لبنان
30 أيار 2022, 05:55

المطران عوده: ماذا يجدي إذا ربحت الأحزاب وخسر لبنان؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، حيث ألقى عظة بعد الإنجيل المقدّس، قال فيها:

"أحبّائي، خصّصت كنيستنا المقدّسة الأحد الخامس بعد الفصح للأعمى منذ مولده الّذي شفاه يسوع فامتعض الفرّيسيّون، معلّمو النّاموس، لأنّهم كانوا يعتبرون المريض خاطئًا، ومن يشفي لا يكون من الله إذا شفى في يوم سبت، منصّبين أنفسهم وكلاء لله على الأرض.

طرد الأعمى من المجمع، ليس لخطيئة ارتكبها، إنّما لأنّه شفي ثمّ آمن بالله واعترف بابنه، وقد تمّت به مقولة الرّبّ: "طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأنّ لهم ملكوت السّماوات" (مت 5: 10). إذًا، من أغلق الفرّيسيّون عليه خارج الملكوت بسبب حرفيّة النّاموس، قبله الرّبّ المتحنّن، واضع النّاموس، عن طريق ناموس المحبّة. لم يكن الأعمى فاقدًا للبصيرة، لأنّه عرف أنّ النّاموس لا يدين فاعل خير، ولا يجرّم متقبّل الخير. صدم بعدم معرفة حافظي النّاموس لناموسهم، فلم يتقبّل أولئك تفكيره السّليم، بسبب ضيق بصيرتهم. فقد أعماهم سكرهم بالسّلطة الّتي كانوا يستمدّونها من احتكارهم معرفة النّاموس. عندما حضر المسيح حاملًا ناموسًا مكمّلًا بالمحبّة، أقلق راحتهم وتربّعهم على عرش السّلطة الدّينيّة الّتي ظنّوا أنّهم يملكون الحقّ الحصريّ لها، متناسين أنّ السّلطان الحقيقيّ إنّما يأتي من لدن الله، المشرّع الحقيقيّ والأوحد. لم يفهموا الله جيّدًا، بل علقوا عند حرفيّة النّاموس، وقاوموا عمل روح الله، الأمر الّذي يذكّرنا بقول الرّسول بولس: "إنّ الحرف يقتل ولكنّ الرّوح يحيي" (2كو 3: 6).

فيما نقترب من عيد العنصرة، أيّ حلول الرّوح القدس على التّلاميذ، تعمل كنيستنا المقدّسة جاهدةً على إفهامنا كيفيّة عمل الرّوح الإلهيّ الّذي يهبّ حيث يشاء، ولا يحقّ لأحد أن يحجب روح الله عن أبنائه المخلوقين على صورته ومثاله. النّاموس الحقيقيّ، الدّين الحقيقيّ، لا يخلق شرخًا بين الخالق والمخلوق، بل يقرّب الإنسان نحو ربّه.

لقد حظي الأعمى بلقاء شخصيّ مع المسيح، الإله- الإنسان، فكان الإيمان الّذي ولد فيه نتيجة علاقة شخصيّة، وثمرة خبرة. لم يتعلّم عن الله من الكتب، بل عرفه من خلال شفائه. أمّا الفرّيسيّون فلم يكن لهم أن يفتخروا بعلاقتهم الحيّة والكيانيّة مع الله. لقد عرفوه من خلال النّاموس وكتب الأنبياء، لكنّهم لم يختبروا خبرة الأنبياء. غابت عنهم نعمة النّبوّة، الأمر الّذي حاولوا أن يستروه بخضوعهم الأعمى لحرفيّة النّاموس. إن أردنا استخدام لغة معاصرة، يمكننا القول إنّهم كانوا يدرسون النّاموس كفلاسفة وليس كلاهوتيّين. جهلوا روحه، كما يحصل مع المفسّرين الّذين يستندون إلى الدّراسات الأدبيّة والتّاريخيّة في تفسيرهم للكتاب المقدّس، لكن النّصوص المقدّسة، وفق تراثنا، لا يفهمها إلّا من لديهم خبرة مؤلّفيها القدّيسين، أيّ الممتلئين من روح الرّبّ.

أعمى إنجيل اليوم أمثولة لأبناء هذا الوطن. كثيرون يريدون أن يغمضوا أعين المواطنين عمّا يجري من ويلات تزيد الهوّة الجهنّميّة عمقًا. يريدون إصابة الشّعب بالعمى عمّا فيه مصلحته، عبر إلهائه عن الجوهر بمواضيع هامشيّة. فالمحروقات أصبحت تلهب جيوب المواطنين، والكهرباء أعمت ظلمتها عيون الطّلّاب الّذين يستعدّون للإمتحانات المدرسيّة والرّسميّة. الأدوية لا تزال مفقودةً، وبورصة الرّغيف تنذر بثورة جياع. المياه ندر وصولها إلى المنازل على أبواب حرّ الصّيف، أمّا سعر صرف عملتنا ففي الحضيض. كلّ هذا يحدث، والشّعب يتلهّى بمن فاز أو من نال حزبه الأكثريّة. ماذا يجدي عدد الأصوات وعدد النّوّاب ورئاسة مجلس أو لجنة إذا ربحت الأحزاب وخسر لبنان، أو إذا ربحت هذه الكتلة أو تلك وخسرنا لبنان وأبنائه؟

