المطران ابراهيم شارك رعيّة البربارة صلاة النّوم الكبرى: كيف نجوع إلى الله؟
وفي نهاية الصّلاة كانت كلمة للأب جاورجيوس شبوع رحّب فيها بالمطران ابراهيم في الرّعيّة شاكرًا جهوده في رعاية كلّ أبناء وبنات الأبرشيّة.
وكان للمطران ابراهيم عظة بعنوان "الإفخارستيّا والصّوم: كيف نجوع إلى الله؟"، اختتم فيها الرّياضة الرّوحيّة في الرّعيّة وقال فيها:
"الإفخارستيّا والصّوم يرتبطان بعلاقة روحيّة عميقة تجعل من الصّوم توقًا إلى الله. الإفخارستيّا هي أعظم عطاء وهبه الله للبشر، إذ أعطانا جسده ودمه ليكون غذاءً أبديًّا لحياتنا الرّوحيّة. ولكن كيف يمكننا أن نفهم هذه العلاقة بين الصّوم والإفخارستيّا بشكل أعمق؟
الصّوم في جوهره ليس مجرّد حرمان، بل هو توجيه للجوع الجسديّ نحو الجوع الرّوحيّ. يقول المسيح: "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ" (متّى 4:4). عندما نصوم، نحن نعلن أنّ هناك ما هو أهمّ من الطّعام الجسديّ، وهو الجوع إلى الله. لذلك، فإنّ الصّوم ليس فقط عن الامتناع، بل هو إعداد للجسد والنّفس لاستقبال النّعمة الإلهيّة."
وأضاف "الإفخارستيّا هي تلبية لهذا الجوع الرّوحيّ. عندما نقترب من المائدة المقدّسة، نحن لا نأكل خبزًا عاديًّا، بل نتّحد مع المسيح نفسه، كما قال: "مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يوحنّا 56:6). هذا يعني أنّ الإفخارستيّا ليست مجرّد طقس دينيّ، بل هي فعل اتّحاد بالله، حيث نصبح واحدًا معه.
يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "كما أنّ الطّعام يغذّي الجسد، هكذا الإفخارستيّا تغذّي الرّوح وتمنحها قوّة للحياة الأبديّة". لكن كيف يمكننا أن نشعر بهذه القوّة إن لم نكن مستعدّين روحيًّا؟ هنا يأتي دور الصّوم، الّذي يهيّئ النّفس لاستقبال هذا السّرّ العظيم. عندما نصوم، نحن ننقّي قلوبنا، نبتعد عن كلّ ما يثقلها، ونجعلها مستعدّة لهذا اللّقاء الإلهيّ."
وتابع: "التّقليد المسيحيّ كان دائمًا يربط بين الصّوم والتّناول المقدّس. الكنيسة الأولى كانت تشجّع المؤمنين على الصّوم قبل الإفخارستيّا كعلامة على التّهيّؤ لهذا اللّقاء المقدّس. في هذا نجد معنى روحيًّا عميقًا: نحن لا نأكل الطّعام الجسديّ حتّى نشعر بحاجتنا إلى الطّعام الرّوحيّ. الصّوم يجعلنا نختبر جوعًا روحيًّا، وعند التّناول نجد أنّ المسيح وحده قادر على أن يشبع هذا الجوع.
لكن لماذا نجد أحيانًا أنّنا لا نختبر هذا الإشباع الرّوحيّ بالرّغم من الصّوم والإفخارستيّا؟ المشكلة تكمن في أنّنا قد نحوّل الصّوم إلى مجرّد عادة، أو الإفخارستيّا إلى مجرّد طقس. إن لم يكن الصّوم مبنيًّا على حبّ حقيقيّ لله، وإن لم يكن التّناول مقرونًا بإيمان حيّ، فإنّنا نفقد قوّتهما الحقيقيّة. لذلك، الصّوم ليس فقط عن الطّعام، بل هو أيضًا صوم عن الخطايا، عن اللّامبالاة الرّوحيّة، عن كلّ ما يجعل قلوبنا باردة تجاه الله."
وقال: "الصّوم يعلّمنا الجوع الصّحيح. في العالم الحديث، نحن معتادون على الإشباع السّريع لكلّ احتياجاتنا، لكن الصّوم يعيد ترتيب رغباتنا، يجعلنا نشتاق إلى الله أكثر من أيّ شيء آخر. حينما نشعر بالجوع أثناء الصّوم، يمكننا أن نوجّه هذا الجوع في الصّلاة قائلين: "يا ربّ، اجعلني أجوع إليك كما أجوع إلى الطّعام". حينها يصبح الصّوم وسيلة للتّقرّب من الله، لا مجرّد فعل جسديّ.
يقول البابا بنديكتوس السّادس عشر: "الصّوم والإفخارستيّا يذهبان بنا إلى أبعد من احتياجاتنا الجسديّة، ليضعانا في علاقة مباشرة مع الله، حيث لا نبحث فقط عن غذاء فاني، بل عن الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء". لذلك، الإفخارستيّا هي ذروة الصّوم، وهي النّعمة الّتي تعطي الصّوم معناه الحقيقيّ.
