دينيّة
24 آب 2025, 13:00

المسيحيّ والدّولة

تيلي لوميار/ نورسات
المسيحيّ والدّولة والعلاقة القائمة بينهما عبر العصور هو محور مقال جديد لخادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض، وفي سطوره يكتب:

"تحتلّ علاقة المسيحيّين كرعايا بصفتهم الفرديّة أو كأعضاء متّحدين في جماعة ذات حياة مشتركة (كنيسة) مع الدّولة مكانة أساسيّة. إتّخذت هذه القضيّة اتّجاهات شتّى عبر تاريخ الكنيسة، فمن قائل وجود علاقة إلى قائل بأنّه لا توجد علاقة فقط، ولا يجوز أن تكون هناك علاقة إلى قائل يدمج الاثنتين معًا. بالنّسبة للجيل الأوّل للمسيحيّين والذي جاء في أعقاب موت المسيح، فإنّ القانون الرّومانيّ اعتبر المسيحيّة كإحدى الشّيع اليهوديّة.

عندما اتّهم يهود كورنثوس بولس في سنة (551 م) أمام غاليون، لم يستمع الأخير لشكوى اليهود في أمورهم الدّينيّة التي تعدّاها بولس وطردهم من مجلس حكمه. أمّا بالنّسبة لبولس، فحيث أنّه كان في نظر الوالي يهوديًّا مثله في ذلك مثل متّهميه، فإنّ الاختلافات بين بولس واليهود في نظر غاليون اختلافات في تفسير أمور دينهم وهذا ما أتاح لبولس الاستمرار في خدمته الرّسوليّة وفي نشر الرّسالة المسيحيّة ليس فقط في ولايات الإمبراطوريّة الرّومانيّة بل وفي عاصمة الإمبراطوريّة (أعمال 28: 30-31). ولقد انعكست سعادته بالعدالة الرّومانيّة التي اختارها شخصيًّا على إصراره على أنّ الولاة الرّومانيّين خدّامًا للّه (رومية 6: 13).

وهناك جانب آخر لصورة علاقة المسيحيّين بالدّولة. لقد استهلّت علاقتها مع القانون الرّومانيّ بعقبة خطيرة بسبب أنّ مؤسّسها قد أدين، ونفّذ فيه حكم الموت الذي أصدره الوالي الرّومانيّ. وقد لخصت التّهمة التي وجّهت إليه في الكتابة التي علّقت فوق رأسه على الصّليب (ملك اليهود) وأيًّا كان ما قاله يسوع عن مملكته لبيلاطس، فإنّ الرّواية الوحيدة المعروفة بالنّسبة للقانون الرّومانيّ هي أنّه قاد حركة ضدّ سلطان قيصر الرّومانيّ.

وعندما أراد المقاومون لبولس في تسالونيكي أن يثيروا فتنة وشغبًا كبيرًا ضدّه وضدّ رفاقه المحلّيّين، كان أقصى ما في استطاعتهم أن يفعلوه أنّهم مضوا إلى السّلطات المدنيّة وقالوا عنهم: "إنّ هؤلاء الذين فتنوا المسكونة حضروا إلى ههنا وهؤلاء كلّهم يعملون ضدّ أحكام قيصر قائلين أنّه يوجد ملك آخر (يسوع) (أعمال الرّسل 37: 6-7 ) "ومع أنّ يسوع حكم عليه بالموت ونفّذ الحكم، فكيف يقول أتباعه أنّه ملك."

