المطران بطرس فهيم: ما نؤنسنه نحن بإرادتنا الحرّة يتولّى الله تأليهه بنعمته
"الله محبّة ولأنّه محبّة لا يخلق كلّ شيء جاهزًا وكاملاً. بل يخلقه في بذور تتحوّل إلى نباتات ثمّ أشجار ثمّ ثمار تصير بذورًا من جديد، كلّ هذه المسيرة هي حياة وصيرورة وتحوّل وهي في هذه المسيرة تعطي الحياة، وتعتمد على مشاركة الإنسان ومسؤوليّته وتفاعله مع عمل الله ونعمته، فالله لا يريد أن يعمل بمعزل عن الإنسان أو بدونه.
الله يخلق الإنسان على صورته ومثاله، وصورته ومثاله الكامل والحقيقيّ هو يسوع المسيح. وهو يريد منّا أن نكون مسحاء مثله، وأعطانا المادّة الخام لذلك: أعطانا الطّبيعة البشريّة، والجسد البشريّ، والنّفس البشريّة، والرّوح البشريّة، وأعطانا المعموديّة وكافّة الأسرار، وأعطانا كلمته وروحه القدّوس بمواهبه وثماره وعمله فينا... وعلينا نحن أن نستفيد من ذلك، ونحوّله تدريجيًّا، يومًا بعد يوم إلى ما أراد الله لنا أن نكون، أبناء الله. وذلك يتمّ ليس بشكل تلقائيّ روتينيّ أتوماتيكيّ، بما أنّي ولدت وتعمّدت أصير إنسانًا مسيحيًّا. ليس الأمر هكذا بكلّ سهولة. إنّ عمليّة تحوّلي من مجرّد مخلوق بشريّ، إلى كائن وشخص إنسانيّ، هي عمليّة تحوّل تولد يوميًّا في حرّيّتنا وفي قراراتنا. فنحن بحرّيّتنا ومن خلال قراراتنا نصير تدريجيًّا إنسانيّين، من خلال عمليّة تمييز واختيار وقرار حرّ يوميّ، أتحوّل تدريجيًّا، وبإرادة شخصيّة، وبمسؤوليّة واعية إلى إنسان كما يجب أن أكون. وكما أختار أن أكون. فليس كلّ بشر إنسانًا، نولد كلّنا كبشر، ولكن نتحوّل كلّ منّا بحسب تربيته ووعيه وتجاوبه مع نعمة الله إلى إنسان. فالظّروف الّتي نعيش فيها، من تربية وتعليم وصداقات وخبرات وروحانيّات، ونجاحات، وفشل أحيانًا، قد تساعدنا أن نكون أكثر أو أقلّ وعيًا ونضجًا ومسؤوليّة، أكثر أو أقلّ إنسانيّة. إنّها عمليّة أنسنة مستمرّة ومرهقة ومضنية ولكنّها ممتعة وضروريّة، وبدونها يكون الإنسان ناقصًا.
وما نؤنسنه نحن، بإرادتنا الحرّة ومن خلال قرارتنا اليوميّة، يتولّى الله تأليهه بنعمته، بالرّوح القدس الّذي فينا، أن ينحت في كلّ واحد منّا صورة الابن يسوع، ليؤلّه ما قد أنسنّاه. لتتحقّق فينا كمال الدّعوة المسيحيّة، أن نكون بشرًا مدعوّون للمشاركة في الطّبيعة الإلهيّة (2 بطرس 1: 4). ولا يجب أن ننتظر أن يتمّ ذلك فيما بعد هذه الحياة، في الأبديّة، بل إنّ هذه المسيرة تبدأ من هنا على الأرض والآن في هذا الزّمان الحاضر والظّروف الّتي نعيش فيها. فإن لم نبدأ هذه المسيرة الآن وهنا فهي لن تبدأ أبدًا، وما لا يبدأ لن يكتمل ولن ينتهي. هذه المسيرة من التّأنسن إلى التّألّه هي ما قال عنها القدّيس بولس "ما هو صالح وما هو مرض وما هو كامل" (روم 12 : 2) وفي رسالة أفسس بشكل أكثر وضوحًا حين يقول: "إلى أن نصل كلّنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى الإنسان الكامل، إلى ملء قامة المسيح... فننمو في كلّ شيء نحو المسيح الّذي هو الرّأس" (أفسس 4 : 13 – 15).
فعلينا أن نقبل، هنا والآن، هذه المسيرة وهذا التّحدّي، الّذي هو التّحدّي الأساسيّ والجوهريّ لحياتنا كلّها، تحدّي أن نؤنسن كلّ ما فينا وما لنا، وما ومن حولنا، ونوحّده مع إنساننا الباطن ونقدّمه، مع كلّ الحبّ وكلّ الالتزام، وبكلّ حرّيّة، للمسيح بالرّوح القدس وفق مشيئة الآب، ليؤلّهه ويحوّله من مادّة بشريّة خام، إلى شخص وكائن إنسانيّ، إلى الإنسان الكامل إلى مقدار قامة ملء المسيح، في كامل البركة والشّركة الإلهيّة. هذه هي دعوتنا العظمى كمسيحيّين، وهذه هي رسالتنا الأولى، وهذا هو عملنا الأوّل والأساسيّ والجوهريّ، والّذي يعتبر حجّة وعماد ومرجعيّة كلّ أعمالنا الأخرى. والّذي من أجله تجسّد ابن الله، ومنحنا كلمته، وروحه القدّوس الّذي يحوّلنا لأبناء على مثال الابن يسوع، ومنحنا كلّ أسراره الإلهيّة والكنيسة، لتعمل كبوتقة تصهر وتحوّل خاماتنا البشريّة إلى كائنات إنسانيّة وأشخاص مؤلّهين، بفضل النّعمة وبإرادتهم الحرّة والملتزمة كلّ يوم، في صلاة تصير حياة وحياة تصير صلاة، وكلّ ذلك بفضل الرّبّ الرّوح. على مثال مريم العذراء باكورة البشريّة الجديدة ومعلّمة الكنيسة ونموذجها ومثالها وأمّها".