مصر
06 آذار 2025, 07:30

المطران كريكور كوسا: الصّوم رحلة رجاء نحو القيامة

تيلي لوميار/ نورسات
"الصّوم رحلة رجاء نحو القيامة"، هو عنوان رسالة الصّوم الّتي وجّهها أسقف الإسكندريّة للأرمن الكاثوليك المطران كريكور أوغسطينوس كوسا، إلى كهنة وراهبات وأبناء أبرشيّة الإسكندريّة وبلاد الانتشار للأرمن الكاثوليك.

وكتب كوسا بحسب ما نشر موقع "المركز الكاثولكيكيّ للإعلام":

"الصوم عادة قديمة احتلّت مقام الصّدارة بين أعمال التّقوى الّتي تمرّسَ بها الإنسان استغفارًا للخطايا واستمطارًا للنّعم، وتعبيرًا عن توبةٍ صادقة وإقرارًا بسلطان الله. وكانت الشّريعة تأمر بالصّوم في يومٍ واحدٍ من أيّام السّنة هو يوم التّكفير، وجرت العادة أن يصوم الشّعب في ذكرى الكوارث الوطنيّة الكبرى، مثل سقوط أورشليم بين أيدي الكلدانيّين، ولكن الفرّيسيّين كانوا يصومون في أيّامٍ إضافيّة خاصّة بهم، فقط لإعلان مظاهر التّقوى. وقد أورد الكتاب المقدّس العديد من الأمثلة على الصّوم الّذي لجأ إليه من توخّوا مرضاته في العهد القديم.

جاء في سفرِ يونان أنّ الله هدّدَ نينوى بالدّمار وأرسل يونان إلى أهلها ليذكّرهُم بوجوب التّوبة إليه بالصّلوات والأصوام. وامتثل يونان، لأمر الله ونادى في المدبنة وقال: "بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى، فآمن أهلها ونادوا بصومٍ ولبسوا مسوحًا من كبيرهِم إلى صغيرهِم وبَلغَ الكلام ملك نينوى فقام عن عرشه وألقى عنه حلّتَهُ الملوكيّة والتفّ بِمسحٍ وجلسَ على الرّمادِ وأمر أن ينادى ويُقال في نينوى بقضاء الملك وعظمائهِ لا يذق بشر ولا بهيمة ولا بقر ولا غنم شيئًا ولا ترعى ولا تشرب ماء. وليلتفّ البشر والبهائم بمسوح وليصرخوا إلى الله بشدّةٍ ويتوبوا كلّ واحدٍ عن طريقهِ الشّرّير” (يونان ٣: ٥-٩). وعفا الله عن نينوى وأهلها.

صوم المسيح يسوع

واستهلَّ السّيّد المسيح حياته العامّة بالصّوم، “فصام أربعين يومًا وأربعين ليلةً حتّى جاع” (متّى ٤: ٢)، وأوضح أنّ هناك نوعًا من الشّياطين لا يُطرد إلّا بالصّلاةِ والصّومِ (مرقس ٩: ٢٩). وتمرّس بولس رسول الأُمم بالصّومِ هو برنابا كما جاء في كتاب أعمالِ الرُّسُل: "ثمّ أستودعاهم، أيّ من بشرّهم بالمسيح، الرّبّ الّذي آمنوا به، بعدما أقاما كهنة في كلِّ كنيسةٍ وصلّيا وصاما" (أعمال الرّسل ١٤: ٢٣)، وحذا الرّسل حذوهما: "فبينما هم يقضون فريضة العبادة ويصومون، قال الرّوح القدس أفردوا شاول وبرنابا لأمر ندبتهما إليه" (أعمال الرُّسُل ١٣: ٢).

صفات الصّوم

الصّوم لا يكون مرضيًّا ومقبولًا أمام الله إلّا إذا اقترن بصفات تحبّبه إليه تعالى. وهذا ما أشار إليه السّيّد المسيح عندما قال: "وإذا صمتم، فلا تعبسوا كالمرائين يُكلّحون وجوههم، ليظهروا للنّاس أنّهم صائمون. الحقّ الحقّ أقولُ لكُم: أنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنتَ، فإذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكيلا يظهر للنّاس أنّك صائم بل لأبيك الّذي في الخفية، وأبوك الّذي يرى في الخفية يجازيك!".

أحسن الصّوم أبعده عن كبرياء ورياء، وقد رذل السّيّد المسيح صوم الفرّيسيّ لبعد هذا الأخير عن البساطِة وإغراقهِ في المباهاة. ونحن نعرف أنّ الصّوم، إذا فقد معناه، رذلهُ الله. وقد أريد بالصّوم إذلال النّفس في حضرةِ خالِقِها، وتعبيرًا عن توبةٍ صادقة. لذلك يُعتبر الصّوم رمزًا إلى الإقرار الباطنيّ بسيادةِ الله المُطلقة علينا ودليلًا على أسف لامتهان كرامتِهِ. فهو قد أراد أن يتّصف بالتّواضعِ وانسحاقِ القلبِ والإيمانِ العميقِ والابتعادِ عن الرّياء.