كان ذلك سوء تقصير ماكر للحقيقة، ومن المسلّم أنّ بولس لم يكن مسؤولًا عن هذه الأحداث إلّا أنّه حفظ القانون والنّظام (السّلطات المحلّيّة). كان من الطّبيعيّ مثل هذه الأمور أن تكون موضع اهتمام منهم، ويستنتجون منها ما يشاؤون. وعلى هذا فلقد كان من الطّبيعيّ أن يأخذ المسيحيّون حذرهم واحتياطهم في سلوكهم العام في هذه المجتمعات التي يعيشون فيها. لذلك كانوا لا يشتركون في الحياة السّياسيّة والدّينيّة التي كانت سائدة حينذاك في العالم اليونانيّ والرّومانيّ الذي كانوا يعتبرونه شرّيرًا وفاسدًا. ومع أنّهم كانوا مضطرين أن يعيشوا في العالم وأن يتلاءموا إلى حدّ ما مع جيرانهم، لكنّهم كانوا يحرصون على ألّا يتدنّسوا بشرور الدّنيا، ويصرّون على اتّباع المسيح رغم كلّ الظّروف. وعلى هذا الأساس، كانوا يمتنعون عن عرض منازعتهم أمام المحاكم العامّة أو يتولّوا الوظائف العموميّة أو يدفنوا موتاهم في المقابر العامّة أو يحضروا المبارزات أو يخدموا في الجيش الرّومانيّ. وفوق كلّ ذلك كانوا يرفضون أن يسجدوا لصورة الإمبراطور وهو الأمر الذي كان شائعًا كأسلوب للتّعبير عن ولاء للدّولة. لقد كان المسيحيّون يعتبرون ذلك عادة صنميّة وخيانة للرّبّ يسوع المسيح. ولذا لم يكن المسيحيّون الأوّلون فوضويّين أو ثوّار على الدّولة، لكنّهم كانوا لا يشتركون في الأمور التي كانت تتعارض مع ولائهم للمسيح كما أشرنا سابقًا، ولم يكونوا يعتبرون أنفسهم ضدّ الدّولة لكن كانوا يرون أنّ مبادءهم أسمى ممّا كانت الدّولة تنادي به. وفي نفس الوقت كانوا يطيعون الدّولة فيما لا يتعارض مع مبادئهم مثل دفع الضّرائب مثلًا. على وجه العموم لم يكن لديهم موقف ثابت إزاء الدّولة، فأحيانًا كانوا يخضعون لها سلبيًّا وأحيانًا كانوا يعارضون أو يقاومون مقاومة سلبيّة بدون عنف لأنّ هذا السّلوك كان اعتقادهم بأنّهم ليسوا من هذا العالم، وكانوا يستندون في ذلك إلى أقوال السّيّد المسيح وبولس الرّسول، فالعالم (الحاضر) كان شرّيرًا ومعاديًا. كانوا ينتظرون عالمًا أفضل سماويًّا. هكذا نرى أنّ الظّروف التي عاشت فيها الكنيسة وبالنّظرة الإسخاتولوجيّة التي سيطرت على فكرها عبّرت عنها في قوانين إيمانها الأولى.

كان لها التّأثير الكبير على الفكر الأخلاقيّ المسيحيّ، وهذا هو سرّ نجاحها وانتصارها على الوثنيّة لا بقوّة السّيف بل بقوّة الرّوح والمحبّة. وهذه الرّوح المتسامحة تقدر أن تعيش في كلّ مكان وحتّى تحت سيطرة نظام الحكم المعادي لها مثلًا الاتّحاد السّوفياتيّ سابقًا .

موقف بولس الإلهيّ والآباء القدّيسين من الدّولة

الرّسول بولس يعطي من خلال رسالته إلى رومية أوّل انطباعات روحيّة مسيحيّة عن علاقة المسيحيّين بالدّولة عامّة لأنّ اليهود في صميم إيمانهم لا يعترفون بأيّ ملك أمميّ بل يستهينون بكلّ الأمم وكلّ ملوكهم ويمتنعون عن دفع الجزية، وبذلك أنشأوا في ذهن الدّولة روح عداوة ونفور لكلّ دين. من هنا تأتي تعاليم بولس الرّسول رائعة حقًّا وجديدة وجديرة بالاحترام لا من المسيحيّين فقط بل من كلّ دولة.

أيضًا هناك إشارات عديدة في رسائل الرّسول الإلهيّ بولس تشير إلى توعية العلاقة بين المسيحيّين والدّولة، منها رسالته الأولى إلى تيموثاوس: "فاطلب أوّلًا قبل كلّ شيء أن تقام طلبات وصلوات وتشكّرات لأجل جميع النّاس لأجل الملوك وجميع الذين في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة صادقة في كلّ شيء لأنّ حسن ومقبول لدى مخلّصنا اللّه الذي يريد أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون" (تيموثاوس 2: 1 ، 4). أيضًا في رسالته إلى تيطس (3 : 1-2): "ذكّرهم أن يخضعوا للرّياسات والسّلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدّين لكلّ عمل صالح ولا يطعنوا في أحد ويكونوا غير مخاصمين حلماء مظهرين كلّ وداعة لجميع النّاس ".أيضًا في رسالته إلى رومية (13: 1-7). أمّا بقيّة ما ورد في الرّسائل الأخرى غير رسائل بولس الإلهيّ فهي منقولة عن الرّسول أو مأخوذة من روح رسائل بولس ولغته (1 بطرس 2 : 13- 17).

