أوروبا
28 تشرين الثاني 2017, 06:34

المجمع المقدّس لكنيسة القسطنطنيّة يعلن الشّيخ يعقوب تساليكيس قدّيسًا

أعلن أمس المجمع المقدّس لكنيسة القسطنطنيّة برئاسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس قداسة الأرشمندريت المتوحّد الشّيخ يعقوب تساليكيس "الّذي لَمَع في النّصف الثّاني من القَرن العشرين لا كراهب ناسك وحسب بل أيضًا كَراعٍ وأب روحيّ عميق البصيرة مَرهَف الإلهام، على طيبة وبساطة كالأطفال كما يَشهَد كلّ من جلس إليه أو التقاه"، وفق ما نقلت بطريركيّة الرّوم الأرثوذكس.

 

ويقول معاصروه أنّه كان كالملاك لشدّة شفافيّة حضوره، وسمّاه القدّيس بورفيريوس الرّائيّ "مرآة للفضيلة والصّبر المقدَّس والتّواضع".

هذا وأوردت البطريركيّة عبر صفحتها نبذة عن حياته، فكتبت:

"في الخامس من تشرين الثّاني سنة 1920 وُلد يعقوب لعائلة تقيّة فاضلة من "ماكري" السّاحليّة في آسيا الصّغرى (تركيا الحاليّة). والده كان معماريًّا ذائع الصّيت لحرفيّته وأمانته، الشّيء الّذي أمَّن للأسرة بحبوحة لا بأس بها. لكن الثّروة الأهمّ للوالدين كانت تُقاهُما أمام الله وتمسّكهما بعَيش الفضيلة، فكانت المحبّة المُقَدَّسة الرّابط المتين بين أفراد الأسرة، ومنهم إلى كلّ من كان حَولَهم. في أوائل سنة 1922، حصلت كارثة تهجير المسيحيّين من آسيا الصُّغرى، اعتَقَل الأتراك الوالد وهُجِّرَت العائلة إلى اليونان، ويعقوب الصّغير ما أتمَّ السّنتين من عمره بعد. تنقَّلت العائلة، كسائر من هُجِّروا من آسيا الصّغرى، من مكان إلى آخر بين مواضع تجمُّع المُهَجَّرين، لثلاث سنوات وهم لا يعرفون عن الوالد شيئًا، بل وفي ظنّهم أنه قضى في الاعتقال كالكثيرين من الرّجال الّذين اعتقلهم الأتراك. خريف العام 1925، وبينما كانت جدة يعقوب لأبيه مارة أمام ورشة بناء، سمعت صوتاً مألوفاً فدخلت بين العمّال وإذ هي أمام ابنها، والد يعقوب. كان الأتراك قد أطلقوا سراحه منذ حوالي سنة ونفَوه إلى اليونان، وهو كان مذّاك يبحث عن عائلته، وقد بدأ ييأس.

إلتمّ إذًا شمل العائلة من جديد وانتقل الجميع إلى قرية من شمال جزيرة إيفيا. هناك مُنِحوا حصّة مُلكيَّة فبنى الوالد منزلاً صار البيت العائليّ، وفيه عاش يعقوب حتّى انتقاله إلى الدّير. لا شكّ أن جَوَّ التُّقى العائليّ أثّر في يعقوب الصّغير كثيرًا. الصّلوات والتّراتيل وقصص القدّيسين ظَهَرَت تستهويه منذ الخامسة من عمره، وفي السّابعة- ولم يكن يذهب إلى المدرسة بعد- حَفظ معظم القدّاس الإلهيّ عن ظهر قلب. أمران كانا الأحبّ إلى قلبه: خدمة الكاهن في الصّلوات الكَنَسيّة، والذّهاب إلى المزارات والكنائس الصّغيرة الّتي كانت مزروعة هنا وهناك في البرّيّة، للصّلاة ساعات طوال مُقَلّدًا، ببراءة الأطفال، الآباء النُسّاك. أمضى صِغَرَه وشبابه هكذا، عَشير القدّيسين حتّى بات أليفَ حضورِهم وعجائبهم. إلفته هذه مع القدّيسين، ونَمَط عَيشِه الّذي لا يشبه عَيش الأولاد أترابه، جَعلا أهل القرية يسمّونه "القدّيس الصّغير" و"ولد الله". وإذ لم يكُن في القَرية كاهن مُقيم، كان أهل القرية يلجأون إلى "القدّيس الصّغير" ليصلّي من أجلهم في الأمراض والضّيقات. كان يعقوب الصّغير إذّاك يتلو من أجلهم الـ"أبانا"، وغيرها من الصّلوات الّتي كان يحفظها، بعفويّة وبساطة واتّضاع، وكانت صلواته تُستَجاب فورًا.

