لبنان
06 حزيران 2022, 06:30

المتروبوليت عوده: دعوتنا اليوم هي أن نحبّ وطننا وندافع عنه ونساهم في بناء الإنسان فيه

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، حيث ألقى عظة بعد قراءة الإنجيل المقدّس، جاء فيها:

"أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم لآباء المجمع المسكونيّ الأوّل الـ318 الّذين اجتمعوا في مدينة نيقيا عام 325.

في ذلك الحين، ظهر آريوس، كاهنٌ ليبيٌّ هرطوقيّ، منتفخٌ من معرفته ومن تحاليله الخالية من نعمة الرّوح القدس، وعلّم بأنّ الرّبّ يسوع ليس ابن الله، إنّما هو مخلوقٌ كسائر المخلوقات، منكرًا ألوهة المسيح الإبن. كما علّم أنّ الرّوح القدس مخلوقٌ، وبهذا يكون قد نسف جوهر الثّالوث القدّوس، ملغيًا كلّ اتّحاد بين الله والبشر، إذ أنكر تجسّد الكلمة، ابن الله المخلّص.

دحض هذا المجمع المقدّس ضلالة آريوس، وأعلن الإيمان القويم، المبنيّ على أنّ المسيح هو إلهٌ حقٌّ من إله حقّ، مولودٌ من الآب قبل كلّ الدّهور، غير مخلوق، على ما نقول في دستور الإيمان الّذي وضع المجمع المسكونيّ الأوّل قسمًا منه. أعلن آباء المجمع القدّيسون مساواة الإبن للآب في الجوهر، ردًّا على ما قاله آريوس الضّالّ عن مخلوقيّة الإبن.

لقد عيّدنا يوم الخميس الفائت لصعود ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وجلوسه عن يمين الآب. في هذا العيد، تعترف الكنيسة المقدّسة بأنّ ابن الله المتّحد بالجسد البشريّ، بعد أن أتمّ كلّ تدبير بشكل لا يوصف، عاد إلى العرش الأبويّ. فهو المساوي للآب في الكرامة، إبن الله الصّائر إنسانًا من أجل خلاصنا، وقد أصعد طبيعتنا البشريّة معه إلى السّماء وأجلسها عن يمين الآب.  

لقد حدّد الآباء القدّيسون المجتمعون في نيقيا، الإيمان الّذي أعلنه عيد الصّعود، كعقيدة في الكنيسة. فالأعياد الكنسيّة، لاسيّما السّيّديّة منها، ليست مجرّد تذكّر بسيط لحدث معيّن، بل هي تحوي مضمونًا لاهوتيًّا عميقًا، لذلك يعتبر تكريسها والاحتفال بها عن وعي، اعترافًا إيمانيًّا.

أقرّ المجمع المسكونيّ الأوّل بإيمان الكنيسة، الّذي هو أساس حياتها، والقائل إنّ ابن الله مساو للآب في الجوهر. فلو لم يكن إلهًا حقيقيًّا، لتعذّر القول بأنّ الإنسان على صورة الله، لأنّ هذا الكلام مرادفٌ لتألّه الإنسان، كما قال القدّيس أثناسيوس الكبير: "صار المسيح إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا".

يا أحبّة، كيف نتألّه ونحن لا نعرف أن نكون واحدًا كما أوصانا الرّبّ يسوع عندما قال: "ليكون الجميع واحدًا كما أنّك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك" (يو 17: 21)؟ هذا ما يحدث في بلدنا الحبيب، الّذي لم يعرف أيّ نوع من الخلاص منذ سنوات طوال، بسبب تناحر مسؤوليه. كلٌّ يعمل من أجل مصالحه، كما أنّ الشّعب ليس واحدًا، بل هو مشرذمٌ ضمن أحزاب وحركات وجماعات. إن اتّحد الجميع ألا يصبحون سدًّا منيعًا في وجه أيّ مشكلة داخليّة أو تدخّل خارجيّ يهزّ استقرارنا وأمننا؟ ألا يكونون حائط دعم صلبًا، لا تصدّع فيه، قائمًا في وجه أيّ عائق أو عدوّ متربّص بنا؟ فكما أنّ وحدة الكنيسة قائمةٌ على وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله (أف 4: 13)، كذلك وحدة هذا البلد تستند على الاعتراف به وطنًا لجميع أبنائه، من دون أن يلغي أحدهم الآخر، أو يستقوي واحدهم على الآخر مهدّدًا بالإطاحة به ساعة يشاء. لقد أصبح لبنان مثالًا للفساد والتّفتّت بسبب أطماع الكثيرين الّتي لا تشبع، وبسبب نقص المحبّة، والاستقواء والكبرياء وعدم الشّعور مع الآخر، على مثال ما عاينّاه مطلع الأسبوع الفائت من تعليق لافتات، في وسط الأشرفيّة، تدعو إلى براءة مطلوبين وموقوفين في جريمة تفجير مرفأ بيروت، عوض المطالبة بالمضيّ في التّحقيق حتّى الوصول إلى العدالة للجميع، أو ما شاهدناه مباشرةً على الهواء خلال الجلسة الأولى للمجلس النّيابيّ الجديد، وعلى مرأى الدّبلوماسيّين وكلّ الحاضرين والمشاهدين. الشّقاقات كانت واضحةً، والخلافات كبيرةً بسبب سوء تفسير أو فهم الدّستور اللّبنانيّ، أو تطويع القوانين بحسب ما تقتضيه مصلحة جماعة أو فئة. أملنا أن يكون عمل هذا المجلس الجديد على قدر طموحات اللّبنانيّين، وأن يحوّل أعضاؤه وعودهم الانتخابيّة إلى قرارات إصلاحيّة وقوانين تحفظ حقّ المواطنين وتضع البلاد على طريق الإنقاذ.