إذًا يحصر بولس الرّسول طاعته للسّلطات في مفهوم على أنّها طاعة لتدبير اللّه، سواء كانت المعاملة سيّئة أو حسنة، لأنّ ليس أحد مثل الرّسول بولس الإلهيّ تضايق من السّلطات الرّومانيّة. وبالرّغم من ذلك عندما أرسل إلى تلميذه تيطس رسالة وهو سجين مقيّد بالسّلاسل ينتظر حكم الإعدام كتب له يقول: "ذكّرهم أن يخضعوا للرّياسات والسّلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدّين لكلّ عمل صالح" (تيطس 3-1). ولأنّ الطّاعة للرّؤساء هي أمر من اللّه وتدبير منه وجب أن تمتدّ الطّاعة لهم إلى الصّلاة من أجلهم بشكل مستمرّ وثابت. هذا ما هو حاصل في كلّ خدمة القدّاس الإلهّي (طقس بيزنطيّ)، وذلك بحسب وصيّة الرّسول الإلهيّ بولس (1 تيموثاوس 2: 1-3) .

بهذا تعتبر الكنيسة كمؤسّسة دينيّة في اعتبار الرّسول بولس على أنّها شريكة مع الدّولة في قيامها وثبات الحكم فيها وسلامة المسؤولين، ولكن ليس أنّها شريكة في الحكم. أمّا الأفراد المسيحيّون فلهم الحقّ الوطنيّ "كمواطنين" وليس كمسيحيّين أن يشتركوا في سياسة الحكم وفي مختلف مؤسّسات الحكم وأن يقوموا بالأعمال الصّالحة الخيريّة التي تفرح الحاكم، وتكون بينهم وبين الحاكم المودّة والمديح المتبادل. هكذا فبالصلاح ينبع من أخلاقنا المسيحيّة وطاعتنا ووداعتنا ومحبّتنا للآخرين وبذلنا بلا حساب يجعل المسيحيّ بالنّسبة للدّولة بوضع جيّد ومضمون النّتائج.

أمّا بالنّسبة للمسيحيّ الذي يفعل الشّرّ ضدّ الدّولة كأن يكسر نظامها أو يخونها أو يختلس أموالها أو يتجسّس عليها يقع تحت الغضب، غضب اللّه، فيضطر الحاكم أن ينتقم لقانون الدّولة الذي كسره ذاك الإنسان متعمّدًا، وذلك أنّ كلّ مسيحيّ يعمل شرًّا يسيء إلى الدّولة ويقع أيضًا تحت غضب اللّه وغضب الحاكم، الأوّل هنا والثّاني يوم الدّينونة. هنا يرسي بولس الإلهيّ حجر الأساس في علاقة المسيحيّ بالدّولة على أساس أنّه مواطن منتفع ومسؤول، إلّا أنّ بولس الإلهيّ يطلق على الحكّام أنّهم خدام اللّه (رومية 6: 13)، ولكن خدّام اللّه هنا جاءت بمعنى (ليتورجيّة) حيث ليتورجوس هو خادم عبادة اللّه، خادم تمجيد اللّه، خادم هيكل وكنيسة. إلى هذا الحدّ رفع بولس الإلهيّ من شأن الحكّام أثناء خدمتهم إذ اعتبرها عملًا إلهيًّا يختصّ بخدمة اللّه فسمّاها ليتورجيّة. هذا ليس مغالاة في تمجيد الحكّام بل تمجيد في العمل والخدمة لتحسين وحفظ حياة الشّرّ، فالسّلطة أداة في يد اللّه تقوم بواسطتها بعملها الإلهيّ في حفظ وصون الإنسان والتّرقّي.

