لبنان
21 آذار 2025, 11:20

المطران ابراهيم: القيامة ليست مجرّد حدث مستقبليّ بل هي حياة تعاش هنا والآن

تيلي لوميار/ نورسات
واصل رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم جولته على رعايا زحلة في زمن الصّوم المقدّس، ومحطّته السّابعة كانت في كنيسة مار يوحنّا المعمدان في حوش الزّراعنة حيث ترأّس صلاة النّوم لكيرى بحضور كاهن الرّعيّة الأرشمندريت جوزف صغبيني وأبناء وبنات الرّعيّة.

وفي نهاية الصّلاة كانت للمطران ابراهيم عظة روحيّة، من سلسلة عظات الرّياضات الرّوحيّة في الرّعايا، بعنوان "الرّجاء وسط الألم: كيف نجد نور القيامة في وسط الظّلام؟" قال فيها:

" إنّ الحياة مليئة بالمحن والتّجارب الّتي تجعل الإنسان يشعر أحيانًا باليأس وفقدان الأمل، ولكن الإيمان المسيحيّ يقدّم لنا نور الرّجاء الّذي لا ينطفئ. في زمن الصّوم، ندخل في تأمّل عميق في معاناة المسيح، لكنّنا في الوقت نفسه ننتظر بفرح قيامة الحياة الجديدة. فكيف يمكننا أن نحافظ على الرّجاء وسط الألم؟ وكيف نعيش القيامة ونحن لا نزال في خضمّ الصّليب؟

الرّجاء ليس مجرّد تفاؤل سطحيّ، بل هو فضيلة روحيّة ترتكز على وعد الله بالخلاص. يقول بولس الرّسول: "وَلَكِنْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً" (رومية 4:5-5). هذا يعني أنّ الألم ليس نهاية الطّريق، بل يمكن أن يكون بداية لرحلة جديدة نحو الله.

عندما نتأمّل في حياة المسيح، نرى أنّ الألم لم يكن غريبًا عليه، بل كان جزءًا من مهمّته الخلاصيّة. في بستان الزّيتون، صلّى قائلًا: "يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ" (متّى 39:26)، ولكنّه في النّهاية قبل إرادة الآب بثقة كاملة. هذه الثّقة هي جوهر الرّجاء، لأنّها تعلّمنا أنّ الألم ليس عبثيًّا، بل يحمل في داخله معنى أعمق إذا وضعناه بين يدي الله.

كيف نعيش الرّجاء في وسط الألم؟

التّأمّل في القيامة كحقيقة حاضرة: القيامة ليست فقط حدثًا تاريخيًّا نحتفل به مرّة في السّنة، بل هي واقع يوميّ نعيشه. يقول المسيح: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يوحنّا 25:11)، ممّا يعني أنّ كلّ لحظة مع الله يمكن أن تكون قيامة جديدة لحياتنا.

الصّلاة والثّقة في العناية الإلهيّة: الرّجاء لا يعتمد على قدرتنا الشّخصيّة، بل على نعمة الله الّتي تسندنا. الصّلاة تمنحنا القوّة لنرى ما وراء الظّلام، وتساعدنا على تسليم مخاوفنا لله.

مشاركة الألم مع الآخرين: لا ينبغي أن نعيش معاناتنا في عزلة، بل أن نشاركها مع الجماعة المسيحيّة. عندما نحمل أحزاننا معًا، نصبح أكثر قدرة على تحمّلها. وكما حمل سمعان القيروانيّ صليب المسيح، نحن أيضًا مدعوّون لنحمل بعضنا أثقال بعض.

ممارسة الشّكر حتّى وسط الألم: ربما يبدو من الصّعب أن نشكر الله في وسط الأزمات، ولكن الشّكر يفتح قلوبنا لنعمة الله. يقول بولس الرّسول: "اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ" (1 تسالونيكي 18:5). الشّكر يحوّل الألم إلى فرصة للنّموّ الرّوحيّ.

تذكّر وعود الله: في لحظات الظّلمة، يمكننا الرّجوع إلى الكتاب المقدّس، حيث نجد تأكيدات مستمرّة بأنّ الله لا يتركنا وحدنا. "لأَنِّي عَالِمٌ بِالأَفْكَارِ الَّتِي أَنَا مُفَكِّرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارُ سَلاَمٍ لاَ شَرّ، لِكَيْ أُعْطِيَكُمْ مُسْتَقْبَلًا وَرَجَاءً" (إرميا 11:29).

الرّجاء من خلال العمل الصّالح: الرّجاء ليس مجرّد شعور داخليّ، بل هو دافع لتحويل الألم إلى طاقة إيجابيّة. من خلال مساعدة الآخرين، نصبح أدوات لنعمة الله، ونجد أنّنا نحن أيضًا نتلقّى التّعزية من خلال العطاء.

