لبنان
06 آذار 2025, 08:50

المطران إبراهيم يحذّر من "التّجربة في البرّيّة الحديثة- مقاومة الإغراءات في زمن التّكنولوجيا والاستهلاك"

تيلي لوميار/ نورسات
حذّر رئيس أساقفة أبرشيّة الفرزل والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران إبراهيم إبراهيم من الإغراءات الّتي تأخذ أشكالًا عديدة اليوم في زمن التّكنولوجيا والاستهلاك، ودعا في عظته الثانية خلال الرّياضة الرّوحيّة الّتي يقيمها في كاتدرائيّة سيّدة النّجاة- زحلة، إلى مجابهتها بالإيمان والصّلاة.

وفي تفاصيل العظة، قال إبراهيم بحسب إعلام الأبرشيّة:  

"في بداية رسالته العلنيّة، انطلق المسيح إلى البرّيّة، حيث صام أربعين يومًا وأربعين ليلة، وتعرّض هناك للتّجربة. هذه التّجربة لم تكن مجرّد حادثة معزولة في حياة يسوع، بل هي صورة رمزيّة لصراع الإنسان المستمرّ مع الإغراءات المختلفة الّتي تهدّد مسيرته الرّوحيّة. اليوم، نحن لا نعيش في برّيّة جغرافيّة كما عاشها المسيح، لكنّنا نحيا في برّيّة حديثة مليئة بالإغراءات التّكنولوجيّة والاستهلاكيّة الّتي تسعى إلى استنزاف قلوبنا وأذهاننا بعيدًا عن الله.

يقول الكتاب المقدّس: "لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا، يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عبرانيّين 2:18). هذا يذكّرنا بأنّ المسيح اختبر التّجربة ليكون قريبًا منّا في صراعاتنا اليوميّة. ومع ذلك، كيف يمكننا مقاومة التّجربة الحديثة الّتي أصبحت أكثر دهاءً وتغلغلًا في حياتنا؟

الإغراءات اليوم تأخذ أشكالًا عديدة: الإدمان على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، الانشغال المفرط بالمادّيّات، البحث الدّائم عن المتعة الفوريّة، والسّقوط في فخّ الاستهلاك المفرط. هذه الإغراءات، مثل تجربة المسيح في البرّيّة، تعدنا بالرّاحة المؤقّتة، لكنّها في الواقع تستنزف أرواحنا وتبعدنا عن الجوهر الحقيقيّ لحياتنا الرّوحيّة.

لقد قال المسيح للشّيطان في البرّيّة: "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ" (متّى 4:4). في عصرنا الحديث، يمكننا أن نعيد تفسير هذه الآية لنقول: ليس بالإنترنت وحده يحيا الإنسان، ولا بالمادّيّات ولا بالشّهرة، بل بالحياة الرّوحيّة العميقة الّتي يهبها الله.

الصّوم يساعدنا على التّحرّر من هذه الإغراءات لأنّه يعيد توجيه انتباهنا نحو الله. عندما نمتنع عن الطّعام لفترة، ندرك حاجتنا إلى الطّعام الرّوحيّ. عندما نقلّل من استخدام وسائل التّواصل الاجتماعيّ، نكتشف قيمة التّواصل الحقيقيّ مع الله ومع الآخرين. عندما نمارس الزّهد، نشعر بحقيقة أنّ السّعادة لا تأتي من كثرة الممتلكات، بل من القلب الممتلئ بمحبّة الله.

القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يقول: "الصّوم ليس فقط عن الامتناع عن الطّعام، بل هو امتناع عن كلّ ما يعطّل علاقتنا مع الله". في هذا الزّمن، نحن مدعوّون إلى صوم جديد، ليس فقط عن الأطعمة، بل عن العادات الّتي تأسر قلوبنا، عن الانشغال المفرط بالمادّيّات، عن الضّوضاء الّتي تبعدنا عن صوت الله الهادئ.

الفيلسوف الكاثوليكيّ جاك إلول يشير إلى أنّ التّكنولوجيا ليست شرّيرة في ذاتها، ولكنّها تصبح خطيرة عندما تتحوّل إلى إله جديد نعبده من دون وعي. في هذا السّياق، الصّوم يساعدنا على إعادة ترتيب أولويّاتنا، والتّأكّد من أنّ الله هو محور حياتنا وليس الشّاشات أو الإعلانات أو الاستهلاك المفرط.

لكي نعيش الصّوم بطريقة حقيقيّة، علينا أن نختبر برّيّة روحيّة شخصيّة، حيث نصمت أمام الله، نصغي إلى صوته، ونتحدّى أنفسنا لنكون أكثر تحرّرًا من قيود هذا العصر، فنصوم عن كلّ ما يلهينا عن ملكوت الله.

إنّ مقاومة التّجربة الحديثة ليست سهلة، لكن المسيح نفسه أعطانا المثال. فقد قاوم بالإيمان والصّلاة والصّوم. ونحن، إن سرنا على خطاه، سنجد أنفسنا أكثر حرّيّة، وأكثر صفاءً، وأكثر قربًا من الله. فهل نحن مستعدّون لمواجهة برّيّة هذا العصر بقوّة الرّوح، كما واجهها المسيح؟

إنّ الصّوم ليس مجرّد عادة دينيّة، بل هو رحلة روحيّة تهدف إلى تحرير الإنسان من كلّ ما يثقل روحه ويبعده عن الله. إنّ التّحدّيات الحديثة لا تقلّ خطورة عن التّجارب الّتي واجهها المسيح في البرّيّة، بل قد تكون أكثر دهاءً وتأثيرًا على حياتنا اليوميّة. ولكن إذا اخترنا الصّوم كوسيلة لاستعادة التّوازن الرّوحيّ، وإذا استخدمناه كفرصة للعودة إلى الله، فسنجد فيه قوّة روحيّة قادرة على تحريرنا من عبوديّة هذا العصر.