إذًا إصرار بولس الإلهيّ على الطّاعة والخضوع للسّلطات لم يكن خوفًا ولا احترامًا أو طاعة للإنسان بحدّ ذاته مهما كان هذا الإنسان رئيسًا أو ملكًا، ولكن هي طاعة اللّه في من يمثّله في السّلطة الزّمنيّة. لكن لا يمكننا أن ننسى قانون الرّسل القائل: "ينبغي أن يطاع اللّه أكثر من النّاس" (أعمال الرّسل 5 : 29). هذا يعني أنّ السّلطات أو الحاكم إذا أمر المسيحيّ أمرًا يخالف أوامر اللّه فلن يطيعه حتّى ولو حسب ثائرًا على السّلطات وحتّى لو هدّد بالموت، فقانون الرّسل هو أمر رسميّ، العصيان الدّينيّ لكلّ أمر أو توصيّة تخالف وصايا اللّه المفروضة على المسيحيّ لاطاعتها، مثلًا في بلد مسيحيّ والشّعب كلّه مسيحيّ والملك نفسه مسيحيّ فاسد هو وسلطته، هذا يحتّم على الشّعب المسيحيّ أن يكون كلّه في حلّ من هذه السّلطة الفاسدة، وأيضًا أن يكون وجبت عليه معارضته وحتميّة إسقاطه أيضًا. أمّا إذا كان المسيحيّون في بلدهم أقلّيّة والسّلطة غير عادلة فواضح أنّ الأمر بالنّسبة لهم ضيقة وتجربة لا بدّ من احتمالها من يد اللّه حيث الطّاعة واجبة إلّا إذا امتدّت يد السّلطة لتجبر المسيحيّ أن ينكر مسيحه، هنا يجب عدم الطّاعة وحلّ الاستشهاد. ويذهب القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في شرحه لكلمات بولس الإلهيّ بالقول: "ماذا تقول هل حاكم معيّن هو من اللّه يجيب: أنا لا أقول ذلك لأنّني الآن لا أتعرّض للحكّام كأفراد بل لمبدأ السّلطة نفسه. إنّ ما أقوله هو أن الحكمة الإلهيّة والتّدبير الإلهيّ وليست الصّدفة هي التي وضعت النّظام بأنّ هناك دولة وأنّ البعض يتولّى السّلطة والآخرون يخضعون لها. هذا فضلًا عن أنّ اللّه قد جعل النّاس اجتماعيّين بطبعهم وحيث أنّه لا يمكن أن يقوم مجتمع ما لم يكن هناك من يوجّه الجميع للسّعي نحو الصّالح العام. لذلك فكلّ جماعة متحضرّة لا بدَّ أن تكون لها سلطة تحكمها وهذه السّلطة مثلها مثل المجتمع نفسه مصدرها النّاموس الطّبيعيّ وبالتّالي فمصدرها اللّه.

إنّ الدّولة في فكر القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم قيادة ورئاسة وفنّ من فنون هذا الدّهر. هذه القيادة إن وجّهت بطريقة خاطئة أدّت إلى تدعيم مملكة الشّيطان على الأرض، ولكن إن وجّهت بشكل سليم فإنّها تعيد ملكوت اللّه إلى هذا العالم، وتعيد الحالة الفردوسيّة التي كانت قبل السّقوط حيث لم يكن هناك أيّ سلطة أو عبوديّة، إلّا أنّنا لا يجب أن نعتبر السّلطة قوّة بدون ضوابط ففي الحقيقة ما دامت هذه السّلطة تتّخذ العقل والمنطق أساسًا لها، فبالتالي لا بدَّ أنّها تستمدّ سلطة الإلزام من النّظام الأخلاقيّ الذي مصدره الأوّل والأخير هو اللّه.

لذا الذّهبيّ الفم يؤكّد على ضرورة السّلطة الزّمنيّة وعلى دورها الإيجابيّ وكونها دواءً مهمًّا للوضع البشريّ ومسمّيًا إيّاها خادمة اللّه، عندها بالذّات يصبح واضحًا أنّ هذا الخادم هو أدنى من السّلطة الكنسيّة.

أمّا الدّولة في نظر أوغسطين فهي جهاز عمل يعمل في إطار طاعة اللّه ومدعوّة من اللّه لتحقيق مقاصد اللّه البشريّة، ورأى أنّ الدّولة بدون عدالة تصبح عصابة لصوص. وأيضًا رأى توما الأكوينيّ أنّ فكرة الدّولة متواجدة في الطّبيعة الإنسانيّة، وأنّ أساس السّياسة المباشر هو تواجد جماعة تعيش معًا في المجتمع، والإنسان كائن سياسيّ لأنّه كائن اجتماعيّ متواجد في المجتمع يخضع للقانون الإلهيّ والعقل والسّلطة السّياسيّة.

