوق طاقتكم، أو ثقيلًا لا يُحتمل! ومعه، لن تكونوا يومًا وحدكم أو متروكين، حتّى في أحلك اللّحظات! لأنّه يأتي للقائكم حيث أنتم، لكي يمنحكم شجاعة العيش، ويشجّعكم على مشاركة خبراتكم وأفكاركم وعطاياكم وأحلامكم، ويعلّمكم أن تروا في وجه القريب، القريب والبعيد، أخًا وأختًا تحبّونه، وتبادلونهم عطاءً وأخذًا، وأن تكونوا أسخياء وأمناء ومسؤولين في الحياة الّتي تنتظركم، ولكي تفهموا ما هو أثمن ما في الحياة: المحبّة الّتي تحتمل كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء.
نحتفل اليوم، في الأحد الثّاني من الفصح، أحد الحواريّين، بعيد الرّحمة الإلهيّة. إنّ رحمة الآب، الّتي تفوق حدودنا وحساباتنا البشريّة، هي السّمة المميّزة لتعليم البابا فرنسيس وخدمته الرّسوليّة، بالإضافة إلى حرصه العميق على إعلانها وتقاسمها مع الجميع– إعلان البشرى السّارّة، والبشارة– الّذي شكّل برنامج حبريّته. لقد ذكّرنا البابا مرارًا بأنّ "الرّحمة" هي اسم الله، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحدّ من محبّة الله الرّحيمة، تلك الّتي بها يريد أن ينهضنا ويجعلنا خليقة جديدة. ومن المهمّ أن نقبل ككنزٍ ثمين هذه التّوصية الّتي ألحّ عليها البابا فرنسيس. بل، اسمحوا لي أن أقول: إنّ محبّتنا له، الّتي تتجلّى بوضوح في هذه السّاعات، لا ينبغي أن تبقى مجرّد شعور عابر أو انفعال وقتيّ؛ بل علينا أن نقبل إرثه ونحوّله إلى حياة معاشة، من خلال انفتاحنا على رحمة الله، وبأن نصبح نحن أيضًا رحماء بعضنا تجاه بعض.
إنّ الرّحمة تعيدنا إلى صميم الإيمان، وتذكّرنا بأنّ علاقتنا بالله، وانتماءنا إلى الكنيسة، لا يجب أن يُفهما وفق مقاييس بشريّة أو دنيويّة، لأنّ بشرى الإنجيل السّارّة هي أوّلًا اكتشاف أنّنا محبوبون من إلهٍ تفيض أحشاؤه رأفة وحنانًا لكلّ واحدٍ منّا، بغضّ النّظر عن استحقاقاتنا. وتذكّرنا كذلك أنّ حياتنا منسوجة بخيوط الرّحمة: لا يمكننا أن ننهض من سقطاتنا أو أن نواجه المستقبل إلّا إذا كان هناك من يحبّنا بلا حدود ويغفر لنا بغير حساب. لذلك، نحن مدعوّون لكي نلتزم بعيش علاقاتنا لا وفق معايير المنفعة أو أنانيّة المصالح، بل بانفتاح القلب على الحوار، وبقبول الّذين نلتقي بهم على دروب الحياة، وغفران زلّاتهم وضعفهم. وحدها الرّحمة قادرة على أن تشفي وتخلق عالمًا جديدًا، وتطفئ نيران الرّيبة والبغض والعنف. هذا هو الدّرس العظيم الّذي تركه لنا البابا فرنسيس.
لقد كشف لنا يسوع، في كرازته وأفعاله، وجه الله الرّحوم؛ وها هو، كما سمعنا، إذ يظهر لتلاميذه في العلّيّة بعد قيامته، يقدّم لهم عطيّة السّلام ويقول: "من غفرتم لهم خطاياهم تُغفر لهم، ومن أمسكتم عنهم تُمسك عنهم". وهكذا أقام الرّبّ القائم كنيسته وتلاميذه أدواتٍ لرحمته في العالم، لمن يرغب في استقبال محبّته ومغفرته. لقد كان البابا فرنسيس شاهدًا منيرًا لكنيسة تنحني بحنان على الجراح، وتبلسمها بزيت الرّحمة. وذكّرنا بأنّه لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقيّ من دون الاعتراف بالآخر، والاهتمام بالضّعفاء، والأهمّ من ذلك: لا يمكن أن يتحقّق السّلام ما لم نتعلّم أن نغفر بعضنا لبعض، ونمارس فيما بيننا الرّحمة الّتي يُعاملنا بها الله.
أيّها الإخوة والأخوات، في هذا الأحد المخصّص للرّحمة الإلهيّة، نتذكّر بمحبّة حبيبنا البابا فرنسيس. وهذه الذّكرى هي حيّة بشكل خاصّ بين موظّفي مدينة الفاتيكان ومؤمنيها، وكثيرون منهم حاضرون هنا اليوم، وأودّ أن أشكرهم على الخدمة الّتي يقومون بها يوميًّا. إليكم وإلينا جميعًا، وإلى العالم أجمع، يوجّه البابا فرنسيس اليوم عناقه من السّماء. لنوكل أنفسنا إلى الطّوباويّة مريم العذراء، الّتي أحبّها البابا فرنسيس محبّة عميقة حتّى اختار أن يُوارى جسده الثّرى في بازيليك القدّيسة مريم الكبرى. فلتكن لنا حارسةً، ولتتشفّع من أجلنا، ولتسهر على الكنيسة، ولتعضد البشريّة في مسيرتها في السّلام والأخوّة. آمين."