لبنان
26 تشرين الأول 2020, 07:30

المتروبوليت عوده: وباء الجهل أخطر من وباء كورونا والخطران على الباب!

تيلي لوميار/ نورسات
متأمّلاً بنصّ صغير كُتب على باب إحدى الجامعات في جنوب أفريقيا "لا يحتاج تدمير بلد إلى صواريخ بعيدة المدى أو أسلحة دمار شامل. يكفي أن تخفّض نوعيّة التّعليم ويسمح بالغشّ في الامتحانات ليحصل التّالي: يموت المرضى على أيدي أطبّائهم، تنهار الأبنية على أيدي مهندسيها، تضيع الأموال على أيدي رجال الاقتصاد والمال، تموت الإنسانيّة على أيدي علمائها، تضيع العدالة على أيدي القضاة. إنّ انهيار الثّقافة هو انهيار للأمّة"، انطلق متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس في عظة قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت، وقال:

"هذا القول جدير بالتّأمل، فيما نحن على أبواب تأليف حكومة جديدة، نسأل الله أن يلهم المسؤولين من أجل العمل على ولادتها بأسرع وقت ممكن، لتتسلّم زمام الأمور وتوقف انهيار البلد بكلّ ما فيه. كما نتمنّى أن يكون أعضاؤها من ذوي الكفاءة والنّزاهة والاختصاص، ممّن انتماؤهم للبنان الوطن، وولاؤهم له وحده، لا لحزب أو زعيم أو طائفة أو مرجع داخليّ أو خارجيّ.

إنّ الدّول تبنى بالأخلاق، بالثّقافة، بالتّربية الصّالحة والتّعليم الجادّ، وإلّا حصل ما ذكرناه في القول المعلّق على باب الجامعة.

الجميع يعرف أنّ للتّربية دورًا مهمًّا في حياة الشّعوب والمجتمعات لأنّها عماد البنيان والتّطوّر، وهي وسيلة أساسيّة من وسائل البقاء والاستمرار، تكوّن شخصيّة الإنسان وتصقل قدراته وتعمّق ثقافته ليتفاعل مع محيطه ويسهم في نموّه بفعاليّة. إنّها مجال التّقدّم والرّقيّ والنّموّ والكمال والتّطوّر الدّائم.

التّربية تبني خلق المتعلّم وتنمّي فيه الفضائل الّتي تصونه، والمواهب الّتي منحه إيّاها الله، ليصبح عضوًا فاعلاً في مجتمعه ومواطنًا صالحًا صحيح التّفكير، يعي مسؤوليّاته، ويدرك واجباته، ويحبّ وطنه ويخدمه بأمانة وإخلاص.

التّربية هي العمل المنسّق الهادف إلى نقل المعرفة الّتي تكوّن الإنسان وتؤهّله للحياة.

إنّها مسؤوليّة كبيرة، بل رسالة لمن يعرف أهمّيّتها، وعامل مهمّ في بناء الدّولة العصريّة الحديثة الّتي تتماشى مع الحضارة وتواكب التّقدّم.

لكنّ المؤسف في لبنان أنّ التّربية ليست في سلّم أولويّات الحكّام، ووزارة التّربية من الوزارات الثّانوية الّتي لا يتسابقون من أجل الحصول عليها وإدارتها بأفضل الطّرق كونها العمود الفقريّ للدّولة وصانعة الأجيال.

إنّ قطاع التّربية يتراجع سنةً فسنة، والأسباب عديدة، لكنّ أهمّها إهمال الدّولة المزمن للقطاع التّربويّ، والتّخبّط في القرار، والخطط الارتجاليّة أو غير القابلة للتّنفيذ، وضرورة التّعليم عن بعد، وتعطيل دور المركز التّربويّ، بالإضافة إلى الانهيار الاقتصاديّ والتّفلّت الأخلاقيّ وعدم التّنسيق بين الوزارات (التّربية والصّحّة). وقد زادت الأزمة الصّحّيّة الأمور تعقيدًا، بالإضافة إلى انفجار المرفأ، ما سبّب غموضًا في مصير العام الدّراسيّ.

إنّ الاستثمار في التّربية استثمار في الإنسان وتنمية للموارد البشريّة الّتي تؤدّي إلى نموّ الاقتصاد وازدهار البلد. لكنّ التّحدّيات الّتي تواجه الأسرة التّربويّة من مؤسّسات تعليميّة ومعلّمين وذوي طلّاب تهدّد مصير التّعليم في لبنان. إنّ ازدياد الأعباء على المدارس الخاصّة بشكل هائل، وتراجع أحوال ذوي الطّلّاب، وعدم قدرة المدارس الرّسميّة على الاستيعاب، أمور تجعلنا في مأزق كبير.

