لبنان
11 كانون الثاني 2024, 11:20

المطران ابراهيم في اللّقاء الرّوحيّ البقاعيّ: علينا أن نلتزم جميعًا بحماية الصّيغة اللّبنانيّة

تيلي لوميار/ نورسات
مشاركًا في اللّقاء الرّوحيّ البقاعيّ الّذي أقيم في أزهر البقاع تحت عنوان "الأمن الأخلاقيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في البقاع"، أكّد رئيس أساقفة أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، في كلمة له، على أنّ "لبنان هو وطن رسالة، وطن طوائف متعدّدة وأديان مختلفة تعيش بوحدة مميّزة لا شبيه لها في العالم" ويجب الدّفاع عنه، مشدّدًا على مسؤوليّة المسيحيّين والمسلمين على السّواء في المحافظة على هذه الصّيغة اللّبنانيّة.

إسمحوا لي أن أعبّر عن سعادتي بلقاء مجموعة وجوه تعكس ما في داخل النّفس من قيم والتزام وتمسّك بالفضائل والتّوجّه بكلّ الصّدق الّذي فينا نحو الشّعب الّذي ينظر إلينا ويرى فينا خشبة خلاص في ظلّ غياب عمل معظم السّياسيّين الّذين يأتمرون بمرجعيّاتهم لا باحتياجات شعبهم، ولا يعرفونهم عادة إلّا في زمن الانتخابات.

نحن ليس لدينا زمن انتخابات، هناك انتخاب إلهيّ ودعوة إلهيّة كي نقوم بواجبنا في الخدمة دون أيّ مقابل، الخدمة المجّانيّة لشعب الله الّذين أعطوا كرامة لا تقدّر بثمن، وهذه الكرامة علينا جميعًا أن نحافظ عليها. فكلّما أهينت كرامة الإنسان في لبنان، نُهان جميعًا لأنّنا مرتبطون بعضنا ببعض في مواجهة كلّ ما قد يهين أو يقلّل أو ينقص من كرامة الإنسان. لا نعتقد أنّ هناك إنسان يهان في لبنان ونكون نحن بعيدون عن هذه الإهانة. المسؤوليّة المشتركة الواقعة علينا تنطلق من مبدأ الاشتراك في مواجهة التّحدّيات، لأنّ التّحدّيات لا تختار جهة أو شخصًا أو فردًا أو عائلة أو شريحة من الوطن، التّحدّيات تواجه الجميع. إذا أخذنا على سبيل المثال تحدّيات الأسرة وتماسك العائلة في هجمة هي بمثابة شبه حرب عالميّة مدمّرة للعائلة ولها أسلحتها المتعدّدة الّتي تواجهنا لأنّنا نؤمن بأنّ العائلة هي العصب الأساسيّ لقيام الإنسان والإنسانيّة، فإذا سقطت العائلة وتقوّضت أسسها لا يبقى لنا أيّ شيء نتمسّك به، وكلّ شيء يتفكّك مع تفكّك هذه العائلة. علينا إذًا مواجهة هذه التّحدّيات معًا، وخصوصًا التّحدّيات المشتركة، التّحدّيات الأخلاقيّة، الوطنيّة، الإنسانيّة، المعيشيّة وغيرها من التّحدّيات، إذا أخذنا على سبيل المثال التّحدّيات المعيشيّة وحدها تشكّل لائحة طويلة.

بالأمس تحدّثنا معًا في لقاء خاصّ عن نفاذ الأدوية خصوصًا تلك المخصّصة لعلاج مرضى السّرطان، فأهلنا يموتون دون أيّ أمل بأن يكون لهم شفاء، ونحن أحيانًا كثيرة صامتون. هذا الصّمت الجماعيّ هو مأساة بحدّ ذاته علينا أن نتخطّاه، هناك هيكليّة فكريّة أو فلسفيّة أو دينيّة معيّنة لا نستطيع تخطّيها الا بتكسيرها أحيانًا، مع الأسف علينا أن نكسر بعض هذه الهيكليّات الفكريّة كي نتحرّر ونطالب بما هو مشترك من أجل حماية كرامة النّاس.  

نحن نعيش اليوم عدوانًا من داخل لبنان بسبب الفساد الّذي يضرب المؤسّسات، مؤسّسات الدّولة والمؤسّسات الخاصّة والمؤسّسات العامّة وكلّ المؤسّسات بما فيها أحيانًا المؤسّسات الدّينيّة. كلّنا نقول إنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة، ونحن نخطئ كغيرنا من المؤسّسات، علينا أن نبدأ بذواتنا كي ننطلق نحو الآخرين. أمّا العدوان الأقسى على لبنان هو العدوان الخارجيّ الّذي يتمثّل اليوم بالعدوان الإسرائيليّ على الجنوب. هذا العدوان يستبيح الكيان اللّبنانيّ والسّيادة اللّبنانيّة كلّ يوم أكثر فأكثر، هذه الاستباحة تتخطّى حدود لبنان وكأنّ هذا الشّرق ألعوبة في أيدي بعض الدّول، لا نستطيع أن نؤثّر في قراراتها ولا في تنفيذ قراراتها. مواجهة هذا العدوان ينطلق برأيي من التّشديد على وحدة لبنان وعيش هذه الوحدة. نحن نقول العيش المشترك وقد تخطّينا هذا التّعبير لنقول العيش الواحد. العيش الواحد يعني أنّ لبنان عائلة واحدة: جغرافيّة واحدة، تاريخ واحد، لغة واحدة، تقاليد واحدة، إله واحد للجميع وهو يحبّ الجميع بالتّساوي.