عند إنهائه مرحلة التّعليم الابتدائيّ، وإذ لم تكن العائلة تملك مالاً لإرساله إلى المُدُن لإكمال تعليمه، صار الفتى يعقوب يرافق والده إلى وِرَش البناء، في القرية وخارجها، حتّى أتقن مهنة البناء ولم تكن أتعاب المهنة تثنيه بالرغم من هزالة بنيته الجسديّة. في مَطلع العشرين من عمره، سمعه متروبوليت النّاحية مرّة في الكنيسة يرتّل، أُعجب كثيرًا بصفاء صوته وعذوبة ترتيله فسامَه قارئًا. منذ ذلك الحين زاد الشّاب يعقوب بعض التّشدُّد في أصوامه وصلواته، إذ لم يعتبر نفسه البتّة أهلاً لهذه الكرامة. نشير هنا إلى أنّ شهادات كثيرة عن أيّام شبابه تتحدّث عن كم كان مُلفتاً تشدّد هذا الشّاب في الأصوام والسّهر في الصّلاة وسائر المُمارسات ذات الطّابع النُّسكي، سيّما وأنها كانت بملء إرادته وحسب إذ لم يكن راهباً. بَقي إذاً على هذه الحال حتّى ذهابه إلى إتمام خدمته العسكريّة سنة 1947. رفقاؤه هناك كانوا يسمّونه تهكُّمًا "أبونا يعقوب"، أمّا رئيسه وبعض الآخرين كانوا يعاملونه بتقدير واحترام، ولعلّهم تحسّسوا فيه كِبَر قامته الرّوحيّة. سنة 1949 أنهى خدمته العسكريّة وفي السّنة نفسها رقد والده. ركّز اهتمامه على شقيقته، عملاً بوصيّة والدته القدّيسة قُبيل رقادها سنة 1942، حتّى تزوّجت الشّقيقة فصار حُرًّا لينطلق إلى الرّهبنة، غاية مُناه منذ الصِّغَر.

سنة 1952 قُبِلَ الشّاب يعقوب راهبًا في دير البار داود (عيده في1 تشرين الثّاني) في إيفيا، أبقيَ له اسم يعقوب، وفي 19 كانون الثّاني من السّنة نفسها سيم كاهنًا في خالكيذا بيد المثلّث الرّحمات المتروبوليت غريغوريوس. جهاد الرّاهب المُتَقَدِّس صار في الدّير مُضاعفًا، وغالبًا ما كان يصعد إلى المغارة الّتي نسك فيها البارّ داود ليصلّي هناك ساعات طوال. وكما كانت جهاداته وصلواته تزداد كانت تزداد أيضًا نِعَم الله عليه، بما فيها الرؤى الإلهية وظهورات القديسين والعجائب. بالطبع ازدادت عليه أيضاً هَجمات الشيطان، بِحِيَل وأشكال متنوّعة لا مجال لتعدادها هنا. غالبًا ما كان الشّيخ يعقوب يرى ويُحادث البارّ يعقوب مؤسّس ديره، والبارّ يوحنّا الرّوسيّ الّذي كان يكنّ له الشّيخ يعقوب إكرامًا خاصًّا. أمّا في خدمته القُدّاس الإلهيّ، فمعاينة الملائكة يمَجّدون الحمل الذّبيح كانت شبه دائمة عنده، وقد شهد كثيرون كيف كان يتألّق بالنّور وهو يخدم الأسرار الإلهيّة. في الخامس والعشرين من حَزيران سنة 1975 اختاره آباء الدّير رئيسًا عليهم، وبقي حاملاً هذا الصّليب بِبَذلٍ واتّضاع كُلّييَن حتّى رقاده المُوَقَّر في الواحد والعشرين من تشرين الثّاني سنة 1991.

“كيف يمكننا أن نحبّ الله، إن لم نحبّ حتّى الموت هؤلاء الّذين أحبَّهم الله حتّى الموت؟”، كان الشّيخ يعقوب يردّد دائمًا. لا بالكلام وحسب بل بالفعل كلّيًّا، إذ كان يرى كلّ قاصديه، بأعيُنهم وبقلوبهم، كيف كان يعتنق آلامهم وأحزانهم وكأنّها في جسده وروحه. هكذا كان يستمع إليهم ويُعَرِّفهم ويرشدهم ويصلّي من أجلهم، وبهذه القوّة كان يشفي أمراض النّفوس والأجساد ويَرُدّ الضّالّين ويُحرّر الممسوسين من الشّيطان. عجائبه، في حياته وبعد رقاده، في هذه المجالات وغَيرها كثيرة جدًّا. الملتجؤون إليه كانوا يشتَمّون فيه "رائحة المسيح الذّكيّة لله" (2 كورنثوس 2: 15)، أمّا هو فلم يَكُن ينسب لنفسه من هذه كلّها شيئًا مُعتَرِفًا، ببساطة وعفويّة الأطفال، بكلّ الفضل لله ولقدّيسيه. وكلّما ازدادت نِعَم الله عليه ازداد هو تشدّدًا في الحفاظ عليها وتثميرها، أيضًا من أجل هؤلاء الّذين أحبَّهم الله حتّى الموت. واضعًا نُصبَ عينيه قَولَ السّيّد المُبارَك "لأجلهم أُقَدِّس أنا ذاتي" (يوحنّا 17: 19).

لم يَكُن أبونا البارّ يعقوب مُتعلّمًا أو لاهوتيًّا أديبًّا إذ لم يتجاوز التّعليم الابتدائيّ. ولكنّه كان مُظَلّلاً بنعمة الرّوح القدس، النّعمة الّتي جعلت صيّادي الجليل البُسطاء رُسُلاً ألهبوا الأرض ببشارة الخلاص. وبهذه النّعمة نفسها حمل أبونا البارّ يعقوب، إلى الملتجئين إليه وإلى الّذين كان يخرج لرعايتهم في القرى المُجاورة والنّواحي المُحيطة، السّلام والفَرَح والتّعزيات وغيرها من ثمار الرّوح القُدُس. في جَلَسات الإرشاد وفي سماعه الاعترافات وفي عظاته، كانت كلمات أبينا البارّ يعقوب دائمًا بسيطة، عَذبة ومجبولة بالمحبّة حتّى عندما كان يُضطرُّ إلى شيء من الصّرامة والتّأنيب. من فَيض قلبه المُحبّ تكلَّم لسانه (متّى 12: 35)، فأتت كلماته شافية للأمراض قاهرة للشّياطين، وأتت صلاته أمام العرش الإلهيّ بخورًا عذبًا مقبولاً على الدّوام".