إنّ التّعليم الإلزاميّ ضروريّ وهو حقّ لكلّ طفل، ومن واجب الدّولة تأمين هذا الحقّ في مدارسها الرّسميّة الّتي يجب أن تكون مفخرةً لها ومقصدًا لجميع أبنائها. أمّا من شاء أن يتلقّى أولاده العلم في المدرسة الخاصّة فعليه أن يتحمّل مسؤوليّة قراره ويقوم بواجبه تجاه المدرسة الّتي اختارها، لتتمكّن من الاستمرار في رسالتها. (المفارقة في لبنان أنّ الدّولة تعطي أساتذة التّعليم الرّسميّ منحًا لتعليم أولادهم في المدارس الخاصّة).

إنّ التّعليم ليس سلعةً بل رسالة ومسؤوليّة. وتخلّي الدّولة عن واجباتها بالإضافة إلى تجنّي لجان الأهل على المدرسة الخاصّة وحملات التّضليل الّتي تقودها ضدّها سوف تؤدّي إلى انهيار المؤسّسات التّربويّة الخاصّة، مع ما يستتبعه ذلك من نتائج كارثيّة على الصّعد التّربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، سوف تنعكس على المتعلّمين وأفراد الهيئة التّعليميّة وجميع العاملين في هذه المؤسّسات.

وباء الجهل أخطر من وباء كورونا، والخطران على الباب، وعلى الدّولة تحمّل مسؤوليّتها قبل فوات الأوان. نحن بحاجة إلى قيادة تربويّة مسؤولة تعي أنّ التّكامل بين التّعليم الرّسميّ والخاصّ ضروريّ من أجل القيام بالرّسالة التّعليميّة والتّربويّة، وأنّ عليها حماية التّعليم من أجل حماية الوطن وإنقاذ أجياله الطّالعة. عسى أن يتمّ اختيار وزير للتّربية من ذوي الاختصاص والخبرة، يعي المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عاتقه ويتصرّف بحكمة ودراية، دون كيديّة أو انحياز.

أحبّائي، يحدّثنا إنجيل اليوم عن رجل به شياطين، ويظهر لنا رحمة الرّبّ الواسعة، مقابل خطر التّعامل مع الشّيطان، هذا الكائن السّاقط من المجد الأزليّ بسبب عصيان الله والابتعاد عنه، فأصبح مصدر كلّ شرّ، والتّابعون له هم أشرار. لا تنقادوا له بل توجّهوا نحو المسيح وأسرعوا إليه بمحبّتكم له. عندما نبتعد عن الله نتعرّض لخطر الوقوع في براثن الشّيطان.

الشّيطان يعرّي الإنسان ويفضحه أمام الآخرين، ويجعله مخيفًا بالنّسبة إليهم، ويكبّله بسلاسل ثقيلة لا يستطيع النّجاة منها. العواصف الطّبيعيّة يمكنها أن تهدّد الجسد، أمّا الشّيطان فيهدّد النّفس والجسد، ويعمل جاهدًا من أجل إبعاد الإنسان عن الله. الشّيطان مميت، لذلك دفع بالرّجل إلى العيش بين القبور، حيث النّتانة والظّلمة والموت. لم يكن الرّجل "يأوي إلى بيت بل إلى القبور"، لقد أبعده الشّيطان عن البيت الأبويّ، عن الهيكل الّذي ندعوه "بيت الرّبّ"، أبعده عن النّور، وأسكنه في الظّلمة والحزن اللّذين سبّبا له الجنون، لأنّ الابتعاد عن الرّبّ يؤدّي إلى اليأس، الّذي يؤدّي بدوره إلى فقدان الصّحّة العقليّة، ويؤدي إلى موت محتّم. ربّنا، طبيب النّفوس والأجساد، لا يسرّ بهلاك البشر. يقول: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28)، بينما الشّيطان يثقلنا بالهموم وسلاسل الخطايا الثّقيلة الّتي تؤدّي إلى الهلاك.

الشّيطان ضعيف جدًّا، رغم أنّ من يتبعه يظنّ أنّه يمتلك قوّةً وسلطةً على الآخرين. ما إن رأى الشّيطان الرّبّ يسوع "خرّ له وقال بصوت عظيم: ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ؟ أطلب إليك ألّا تعذّبني". لقد فضح المسيح ضعف من فضح خليقة الله، عرّى المسيح من عرّى الإنسان، كبّل المسيح من ربط الإنسان بالسّلاسل. عرفت الشّياطين السّاكنة في الرّجل حجمها أمام الرّبّ، فخرّت ساجدةً وطلبت أن لا يأمرها بالذّهاب إلى الهاوية.