ولا يظنّن أحد أنّ الله يجني فائدة من رؤيتنا نصوم، أو هو يسرّ لرؤيتنا نتعذّب بالانقطاعِ عمّا لذّ وطاب من المآكل والمشرب، وما كان الله بظالم لمخلوقاتهِ وعبادهِ. فهو قد أرادَ الصّوم وسيلةً لا غاية، فإذا كانت هناك وسيلة سواها، فهو يرضاها، ولذلك قال على لسان أشعيا النّبيّ: "أليس هذا هو الصّوم الّذي آثرته، حلّ قيود النّفاق وفكّ رباط النّير وإطلاق المضغوطين أحرارًا وكسر كلّ نير. أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل البائسين المطروحين بيتكَ وإذا رأيتَ العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمكَ" (أشعيا ٥٨: ٦-٧). وقد برّرَ السّيّد المسيح تجاه تلاميذ يوحنّا مسلك تلاميذه الّذين لا يصومون بقوله : "أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعروس بينهم؟" (متّى ٩: ١٥).

قدرة الصّوم

لقد رأينا أنّ الله أنقذ نينوى من الدّمار لانقطاع أهلها إلى الصّومِ والصّلاة، ووهبَ يوحنّا المعمدان الجرأة على الجهرِ بكلامِ الله والاستشهادِ في سبيلهِ لأنّه قضى حياتَهُ في تقشّفٍ وأصوام، ودشّنَ السّيّد المسيح حياته العامّة بالصّوم أربعين يومًا وأربعين ليلةً ليعطينا مثلًا في التّمرّس بهذا العمل التّقويّ، وأوضح لنا أنّ هناك نوعًا من الشّياطين لا تخرُج إلّا بالصّومِ والصّلاة، وهذا ما تمرّس به الرُّسُل ولاسيّما بولس الرّسول الّذي كان يفاخر بما تحّملَ من "شدائد ومشقّات وجلد وسجن وفتن وسهر وصوم" (٢ قورنتس ٦: ٥). وقد اتّبع أولياء الله وقدّيسوه هذه الخطّة في كلّ عصر منذ انطلاقةِ المسيحيّة حتّى يومنا هذا، لأنّها تسعف على كبح الأميال وترويض الأهواء وتطهير النّفوس وتسهيل الاتّصال بالله والارتباط به ارتباطًا وثيقًا.

أفما يليق بنا أن نصوم اقتداءً بالسّيّد المسيح ورسُلهِ وقدّيسيهِ فنستخدمه وسيلةً من وسائل العبادة الحقّة والتّقوى الرّاسخة؟

اللّهُمّْ أعطِنا إذا صُمنا ألّا نعبُس وُنكلّح الوجوه لكيلا يظهر صيامنا إلّا لك وحدك، أنت الّذي يُجازي المؤمنين في العلن عمّا يأتون بهِ من أعمالٍ مبرورةٍ في الخُفية.

بالصّوم نُجدّد ذواتنا ونُكّفر عن خطايانا، ونُسيطر على إرادتنا، ونكبح أميالنا المنحرفة، ونضبط حواسنا.

فإمتناعنا الإراديّ عن الطّعام، وشُعورنا بجوع مؤقّت، يُحملا لنا على التّفكير بإخوتنا الّذين يُعانون من جوعٍ دائم، فنعمد إلى مساعدتهم لإخراجهم من جوعهم وعطشهم. والقاعة هي أنَّ ما نوفّره من مصروف فترة الصّيام نساعد به إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم.

نداء

في هذه المناسبة المباركة أوجّه الشّكر من صميم قلبي إلى كلّ الّذين يقومون بمبادرات فرديّة أو جماعيّة لمساعدة الجمعيّة الخيريّة التّابعة لبطريركيّتنا الأرمنيّة الكاثوليكيّة، والّذين يشاركون في حصّة الكيلو، كلّ واحد بحسب طاقته، ولا ننسى أبدًا أنّ حاجات إخوتنا وأبنائنا اليوم هي: مادّيّة وروحيّة ومعنويّة وثقافيّة.

نسأل الله، بشفاعة العذراء مريم أُمّنا، وبصلوات القدّيس كريكور (غريغوريوس) المنوِّر، والقدّيس أوغسطينوس ابن الدّموع معلّم الكنيسة، والطّوباويّ الشّهيد إغناطيوس مالويان، وآبائنا القدّيسين أن يقبل صيامنا، وأنٌ يشفي أمراضنا الرّوحيّة والجسديّة ويبيدها بقوِّة قيامته وكثرة رحمته."