المطران ابراهيم من كنيسة سيّدة النّيّاح- قاع الرّيم: الصّلاة والصّمت لغة الرّوح في زمن الضّجيج
في نهاية الصّلاة كانت للمطران ابراهيم عظة بعنوان "الصّلاة والصّمت: لغة الرّوح في زمن الضّجيج" قال فيها بحسب إعلام الأبرشيّة:
"نعيش في عصر يُعرف بازدحامه بالضّوضاء، حيث تُحيط بنا أصوات الحياة اليوميّة المتسارعة، وسائل الإعلام، التّواصل الرّقميّ، والأحداث المتلاحقة الّتي تستهلك انتباهنا وطاقتنا. لكن في وسط هذا الزّخم يبرز السّؤال: كيف يمكننا أن نصغي إلى صوت الله في حياتنا؟ وكيف يمكن للصّلاة والصّمت أن يصبحا لغة الرّوح في عالم يزداد ضجيجه؟
الصّلاة هي قلب العلاقة بين الإنسان والله في الإنجيل، نرى كيف كان المسيح ينسحب إلى الجبال والأماكن الخالية ليصلّي: "وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّي وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ" (متّى ١٤: ۲۳). هذا يدلّ على أنّ الصّلاة ليست مجرّد كلمات تقال، بل هي لقاء شخصيّ مع الله، يحتاج إلى صمت القلب والعقل.
الصّمت ليس فراغًا، بل هو مساحة يُفسحها الإنسان ليسمع صوت الله بوضوح. القدّيس يوحنّا الصّليبيّ يقول: "إذا كنت ترغب في أن يتحدّث الله إليك، فاصمت. فالصّمت ليس فقط غياب الكلام، بل هو حالة داخليّة من السّكينة والانفتاح على الله في ضوء هذا، يمكن للصّوم أن يكون فرصة لاستعادة قيمة الصّمت، وإدراك أنّ الله يتحدّث إلينا عندما نهدأ ونصغي.
لكن لماذا نجد صعوبة في الصّمت؟ لأنّنا اعتدنا على حياة مليئة بالمشتّتات وسائل التّواصل الاجتماعيّ، الأخبار، العمل المتواصل، كلّها تجعلنا غير قادرين على التّوقّف للحظة والتّأمّل.
لذلك، يحتاج الإنسان إلى تدريب روحيّ يساعده على استعادة هذا البعد. يقول القدّيس أغسطينوس: "قلبي قلق حتّى يستريح فيك يا الله". ما أعمق هذه الكلمات الّتي تفجّرت من روح القدّيس أغسطينوس كصرخة وجدان تائه في دروب الحياة، يبحث عن ميناء الأمان وسط أمواج القلق والضّياع. إنّها ليست مجرّد عبارة، بل هي نشيد الشّوق اللّامتناهي، وأنين الرّوح المتعطّشة للحقيقة ومناجاة القلب الّذي لن يعرف السّكينة إلّا في حضرة الله.
الإنسان، منذ لحظة ولادته، كائن مترحّل في براري الحياة، يحمل بين ضلوعه عطشًا سرمديًّا، جوعًا لا تملؤه أموال الدّنيا، ولا تسكنه ملذّات الأرض، ولا تهدّأه علوم البشر. هو كائن محكوم بالحنين، محكوم برغبة لا تنطفئ، كطفل يفتّش عن صدر أمّه وسط زحام الغرباء، وكطائر تائه يبحث عن عشّه بعد أن حملته الرّياح بعيدًا.
كم من مرّة ظنّ القلب أنّه وجد راحته في النّجاح، في الحبّ، في السّلطة، في المعرفة، لكنّه سرعان ما يعود إلى قلقه الأوّل، إلى ذاك الاضطراب العميق، إلى إحساس الفراغ الّذي لا يملؤه شيء سوى الله كان في داخلنا بصمة إلهية، أثر خالد يحفر في أعماقنا هذا اليقين أنّنا لم نخلق لشيء فان، بل لشيء خالد، لم تخلق للأرض وحدها، بل للأبديّة، ولم يكتب لنا السّكون إلّا في قلب الله، ذاك القلب الّذي يتّسع لكلّ أنين، لكلّ ضعف، لكلّ توق دفين.