الشّيطان عرف أنّه سيدان، لكنّه لم يسع إلى التّوبة (أيّ إلى الرّجوع إلى الله)، واستمرّ في غيّه وشروره، فكان حضور المسيح المفاجئ مرعبًا له. التّوبة تدخل الإنسان في سلام لا ينتزع منه، تدخله في مصالحة مع الله. عرف الشّيطان أنّ عاقبة أفعاله عذاب أبديّ، مع ذلك لم يبد أيّ استعداد للعودة، وهو يدفع الإنسان أن يفعل مثله، إذ يغرقه في الخطايا ويبعده عن طريق التّوبة، لذلك عندما سأل الرّبّ الشّيطان عن اسمه أجابه: "لجيون"، أيّ "مجموعة" أو "كتيبة"، لأنّ الرّجل كان قد أسلم نفسه لتتخبّط في بحر من الخطايا، فتسيّدت الشّياطين الكثيرة على حياته.

طلبت الشّياطين الدّخول في قطيع الخنازير، ليس لأنّها قذرة فقط، بل لرمي الفتنة بين شعب تلك المنطقة وبين الرّبّ يسوع. الشّيطان، عدوّ الإنسان، لم يعجبه حضور المسيح في منطقة وثنيّة، وخاف من أن ينتشلها الرّبّ من الظّلمة إلى النّور. لقد نشر الشّيطان الذّعر بين السّكّان بسبب ما قام به، وحوّل هذا الخوف ضدّ المسيح، تمامًا مثلما يحدث مع كلّ إنسان يواجهه الشّرّ وبدل التّشّبّث بالرّبّ، يتزعزع إيمانه ويطرد الرّبّ من حياته كما فعل أصحاب الخنازير ومواطنوهم بطردهم الرّبّ بسبب الخسارة المادّيّة.

ظنّ النّاس أنّهم تخلّصوا من الرّبّ، لكنّه ترك بينهم إنسانًا كان عريانًا ومخيفًا وأصبح لابسًا صحيحًا. لم يقبل الرّبّ يسوع أن يتبعه الرّجل، بل قال له: "ارجع إلى بيتك وحدّث بما صنع الله إليك". أرسله مبشّرًا بكلمة الله بين أناس وثنيّين "فذهب وهو ينادي في المدينة كلّها بما صنع إليه يسوع". هذا واجب كلّ واحد منّا، أن نحدّث بعظائم الله في حياتنا، أن نشهد للحقّ، في عالم أصبح غريقًا في الظّلمة.

هذا ما فعله القدّيس العظيم في الشّهداء ديمتريوس، الّذي نعيّد له غدًا. لقد ثبت القدّيس ديمتريوس في إيمانه بالمسيح وسط عالم وثنيّ، فعرّف الوثنيّين على الإله الحقيقيّ. الشّيطان حاول أن ينال من المسيحيّين في مدينة تسالونيكي اليونانيّة، عن طريق أناس وشوا إلى الإمبراطور الوثنيّ بأمر ديمتريوس الّذي جاهر بمسيحيّته ولم يهب سخط الحاكم. رمي ديمتريوس في سجن نتن تحت الأرض، لكنّه بقي ثابتًا، لا بل شدّد صديقه نسطر في معركته ضدّ لهاوش في حلبة المصارعة. هكذا، من يبقى ثابتًا في إيمانه، رغم كلّ ما يحصل معه أو حوله، لا يثبت وحده، بل يثبّت معه الكثيرين. القدّيس ديمتريوس، كافأه الرّبّ بأن أصبح جسده مفيضًا للطّيب بعدما عانى السّجن في مكان قذر.

كلّ إنسان يحيا مع الله، ويثبت في إيمانه به، يفيض منه طيب، ليس بالضّرورة عطرًا يشمّه النّاس، بل قد يكون طيب أفعال مليئة بالمحبّة، أو طيب كلام شاف من اليأس والحزن. هذه دعوتنا، يا أحبّة، أن نكون بلسمًا لجراح إخوتنا، لا أن نزيد ألمًا على آلامهم.

بارككم الله، وجعلكم قدّيسين، تفيضون طيوبًا متنوّعة في عالم يسوده الشّرّ الّذي تفوح منه رائحة نتنة. لا تخجلوا من التّبشير بكلمة الرّبّ، حتّى لو رذلكم بعض النّاس. أثبتوا، تشجّعوا، كونوا نورًا في ظلمة هذا الدّهر، آمين."