في عالم تكثر فيه العبوديّات الخفيّة، مثل عبوديّة الاستهلاك، وعبوديّة الوقت، وعبوديّة الشّهوات، وعبوديّة التّكنولوجيا الّتي تسلبنا التّركيز، وعبوديّة القلق على المستقبل، يأتي الصّوم كوسيلة فعّالة لكسر هذه القيود واستعادة التّوازن الرّوحيّ. إنّه مدرسة لضبط النّفس والاكتفاء بالقليل والعودة إلى الجوهر الرّوحيّ بعيدًا عن الضّوضاء الخارجيّة الّتي تبعدنا عن الله وعن ذواتنا الحقيقيّة.

عندما نختار الصّوم بوعي، فإنّنا نمنح أنفسنا فرصة للعودة إلى الله، حيث لا يكون الامتناع عن الطّعام مجرّد حرمان، بل مساحة لنملأها بالتّأمّل والصّلاة والاقتراب من الحقيقة الأسمى. إنّ الجوع الجسديّ الّذي نختبره يذكّرنا بجوعنا الرّوحيّ، والحرمان المؤقّت يعيد توجيه قلوبنا نحو الشّبع الحقيقيّ الّذي لا يمنحه إلّا الله. وهكذا، يتحوّل الصّوم إلى مسيرة روحيّة تقودنا إلى الله، فنصبح أكثر انتباهًا لصوته وأكثر استعدادًا لسماع ندائه بعيدًا عن صخب العالم وانشغالاته.

وفي جوهره، الصّوم ليس ضعفًا، بل قوّة روحيّة ترفع الإنسان فوق قيود المادّة وتمنحه خفّة يستطيع بها أن يسمو إلى الأعالي. إنّه تدريب للرّوح على مقاومة التّجربة، وتنقية للفكر ليصبح أكثر وضوحًا، وتحوّل داخليّ يمنحنا منظورًا مختلفًا للحياة. ليس من قبيل الصّدفة أنّ المسيح صام أربعين يومًا قبل أن يبدأ رسالته العلنيّة، وكأنّ الصّوم كان مرحلة تحضيريّة ضروريّة لاكتشاف جوهر الرّسالة الّتي أتى من أجلها. في الصّوم، يدرك الإنسان أنّه ليس عبدًا لرغباته، بل سيّد عليها، وأنّ الحياة ليست مجرّد استجابة لحاجات الجسد، بل سعي دائم نحو ما هو أسمى. وهكذا، يعيد الصّوم ترتيب أولويّاتنا، فنكتشف أنّ الكثير ممّا نعتبره ضروريًّا هو في الحقيقة ترف، وأنّ البساطة تقود إلى فرح داخليّ لا يعرفه المترَفون.

لكن الصّوم لا يتوقّف عند حدود الإنسان الفرد، بل يتعدّاه ليصبح تعبيرًا عن المحبّة والتّضامن مع الآخرين. حين نختبر الجوع ولو للحظات، نستطيع أن نشعر بآلام الجائعين والمحرومين، فنتحوّل من مجرّد أفراد إلى أشخاص يحملون في قلوبهم همّ الآخر. إنّه دعوة للخروج من الذّات والأنانيّة إلى مشاركة الآخرين في أوجاعهم، وجعل الصّوم ليس مجرّد انقطاع عن الطّعام، بل لقاء مع المحتاج، وتضامن مع الضّعيف، وانفتاح على الآخر بروح المحبّة. وهكذا، إذا اخترنا الصّوم بصدق واستخدمناه كفرصة للعودة إلى الله، فإنّه لن يكون مجرّد عادة أو طقس، بل وسيلة للتّحرّر الرّوحيّ، ولتوجيه أنظارنا إلى ما هو جوهريّ، ليصبح الصّوم بذلك طريقًا نحو حياة أكثر حرّيّة ونقاء.

فلنأخذ زمن الصّوم كفرصة لتقييم حياتنا، ولنتساءل بصدق: ما هي البرّيّة الّتي نعيشها اليوم؟ وما هي الإغراءات الّتي تحاول إبعادنا عن الله؟ وهل نحن مستعدّون لمجابهتها بالإيمان والصّلاة؟ إن اتّخذنا قرار المواجهة، فإنّنا لا نسير وحدنا، بل معنا المسيح الّذي انتصر على التّجربة، ويهبنا نعمته لننتصر نحن أيضًا.  

غدًا نكون مع الرّياضة الثّالثة حول موضوع: "من الظّلمة إلى النّور: الصّوم كطريق للشّفاء من الجراح النّفسيّة والرّوحيّة".

حتّى الغد أترككم في برّيّة الرّوح حيث يلتقي الانسان بربّه على جبل جديد أتمنّاه لكم مليئًا بالاختبارات المثمرة حيث تتذوّقون طعم الرّبّ اللّذيذ، الّذي يغذّي أرواحنا وعقولنا بالحكمة الإلهيّة ويرينا نور وجهه البهيّ حتّى نصير أبناء النّور الّذي لا يغرب. آمين."