المطران إبراهيم يدعو إلى السّلام الدّاخليّ وسط العواصف
وفي تفاصيل عظته، قال إبراهيم بحسب إعلام الأبرشيّة: "في عالم يموج بالاضطرابات، حيث الحروب والأزمات الاقتصاديّة والانقسامات الاجتماعيّة، يبدو السّلام الدّاخليّ وكأنّه حلم بعيد المنال. لكن الصّوم المسيحيّ هو زمن استعادة هذا السّلام من خلال التّفرّغ لله، والتجرّد من الضّوضاء الخارجيّة، وإعادة ترتيب الأولويّات على ضوء الإيمان. فكيف يمكننا في عالم اليوم، الّذي يزداد توتّرًا وانشغالًا، أن نحقّق السّلام الّذي وعدنا به المسيح؟
يقول المسيح: "سَلامًا أَترُكُ لَكُم، سَلامي أُعْطيكُم، لا أُعْطيكُم كما يُعْطي العالَم" (يوحنّا 14: 27). هذا السّلام ليس مجرّد غياب للمشاكل، بل هو حضور الله في القلب رغم الصّعوبات. في العهد القديم، نجد أنّ السّلام يرتبط بالعلاقة مع الله: "إِذَا أَرْضَتِ الرَّبَّ طُرُقُ إِنْسَانٍ، جَعَلَ أَعْدَاءَهُ أَيْضًا يُسَالِمُونَهُ" (أمثال 16: 7). يشير هذا النّصّ إلى أنّ السّلام ليس فقط نتيجة غياب النّزاع، بل هو ثمرة انسجام الإنسان مع مشيئة الله. عندما يُرضي الإنسان الله في سلوكه وحياته، فإنّه يختبر سلامًا يتجاوز حدود العلاقات البشريّة، إذ يتدخّل الله ليجعل حتّى أعداءه يسالمونه. هذه الآية تكشف عن حقيقة روحيّة عميقة، وهي أنّ الحياة المستقيمة أمام الله تجلب بركة لا تقتصر على صاحبها، بل تمتدّ إلى محيطه، فينقلب العداء إلى مهادنة، والكراهيّة إلى هدوء.
هذا لا يعني بالضّرورة أنّ الأعداء يختفون من حياة المؤمن، بل إنّ العداوة ذاتها تفقد قوّتها وتأثيرها، لأنّ الله هو الّذي يضبط القلوب ويوجّهها وفق مشيئته. قد نرى أمثلة لذلك في حياة يوسف الصّدّيق، الّذي رغم أنّ إخوته تآمروا عليه وباعوه، جعل الله طريقه مستقيمًا، فتحوّلت عداوتهم إلى مصالحة. وكذلك بولس الرّسول، الّذي كان مضطهدًا للمسيحيّين، فغيّر الله قلبه ليصبح رسولًا للأمم.
السّلام الّذي تعد به هذه الآية ليس مجرّد نتيجة لتدابير بشريّة، بل هو عمل إلهيّ يتجلّى عندما يثق الإنسان في الله أكثر من ثقته في القوّة أو الدّهاء البشريّ. فالله قادر أن يليّن القلوب القاسية ويزيل روح العداء، كما حدث مع داود والملك شاول، حيث رغم اضطهاد شاول لداود، إلّا أنّ الأخير بقي ثابتًا في مخافة الله، فلم يستطع شاول أن يؤذيه.
الرّسالة الجوهريّة لهذه الآية هي أنّ المؤمن مدعوٌ لأن يركّز على إرضاء الله لا على مخاوفه من الآخرين. فحين يكون الإنسان مستقيمًا في طرقه، فإنّه لا يحتاج إلى السّعي لكسب رضا النّاس بالقوّة، لأنّ الله نفسه يتكفّل بتحقيق السّلام، فيعيش مطمئنًّا حتّى في وجه العداوة، مستندًا إلى وعد الله بأنّ من يسلك ببرّه لن يُترك وحده، بل سيحاط بحماية إلهيّة تعمل حتّى في قلوب أعدائه.