الجوع، في ظاهره، هو صرخة الجسد حين تنفد موارده، واحتراق الأحشاء بحثًا عن كسرة خبز أو جرعة ماء تسدّ رمق الحياة. لكنّه في عمقه، هو لغة الرّوح، نداءها الصّامت إلى الامتلاء بحضور الله، صرخة الكيان الّذي أدرك أنّ لا خبز الأرض ولا ماء الينابيع يمكن أن يطفئ عطشه العميق."
وتابع المطران إبراهيم: "الجائع إلى الله هو ذاك الّذي لا يشبع قلبه من عطايا العالم، لأنّ في داخله فراغًا لا يملؤه سوى المطلق، فراغًا لا يسدّه مال أو مجد أو ملذّات. هو ذاك الّذي يتوق إلى الله كما يتوق العطشان إلى الماء في صحراء الوجود، وكما ينحني الجائع إلى الأرض يبحث عن كسرة حياة.
الجوع البشريّ والجوع الإلهيّ هما لقاء الحاجتين في صليب الحياة حين نشاهد الفقير يمدّ يده، نرى صورة الإنسانيّة المتعبة، المكسورة، التّوّاقة إلى الرّحمة. في وجهه نتلمّس انعكاس البشريّة كلّها، بضعفها، بحاجتها، بألمها. الفقير الجائع لا يبحث عن مجرّد طعام، بل عن كرامة، عن حضور، عن حبّ يشعره بأنّه ليس منسيًّا في زوايا العالم.
وفي مقابل هذا الجوع الجسديّ، هناك جوع أعظم يلتهم القلوب: الجوع إلى الله. إنّه الجوع الّذي عبّر عنه القدّيس أوغسطينوس حين قال: "لقد خلقتنا لك يا رب، وقلبنا لن يجد راحته إلّا فيك." هو الجوع الّذي يجعل الإنسان يتوق إلى نور الحقيقة في عالم من الظّلال، إلى طمأنينة الحبّ الإلهيّ في بحر من القلق والتّيه."
وأردف: "المسيح وحده هو اللّقاء الحيّ بين الجوعين، إذ صار هو نفسه "الخبز النّازل من السّماء" (يو 6: 51)، ليُشبع جوعَ الإنسان إلى الله، وطلب من تلاميذه أن يُشبعوا جوع الفقراء: "أعطوهم أنتم ليأكلوا" (لو 9: 13). ففي كلّ فقير جائع، يمدّ المسيح يده إلينا، وفي كلّ قلب متعطّش إلى الله، يشرق نور حضوره.
حين نختبر الجوع إلى الله، نصبح قادرين على فهم جوع الفقراء، لأنّ من ذاق العطش الحقيقيّ إلى النّعمة، يفهم وجع من يذوق العطش إلى لقمة العيش. ومن امتلأ بالله، يشعر بحاجة أخيه، ويمدّ يده، لا ليعطي الخبز فحسب، بل ليمنح المحبّة، الحضور، والكرامة.
المفارقة الكبرى هي أنّ من يجوع إلى الله ويقترب منه، يزداد جوعًا لا شبعًا، لأنّه كلّما ذاق جماله، زاد شوقه إليه. ومن يطعم الفقير، يكتشف أنّه هو نفسه قد نال خبزًا أعظم: خبز الفرح الحقيقيّ، خبز العطاء، خبز الشّركة مع الله ومع الإنسان.
فطوبى للجائعين إلى الله، لأنّهم سيشبعون بنور وجهه. وطوبى لمن يسدّ جوع الفقير، لأنّه يكون جسرًا بين جوع الأرض وجوع السّماء."
وإختتم المطران إبراهيم: "الصّوم هو زمن نجوع فيه إلى الله، والإفخارستيّا هي الزّمن الّذي نشبع فيه منه. كلاهما جزء من مسيرة روحيّة تقودنا إلى العمق، إلى إعادة اكتشاف معنى الحياة الحقيقيّة في الله. عندما نصوم ونتناول بوعي وإيمان، نحن لا نمارس مجرّد طقوس، بل ندخل في سرّ الحبّ الإلهيّ، الّذي وحده قادر على أن يشبع جوعنا الحقيقيّ. فهل نحن مستعدّون للصّوم لا فقط عن الطّعام، بل عن كلّ ما يمنعنا من الجوع إلى الله؟".
وفي نهاية عظته، منح المطران ابراهيم الغفران الكامل للّذين شاركوا في الرّياضة الرّوحيّة في الرّعيّة، وانتقل بعدها الحضور إلى صالون الرّعيّة حيث بارك مائدة محبّة صياميّة والتقى بأبناء الرّعيّة مطمئنًّا إلى أوضاعهم.