يعتقد توما الأكوينيّ أنّ السّلطة هي نظام بين البشر لأجل البشر إلّا أنّه لا يجوز أن يصل سلطان السّلطة على البشر إلى فقدان الذّاتيّة الشّخصيّة لبعض البشر. فالسّلطة هنا هي جزء من الطّبيعة ذاتها فلو وجد حكم فاسد لأنّ الملك فاسد فاللّه أوجده لعقاب البشر. أمّا دور المسيحيّ في مواجهة الفساد بعد كلّ المحاولات فهو الاستشهاد من أجل الحقّ.

الدّولة في فكر المطران جورج خضر

لم تحتلّ الدّولة مكانًا في فكر يسوع النّاصريّ هذا ما يراه المطران جورج خضر إذ يطرح سؤالًا:" هل جاء المسيح حقًّا يشرّع الحكم الدّنيويّ أم أراد أمرًا آخر؟ النّصوص التي بين أيدينا في الأناجيل الإزائيّة (متّى، مرقس، لوقا) لا تدلّ على ذلك، فالسّؤال الذي طرحه الفرّيسيّون على المعلّم كان دافعه أن يصطاده بكلمة محاولة إحراج أتت من خبثهم إذ ذاك قال لهم لمن هذه الصّورة والكتابة؟ قالوا لقيصر فقال لهم: "أعطوا لقيصر ما لقيصر وما للّه للّه". فيتابع المطران خضر فيبدو المعنى هكذا: أنتم مرتبطون بالولاء لقيصر أنا لا أدعوكم إلى المقاومة، ذلك أنّ الملكوت الآتي بي وبإنجيلي هو المجال الذي لا بدّ لكم أن تنتقلوا إليه إذا أردتم الخلاص. المسألة الكبرى ليست هنا أنّها في أن تدخلوا الملكوت أو لا تدخلوه، فإذا ابتغيتم دولة فأنتم لستم لها إلّا بمقدار انسيابها للّه.

لاحظ يسوع تنظيم الدّنيا وما أولاه قيمة، نراه يدفع الضّريبة. جلّ ما في الأمر أنه لم يشأ أن يخالف القانون لأنّه لو فعل يكون قد نسب أهميّة كبرى إلى النّظام المدنيّ. إذًا يسوع لم يعظّم السّلطات كان يحتقرها بعامّة، ولقد أتى ذلك في سياق حديثه عن يوحنّا المعمدان إذ قال في شأنه: "ماذا خرجتم إلى البرّيّة تنظرون؟ قصبة تهزّها الرّيح؟ بل ماذا خرجتم ترون؟ رجل يلبس الثّياب النّاعمة؟ ها إنّ الذين يلبسون الثّياب النّاعمة هم في قصور الملوك" (متّى 11: 7-8). "لذا الدّولة شيء صغير جدّا إذا قيس بالملكوت. الحال بيننا وفينا ليس من قياس ممكن بين الواقعين (الدّولة والملكوت)، لأنّ السّلطة شيء خارجيّ بالنّسبة للإنسان الباطن وحقيقته وأبعاده. ولأنّ الملوك والحكّام يعيشون في التّرف بقدر ما كانوا كذلك يشملهم غضب اللّه. هنا يستتبع أنّ الصّوت النّبويّ يدوّي أمام انحراف النّظام وعدم إنسانيّته، وتاليًا من فوّض إليه تبليغ الرّسالة الإلهيّة مسافة من الحكم ليكون حرًّا منه ويوبّخه عند الاقتضاء. الرّوحانيّون ضمير الدّولة وإذا غدوا تابعيها فلا رسالة لهم يصيرون من باطلها".

من هنا يولي المطران جورج خضر أهميّة كبرى للعمل النّضاليّ في سبيل اللّقمة والحرّيّة معًا لأنّ الدّولة إذا انحرفت تكسر الإنسان الضّعيف وتقيم الكثيرين في اليأس من أمرهم وتاليًا في رفض اللّه. إذًا فعلى الدّولة برأي المطران خضر أن تعمل على تدبير شؤون النّاس كما هم، أيضًا تعمل على اختيار الأولويّات وأولى أولويّاتها للفقراء وما يعانون منه. لا ينتهي عمل الدّولة عند اطعامهم وتطبيبهم وإيوائهم وتدريس أولادهم، بل يشمل أيضًا تثقيف المواطن. الدولة خادمة للنّاس."