إذا انطلقنا من هذه المبادئ وأتينا إلى بقاعنا الغالي نرى أنّ لبنان ينعكس في أزماته على حياة البقاع والبقاعيّين، فنحن لسنا جزيرة منفصلة عن باقي الوطن ولو أرادها البعض جزيرة. نحن نشعر بأنّنا مهمّشون داخل الوطن وأنّ السّلسلة الغربيّة غرّبتنا عن باقي الوطن وصارت حاجزًا طبيعيًّا ونفسيًّا وحاجزًا إعلاميًّا وخدماتيًّا وكأنّ البقاع جزء منفصل عن هذا الوطن. مسؤوليّتنا أن نعيد البقاع إلى ساحة الاهتمام الأساسيّ في الدّولة اللّبنانيّة وفي الإعلام اللّبنانيّ بنوع خاصّ وفي الخدمات. تهميش البقاع له مخاطر تنعكس على لبنان. إذا كانوا يظنّون أنّ لبنان هو هناك فقط فهم يخطئون بحقّ كلّ لبنان وكلّ اللّبنانيّين لأنّ تهميش البقاع سينعكس سلبًا على كلّ الوطن.

أمّا بالنّسبة للوحدة، والبعض يفكّر في إعادة دراسة وهيكلة الصّيغة اللّبنانيّة، الصّيغة الحاليّة، أهي الّتي يجب أن تستمرّ وتبقى؟ أم أنّنا سنستبدلها بصيغة قد تزيد من مشاكل الوطن ومن انقساماته. إذا قلنا إنّ الصّيغة الحاليّة هي الصّيغة الّتي نختار، علينا نحن أن نكون مبادرين ومساهمين في إنهائها. إذا أردناها علينا الدّفاع عنها والصّيغة تنطبق على الجميع لأنّ لبنان هو وطن رسالة، وطن طوائف متعدّدة وأديان مختلفة تعيش بوحدة مميّزة لا شبيه لها في العالم، ولذلك هي أصبحت هدفًا لكثيرين في هذا العالم بأنّه لا يجب أن تبقى هذه الصّيغة. هذه الصّيغة تشكّل خطرًا على الصّيغ الإفراديّة الّتي تعتمد الاتّجاه الواحد واللّون الواحد. ونحن من منطلق الحفاظ على هذه الصّيغة علينا ان نلتزم جميعًا بحماية هذه الصّيغة بدءًا من ملء الفراغ في سدّة الرّئاسة الأولى. لماذا لبنان اليوم وبعد اشهر طويلة يبقى دون رئيس؟ أين كرامة الجمهوريّة الّتي لا رأس لها؟ من الضّروريّ جدًّا ألّا يستمرّ الفراغ، فإيجاد الرّئيس هو رمزيّة مهمّة مقدّسة إذا أردنا أن نقدّس الصّيغة فعلينا أن نلتزم بكلّ تركيبتها وبكلّ عناصرها وجوهرها. وأنا من منطلق أخويّ ومن منطلق محبّة أقول إنّ الوجود المسيحيّ في لبنان هو ليس وجود منفصل عن وجود المسلمين، هو وجود واحد للدّينين والطّوائف مجتمعة. المسيحيّون عنصر مؤسّس تاريخيّ من منطلق بدايات الوطن، والوجود المسيحيّ هو وجود، على مرّ التّاريخ، لبنانيّ، وطنيّ، عروبيّ، منفتح يختار الحياة الواحدة لجميع اللّبنانيين بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدّينيّة. هذا الوجود هو مسؤوليّة إسلاميّة- مسيحيّة مشتركة، لكن أنا أقول إنّها مسؤوليّة إسلاميّة بامتياز، كما أنّ الوجود المسلم هو مسؤولية مسيحيّة بامتياز، إذا تخلّينا عن هذا المبدأ فذلك يعني أنّنا تخلّينا عن لبنان.  

نحن في زمن محدوديّة الإمكانيّات لكن لا يجوز أن نستسلم، بما لدينا من إمكانيّات نحن قادرون على تغيير هذا الوضع ومواجهة هذه التّحدّيات وحلحلة الكثير من الأزمات والمسائل الّتي تعيق تقدّمنا. هذه هي رسالتنا علينا أن نؤدّيها بكلّ أمانة وبكلّ ثقة لأنّنا إذا آمنّا بدورنا يصبح هذا الدّور فعّالاً، وإذا لم نؤمن بدورنا وذواتنا نكون أمام دورٍ يحتاج هو أوّلاً إلى تطبيب وإلى إعادة نظر."