في عالم يعاني من الحروب، الفقر، والمرض، قد يبدو الرّجاء فكرة بعيدة المنال. ولكن الإيمان يعلّمنا أنّ الله حاضر حتّى في أحلك اللّحظات. البابا بنديكتوس السّادس عشر يقول: "الرّجاء المسيحيّ ليس مجرّد توقّع لشيء جيّد، بل هو يقين بأنّ الله يقود حياتنا نحو الخير حتّى عندما لا نراه بوضوح". هذا يعني أنّ الرّجاء ليس مجرّد شعور، بل هو التزام بالعيش في نور الإيمان."

وأعطى المطران ابراهيم أمثلة من حياة القدّيسين كيف عاشوا الرّجاء فقال: "القدّيسة تيريزا الطّفل يسوع عاشت في ألم مرض السّلّ، لكنّها لم تفقد رجاءها، بل كتبت: "إذا كان الله يضعني في هذه النّار، فهو يريدني أن أضيء أكثر". كذلك القدّيس منصور دي بول الّذي وجد في خدمة الفقراء وسيلة لتجاوز ألمه الشّخصيّ والعيش في نور الرّجاء.

في دروب الحياة الملتوية، حيث تتكاثر الظّلال وتشتدّ العواصف، يظلّ الرّجاء شعلة لا تنطفئ، ونبضًا خفيًّا ينعش الأرواح المنهكة. هو ذاك النّور الخافت في أعماق اللّيل، والوعد الصّامت بأنّ الفجر آتٍ، مهما طال الانتظار.

حين تضيق بنا المسالك، ونحسّ أنّ الجدران تضغط على أرواحنا، ينبعث الأمل كنبتة صغيرة تشقّ صخر الألم، تشهد بأنّ للحياة قدرة على التّجدّد، وللقلوب قدرة على النّهوض، حتّى بعدما ظنّت أنّها سقطت بلا رجعة.

الرّجاء ليس إنكارًا للألم، ولا هروبًا من الحقيقة، بل هو يقين بأنّ خلف كلّ جرح حكمة، وأنّ الألم ليس إلّا معبرًا إلى حكمة أسمى، إلى نضج أعمق، إلى نور لم نكن لنبصره لولا العتمة. الأمل هو ذلك الصّوت العميق في دواخلنا الّذي يهمس في لحظات الانكسار: "تشبّث بالحياة، هناك ما ينتظرك بعد العاصفة".

ما أقسى أن يسير الإنسان بين الأشواك، أن تلسعه الخيبات، أن تثقل روحه الأوجاع، لكنّه رغم ذلك يرفع عينيه إلى السّماء، ويهمس كطفل واثق بحضن أبيه: "يا ربّ، لن أستسلم".

ليس الرّجاء مجرّد فكرة، بل حياة تُعاش، وإيمانٌ بأنّ الشّمس ستشرق، وإن تأخّرت. هو حكاية كلّ قلب تألّم لكنّه لم ييأس، كلّ عين دمعت لكنّها لم تفقد البصيرة، كلّ يدٍ ارتجفت لكنّها لم تتوقّف عن العطاء.

وإن كانت الحياة بحرًا متلاطم الأمواج، فإنّ الأمل هو ذاك المجداف الّذي لا يسمح لنا بالغرق. وإن كانت الأيّام ثوبًا من الشّوك، فإنّ الرّجاء هو تلك اليد الّتي تنزع الشّوك بلطف، وتحوّله إلى إكليل من المجد.

فالرّجاء ليس انتظارًا خاملًا، بل هو جهادٌ روحيّ، صبرٌ جميل، وإيمانٌ عميق بأنّ الله يمسك بخيوط حياتنا، حتّى لو بدت لنا ممزّقة. وكم من ليلة خيّمت بظلامها الدّامس، لكنّنا استيقظنا لنجد الفجر يبتسم لنا، ويهمس: "لقد نجوت، وما زال في العمر متسعٌ للفرح". فالرّجاء هو وعد الله بأنّ للحياة دومًا وجهًا آخر، وأنّ الحكاية لم تنتهِ بعد."

وإختتم المطران ابراهيم عظته قائلًا: "الصّوم هو زمن نعيش فيه الألم، لكنّنا لا نقف عنده، بل نتطلّع إلى القيامة. في كلّ تجربة نمرّ بها، هناك فرصة لننمو في الإيمان والرّجاء. لنسأل أنفسنا: هل نسمح للألم بأن يسحقنا، أم أنّنا نضعه بين يدي الله ليحوّله إلى قيامة جديدة؟ المسيح انتصر على الموت ليمنحنا هذا الرّجاء، فلنحمله معنا في كلّ يوم، ولنجعل حياتنا شهادة على أنّ القيامة ليست مجرّد حدث مستقبليّ، بل هي حياة تُعاش هنا والآن. آمين."

بعد الصّلاة انتقل الحضور الى صالون الكنيسة واطمأنّ المطران ابراهيم إلى أوضاع المؤمنين واستمع إلى هواجسهم.