"قلبي قلق حتّى يستريح فيك يا الله"، ليست مجرّد فلسفة فكريّة، بل هي تجربة حياة هي نار تتّقد في داخل كلّ إنسان لم يكتشف بعد وجه الله في حياته هي دعوة لأن نبحث عن الله، لا كفكرة، بل كحقيقة حيّة تعانق قلوبنا، كحبّ يذيبنا في دفئه، كراحة تزيل عن كواهلنا أحمال الأيّام.
الله هو وحده السّلام في زمن الضّجيج، هو الصّمت العميق وسط صرخات الخوف، هو المرفأ الّذي تهدأ عنده كلّ العواصف. فمن يبحث عن الرّاحة بعيدًا عنه، كمن يغوص في البحر بحثًا عن الهواء، وكمن يركض في الصّحراء ظنًّا أنّه سيجد جدول ماء.
ما أروع تلك اللّحظة الّتي يدرك فيها القلب أنّ لا ملجأ له سوى الله، أنّ لا هدوء، لا طمأنينة، لا اكتمال إلّا بين يديه عندها فقط ينتهي التّرحال، وتسكن العاصفة، ويحلّ السلام، لأنّ القلب قد وجد وجهه الحقيقيّ، وعاد أخيرًا إلى حيث ينتمي إلى الله.
الصّلاة ليست مجرّد كلمات تقال، بل هي لغة القلب، حيث يتواصل الإنسان مع الله بعمق روحيّ. هناك أنواع متعدّدة للصّلاة صلاة الطّلب صلاة الشّكر، التّأمّل الصّمت الدّاخليّ لكن جميعها تلتقي في نقطة واحدة، وهي أنّها تعبّر عن عطش الإنسان إلى الله المسيح نفسه علّم تلاميذه كيف يصلّون، معطيًا إيّاهم صلاة "أبانا الّذي في السّماوات" (متّى ٩:٦-١٣)، ليظهر لهم أنّ الصّلاة ليست معقّدة، بل هي لقاء بسيط وصادق مع الله.
إنّ الصّمت في الصّلاة ليس فقط الامتناع عن الكلام، بل هو استعداد داخليّ للإصغاء إلى الله الأب هنري نووين يقول: "الصّمت هو الصّديق الحقيقيّ للصّلاة، لأنّه يخلق مساحة الله ليعمل فينا". في زمن الصّوم، نحن مدعوّون إلى تخصيص أوقات للصّلاة التّأمّليّة، حيث لا نطلب شيئًا من الله، بل فقط نبقى في حضوره، كما كان يفعل التّلاميذ عندما جلسوا عند قدمي يسوع.
إنّ الّذين يمارسون الصّمت الرّوحيّ يدركون أنّ الله يتحدّث بطرق مختلفة. قد يكون من خلال صوت داخليّ هادئ، أو من خلال الطّبيعة، أو عبر أحداث الحياة اليوميّة. المشكلة هي أنّنا نريد دائمًا إجابات سريعة، بينما الله يدعونا إلى الانتظار والإصغاء بصبر. في هذا السّياق، الصّوم يعطينا فرصة لإعادة ضبط إيقاع حياتنا، لنختبر الصّلاة كمساحة تلتقي فيها بالله بعيدًا عن الاضطراب.
الخاتمة:
إنّ الصّلاة والصّمت هما وجهان لعملة واحدة، وهما مفتاح السّلام الدّاخليّ في عالم مضطرب. عندما نتعلّم أن نصمت أمام الله نصبح أكثر حساسيّة لعمله في حياتنا الصّوم ليس فقط عن الانقطاع عن الطّعام، بل هو عن إعادة توجيه القلب نحو الله، عن إفراغ نفوسنا من الضّجيج الخارجيّ والدّاخليّ لنمتلئ بحضوره.
فلنجعل من هذا الصّوم فرصة للعودة إلى الصّلاة الحقيقيّة، ولنتعلّم كيف نصمت ليس فقط بأفواهنا، بل بقلوبنا أيضًا، حتّى نسمع صوت الله يهمس لنا في أعماق أرواحنا. آمين."
بعد الصّلاة التقى الجميع في صالون الرّعيّة حول لقمة محبّة، وتبادل المطران ابراهيم الأحاديث مع أبناء البلدة واطمأنّ إلى أحوالهم.