القديس أغسطينوس يعلّق: "قلبي قلق حتّى يستريح فيك يا الله"، ممّا يوضح أنّ السّلام الحقيقيّ لا يتحقّق إلّا من خلال الارتباط بالله، حيث أنّ البحث عن السّلام في الأمور المادّيّة أو الشّهوات الزّمنيّة لا يؤدّي إلّا إلى مزيد من القلق والضّياع. يقول النّبيّ إشعياء: "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ، بِالسُّكُوتِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ" (إشعياء 30: 15). كما يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "الصّلاة هي سلاح قويّ، تحرّر النّفس من كلّ اضطراب. إن كنّا نصلّي بإيمان، لن يستطيع شيء أن يزعزعنا."
الصّوم هو وسيلة لإعادة توجيه الرّوح نحو مصدرها الحقيقيّ. فالقلق الاقتصاديّ الّذي يعاني منه كثيرون في زمننا هذا يجد جوابه في كلمات المسيح: "لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون أو تشربون... أليسَتِ الحياةُ أفضلَ مِنَ الطَّعامِ؟" (متّى 6: 25). الصّوم يعلّمنا الثّقة بالعناية الإلهيّة، فهو وقت نستعيد فيه إيماننا بأنّ الله يعولنا كما يعول طيور السّماء. كما أنّ الصّوم هو فرصة لتحرير أنفسنا من العادات الّتي تزيد من قلقنا، سواء كان ذلك الاستهلاك المفرط أو التّعلّق بالممتلكات المادّيّة.
كما أنّ الصّوم زمن تقوية الإيمان والاتّكال على الله، وليس على البشر أو الظّروف. الرّبّ يسوع كان وسط العاصفة في السّفينة، لكن التّلاميذ صرخوا خوفًا. قال لهم: "لِماذا أَنْتُم خائِفُونَ يا قَليلِي الإِيمان؟" (متّى 8: 26). هنا نجد درسًا روحيًّا عظيمًا: فالإيمان اّلذي ينمو خلال الصّوم والصّلاة يجعل الإنسان قادرًا على مواجهة التّحدّيات والصّعوبات بروح ثابتة لا تهتزّ أمام المحن. أمّا الفيلسوف جاك ماريتان فيرى أنّ البحث عن السّعادة بعيدًا عن الله يؤدّي إلى قلق مستمرّ، بينما يحقّق الإيمان سلامًا عميقًا.
لكي نعيش السّلام الدّاخليّ خلال الصّوم، علينا تخصيص وقت للصّلاة العميقة والتّأمّل اليوميّ، حيث نتحدّث إلى الله عن مخاوفنا ونطلب نعمته. كما ينبغي الامتناع عن مصادر القلق، مثل الأخبار السّلبيّة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ الّتي تثير التّوتّر، وممارسة الصّدقة لأنّها تجعل القلب أكثر انسجامًا مع روح العطاء الإلهيّ، كما قال الرّبّ: "المغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أعمال 20: 35). الصّوم يساعدنا أيضًا على ممارسة الصّمت الدّاخليّ، حيث ننصت إلى صوت الله ونكتشف مشيئته لحياتنا، وهذا ما يؤكّد عليه التّقليد الرّوحيّ الشّرقيّ من خلال ممارسة "هدوء القلب".
إنّ ممارسة الصّوم ليست مجرّد انقطاع عن الطّعام، بل هي مدرسة تهذيب للنّفس والجسد، حيث نتعلّم كيف نضبط شهواتنا ونعيش بحكمة وتوازن. القدّيس باسيليوس الكبير يقول: "الصّوم يجعل النّفس أكثر نقاءً، والجسد أكثر خفّةً، والعقل أكثر يقظةً للصّلاة". فالصّوم الحقيقيّ يقود الإنسان إلى حالة من الصّفاء الرّوحيّ، حيث يختبر الإنسان طعم الفرح الدّاخليّ الّذي لا يعتمد على الظّروف الخارجيّة.
ختامًا، الصّوم هو رحلة إلى أعماق النّفس، حيث نكتشف مواطن الضّعف فينا ونسعى إلى تطهيرها بنعمة الله. إنّه زمن لنعيش فيه يقيننا بأنّ "إله السّلام سيكون معنا" (فيلبّي 4: 9)، وأنّه قادر على أن يمنحنا السّلام الّذي يفوق كلّ عقل، رغم العواصف الّتي تحيط بنا. فهل نحن مستعدّون لعيش هذا السّلام؟
غدًا نكون مع الرّياضة الثّانية حول موضوع: "التّجربة في البرّيّة الحديثة: مقاومة الإغراءات في زمن التّكنولوجيا والاستهلاك".