يا أحبّة، الأكثريّة هي من الجياع، والمرضى، والمنكوبين... هؤلاء من يمثّلهم؟ من يطالب بحقوقهم في بلد لا همّ لمسؤوليه سوى المصلحة والمناصب؟ الكنيسة تقوم بواجباتها بصمت إنجيليّ، حسب ما أوصاها مسيحها، لكنّ الكنيسة ليست الدّولة. فهل من عين ترى الظّلم المحيق بأبناء الله في هذا البلد؟ أم أصاب العمى عيون المسؤولين، إذ هم لا يبصرون ما لا مصلحة لهم فيه؟

خطوة مباركة شهدناها في إزالة بعض الحواجز الفاصلة بين الشّعب ومبنى ممثّلي الشّعب، علّها تستتبع بإسقاط جميع الحواجز، وبشكل خاصّ الحواجز الّتي تفصل المسؤولين عن شعبهم. المسؤول الحقيقيّ لا يقبع بعيدًا عن شعبه لأنّ واجبه الأوّل سماع صوت الشّعب والاهتمام بشؤونه، فكيف إذا كان الشّعب يعاني ما يعانيه اللّبنانيّون؟  

قرأنا منذ مدّة أنّ البنك الدّوليّ اتّهم من سمّاهم النّخبة بالانهيار، لافتًا أنّ "الكساد كان سببًا متعمّدًا من قبل النّخبة الّتي استولت على الدّولة"، وها نحن نشهد تبادل الاتّهامات بين مختلف الأطراف بإشعال الأسعار والتّلاعب بسعر الدّولار ومنع حلّ مشكلة الكهرباء المستعصية فقط على دولتنا.

من حقّ المواطن أن يسأل: من أوصل البلد إلى الانهيار؟ من تغاضى عن التّضخّم والفقر والبطالة والهجرة؟ من أهدر مدّخرات المواطنين وجلّهم ممّن كسبوها بعرق جبينهم لا باستغلال نفوذهم ومراكزهم؟ من منع وصول الكهرباء إلى منازلهم؟ من حرم أطفالهم الحليب وأولادهم الطّعام؟ من تاجر بالأدوية الفاسدة الّتي قضت على مرضاهم؟ من استباح دستور دولتهم وقوانينها وقدّم مصالحه على المصلحة العامّة، وتدخّل في عمل القضاء ليعطّله؟ ومن جعل مجلس الوزراء صورةً مصغّرةً عن المجلس النّيابي فعطّل المحاسبة؟ ومن شرّع التّهريب عبر الحدود المستباحة وتاجر بالمحروقات والأدوية والمواد الغذائيّة فحرم المواطنين منها؟ من عطّل المؤسّسات الرّقابيّة؟ والأهمّ من كلّ ذلك من فجّر مرفأ بيروت وشوّه وجه العاصمة وقتل أبناءها وشرّدهم؟ أليس من حقّ المواطن أن يحصل على أجوبة عن كلّ هذه الأسئلة؟

أملنا أن يضطلع المجلس النّيابيّ الجديد بمسؤوليّاته في أسرع وقت، ويقوم بواجبه على أكمل وجه، ليعيد للبنان صورته الدّيمقراطيّة النّاصعة، الّتي تحمل الأمل لأبنائه.  

وما دمنا نتحدّث عن الأمل، لا بدّ من الإشادة بـ"ليلة الأمل" الّتي قدّمها أسامة الرّحباني وهبة طوجي وإبراهيم معلوف في Forum de Beyrouth، المكان الّذي دمّره تفجير المرفأ وأعيد تشييده. هؤلاء المبدعون الثّلاثة حاولوا، بفنّهم الرّاقي، انتشال بيروت، وعبرها لبنان، من العتمة واليأس، فيما عمل السّياسيّون على طمره في الجحيم.

فكما عاد الـ Forum de Beyrouth من رماده إلى الحياة، وكما عاد الفنّ الرّاقي يضيء ليل بيروت القاتم، ويدخل بعض الفرحة إلى قلوب أبنائها، هكذا سينهض لبنان من كبوته، لبنان الّذي يفتّش عن بصيص نور في كلّ إشارة تبشّر بالتّغيير.

هذه هي صورة لبنان المشرقة: الفنّ والثّقافة والإبداع، والحرّيّة الّتي ترتقي إلى مشارف السّماء، حيث الملكوت.

دعوتنا اليوم أن ننظر بعيون قلوبنا نحو الملكوت، حيث سكنى جميع أنقياء القلوب، وإخوة المسيح المظلومين والمطرودين والمقهورين. إتّكلوا على الرّبّ الرّحوم، لا على أبناء البشر، الّذين لا خلاص عندهم على حسب قول النّبيّ داود، آمين."