مصر
19 كانون الثاني 2018, 08:45

المطران بولس مطر من مؤتمر الأزهر لنصرة القدس: هذه المدينة ليست ملك رجل ولا ملك دولة ليتمّ التّصرّف بها على هذا الشّكل المرفوض

في مداخلة في مؤتمر الأزهر لنصرة القدس، رأى رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر أنّه "غير منطقيّ المشهد المطروح على بساط التّاريخ لأبناء ابراهيم أبي الآباء، عندما لا يشهدون معًا وأمام العالم أجمع لرحمة الله الواسعة، ولا يلتقون على القدس بيت عبادة لوحدانيّته ورمز سلام للبشريّة المتعطّشة بكلّ أطيافها إلى السّلام"، وقال بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام":

 

"هؤلاء هم أبناء إسحق والوعد، لا بأمّة تسود على الأمم، فهذه ليست من مقاصد الله بشيء. ولا بأرض يستأثرون بها دون سواهم، لأنّ الأرض كلّها للرّبّ، بل ليحيوا إيمانهم بدون إكراه ويقدموا على فتح قلوبهم وعقولهم لمشاركة النّاس فرح الحياة. وهم أبناء اسماعيل الّذي أبعد مع هاجر أمّه والّذي أخذ سرّه إلى الصّحراء ليعود من ثمّ إلى ساحة الأرض، أبًا لأمّة كبيرة ومطالبًا بحقوق أبنائه في العائلة الإبراهيميّة الشّاملة وضمن منظومة سائر الشعّوب. وسوف لن يستقيم التّاريخ إلّا بإعادة الحقّ إلى نصابه والعدل إلى محرابه في جوّ أخوّة إنسانيّة تسهم في قيامها كلّ الحضارات.
وهم أيضًا أولاد ابراهيم، لا بصلات الأرحام، بل بالإيمان وفعل الرّوح الّذي يجمع النّاس من الرّياح الأربع ويؤلّف بين قلوبهم وينشر سلامه فوق الرّبوع فيتحوّل البشر جميعًا إلى عيال الله الآمنة برضوانه والسّائلة لأنعمه وبركاته.
هكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن تتكوّن القدس عبر التّاريخ وأن تصير رمزًا للسّلام النّازل من العلى، ومكانًا يجمع أهل الإيمان فيها ليشهدوا معًا لهذا السّلام ويعملوا من أجل إحلاله في الأرض. وقد شيّدت في رحابها أهمّ الرّموز الدّينيّة لأبنائها، من الهيكل قديمًا إلى كنيسة القيامة وإلى المسجد الاقصى، فصارت مدينة مقدّسة لا يجوز أن يدخلها النّاس إلّا خاشعين. فهم يحجّون إليها حجًّا وليس لأحد أن يغتصبها اغتصابًا.
لكنّنا مدعوّون إلى أن نقول الأمور بصراحة حول مصاعب هذه العائلة الابراهيميّة ومتاعبها في الزّمن الحاضر. فإنّ الصّهاينة الّذين يحتلّون القدس راهنًا هم الّذين يرفضون تاريخها بمراحله الكاملة، هذا فيما التّاريخ لا يتجزّأ، بل يأخذ معناه عبر تطوّره وعلى مدى الأجيال المتعاقبة على صنعه. فالمحتلّون هؤلاء قد أنكروا تاريخ القدس حتّى في المرحلة السّابقة لوصول داود إليها وإقامتها عاصمة لمملكة أرضيّة بناها بغير رضى من ربّه، لأنّ الأنبياء حذّروه من مملكة بشريّة قد تعرّض أهلها لنسيان الله الّذي يجب أن يبقى مليكهم الأوحد. وقد رفضوا بالتّالي تطوّرات القدس في المرحلة اللّاحقة لحضورهم فيها، وانفتاحها على سائر أبناء ابراهيم الّذين انتموا إليها. فلا هم قبلوا بحقوق المسيحيّين كاملة في المدينة ولا بحقوق المسلمين، سواء في القدس أم في سائر أرض فلسطين. فكيف أقبل أنا المسيحيّ ألا أستطيع الحجّ إلى المكان الّذي افتدى فيه السّيّد المسيح الإنسانيّة وقام منتصرًا على العداوة وعلى الموت، وأطلق من قبره المفتوح في اليوم الثّالث عهدًا للبشر جديدًا؟ وكيف يقبل أخي المسلم أن تنتهك مقدّساته في مدينة الإسراء والمعراج الّتي اتّخذها أولى القبلتين لصلاته وثالث الحرمين؟ هذا فيما كانت للمسلمين أياد بيضاء في تاريخ القدس ومواقف تسجّل مع أسماء أصحابها بأحرف من ذهب. فمن لا يذكر الخليفة عمر، رجل العدل بامتياز، الّذي دخل القدس ووقف أمام كنيسة القيامة رافضًا أن يصلّي فيها لئلّا يطالب صحبه فيما بعد بالمقام، إذا ما صلى هو فيه وهو خليفة المؤمنين؟ إنّ هذا الكبير في العرب والإسلام قد رسم للمسلمين من بعده ولغير المسلمين خطًّا في احترام الأديان ورموزها ومقدّساتها، حبّذا لو أخذ منه العبرة أهل الشّرق والغرب معًا حتّى في أيّامنا، وكلّ مؤمن ومؤمنة من أولاد ابراهيم! فأين الصّهاينة من احترام المقدّسات هذه وما تمثّل في وجدان أهلها الكرام؟ وهل ننسى نحن المسيحيّين أنّ مفاتيح كنيسة القيامة بالذّات هي اليوم ومنذ مئات السّنين في عهدة عائلة مسلمة تؤمّن الدّخول إليها لمجمل طوائفنا بأمانة كلّيّة وبدقّة لا توصف؟
في وهج هذه الحقائق، وأمام إعلان القدس من قبل الرّئيس الأميركيّ عاصمة لإسرائيل وحدها، نستنكر كلّ الاستنكار هذا القرار الّذي اتّخذه صاحبه من دون وجه حقّ، وبتزوير لتاريخ القدس الشّريف وبتشويه لرسالة مدينة السّلام في العالم بأسره. ونعلن أنّ هذه المدينة ليست ملك رجل ولا ملك دولة ليتمّ التّصرّف بها على هذا الشّكل المرفوض، وأنّه كان حريًّا برئيس الدّولة الّتي تستضيف على أرضها جمعيّة الأمم المتّحدة أن يحترم المقرّرات الدّوليّة بشأن القدس وفي مقدّمتها القرار رقم /181/ (شهر تشرين الثّاني عام 1947)، الّذي قضى بوضع القدس تحت نظام دوليّ بحيث تكون المدينة المقدّسة جسمًا منفصلاً له وضعه الخاصّ. وقد استمرّ العالم كلّه على هذا الموقف منذ هذا التّاريخ، رافضًا أن تعلن القدس عاصمة لإسرائيل ومتمسّكًا بحقوق جميع أصحاب الحقوق في المدينة المقدّسة. وعندما قامت إسرائيل باحتلال الأرض العربيّة في فلسطين كلّها، وبدّلت وضع الهدنة مع الفلسطينيّين والعرب بالقوّة ومن طرف واحد، بقي العالم متمسّكًا بحقوق العرب والفلسطينيّين بالقدس وبضرورة التّوصّل إلى السّلام بالتّفاوض والقبول المتبادل لأيّ وضع نهائيّ.
اليوم يأتي قرار نشاز يصدر عن رئيس دولة متفرّد ضاربًا به كلّ فرص السّلام ومشوّهًا تاريخ القدس ورسالتها الإنسانيّة والرّوحيّة، ومطيحًا بحقوق الفلسطينيّين المشروعة كلّها. فأثار هذا الموقف غير الموصوف ردود فعل عالميّة تمثّلت برفض غالبيّة دول الأرض له في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة وتبرم دول مجلس الأمن كلّها حيال هذا التّصرّف غير المسؤول.
إنّنا أمام مؤتمركم الكريم، وبالتّضامن مع صاحب السّماحة فضيلة شيخ الأزهر الدّكتور أحمد الطّيّب الّذي دعا إليه مشكورًا، وهو الدّاعي إلى خير الأمّة على الدّوام، ومن على أرض مصر العزيزة وكبيرة العرب، نعلن رفضنا المطلق لهذا القرار، وندعو الشّعب الأميركيّ إلى تصحيحه بل إلى إلغائه بالسّبل المتاحة وباسم العدالة الدّوليّة واحترام القيم الرّوحيّة العالية الّتي تحفظ لهذا الكون رونقه ومعناه. كما ندعو المسيحيّين والمسلمين في العالم إلى مزيد من التّصافي والتّضامن في ما بينهم، فهم وحدهم يشكّلون نصف سكّان العالم، وكلّ توافق بينهم يرجّح في الدّنيا غلبة الخير على الشّرّ، ونصرة الحقّ على الباطل. ولا يغيبن عن ضمائركم أنّ الحقّ من الله وله الغلبة في النّهاية وأنّ الباطل كان زهوقًا".