في إنجيل اليوم، يصلّي الرّبّ يسوع أن يكون أبناء الله المخلوقون على صورته واحدًا، كما أنّه والآب واحد. ونحن نصلّي من أجل أن يجتمع ممثّلو الشّعب والمسؤولون على برنامج واحد، إنقاذيّ، متخطّين المصالح والخلافات والمهاترات والمناكفات والتّحدّيات والتّعطيل.  

الآباء الّذين اجتمعوا في نيقيا، في المجمع المسكونيّ الأوّل، جاء كلٌّ منهم من بقعة بعيدة، فاحتملوا عناء السّفر، ومنهم من تأذّى أو حتّى مات، كلّ ذلك بسبب قضيّة محقّة، هي وحدة الكنيسة وحمايتها من الذّئاب الخاطفة. ألا يستحقّ بلدنا، المذكور في الكتاب المقدّس بعهديه، ما يزيد على السّبعين مرّةً، اجتماع كلّ القوى الوطنيّة الّتي على أرضه، من أجل قضيّة محقّة هي انتشاله من الهوّة الجحيميّة الّتي أوصل إليها؟ حتّى متى يحتمل اللّبنانيّ هذا الشّقاق السّياسيّ الّذي لا يجلب للمواطن سوى الذّلّ والجوع والظّلمة والمرض والموت؟

أمام المجلس النّيابيّ الجديد إستحقاقاتٌ مصيريّة، ليس أوّلها تشكيل حكومة، ولا آخرها انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة. فبين هذين الاستحقاقين، اللّذين نصلّي كي يتمّا في الوقت المحدّد، ثمّة استحقاقاتٌ تمسّ حياة المواطنين وصحّتهم وكرامتهم وعرق جبينهم، هم مدعوّون إلى الإنكباب على معالجتها.  

لقد أعطى المسيح الكنيسة رسلًا وأنبياء، ومبشّرين ورعاة، ومعلّمين "لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح" (أف 4: 12)، أيّ للعمل على تماسك الجسد ووحدته. يعبّر عن هذا الشّوق إلى الوحدة مرارًا في القدّاس الإلهيّ حيث نصلّي من أجل اتّحاد الجميع، أو لكي يعطينا الله أن نمجّد ونسبّح اسمه بقلب واحد وفم واحد، لأنّ القلب هو العضو الّذي به نعرف الله: "وأعطيهم قلبًا ليعرفوني أنّي أنا الرّبّ" (أرميا 24: 7)، وبالفم ننطق بإيماننا معترفين بأنّ الرّبّ يسوع المسيح هو ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كلّ الدّهور. الوحدة تقتضي عطاءً كاملًا لأنفسنا إلى الله. كذلك وحدة الوطن، تحتاج بذلًا كاملًا ووفاءً كاملًا للدّاخل، وتصويبًا على الخارج إذا كان عدوًّا متربّصًا، لا العكس.

دعوتنا اليوم هي أن نحبّ وطننا وندافع عنه ونساهم في بناء الإنسان فيه من أجل بناء دولة أعمدتها أناسٌ يؤمنون بربّهم، يحبّون إخوتهم، يعملون من أجل المصلحة العامّة لا المصالح الضّيّقة، ومن أجل إرساء المحبّة والعدالة والسّلام، يتخطّون الطّائفيّة والمحسوبيّة والانقياد الأعمى لزعماء يشوّهون الحياة الوطنيّة ولا يعيرون هموم المواطنين اهتمامًا. نحن بحاجة إلى نضوج سياسيّ يقود إلى إصلاح حقيقيّ يرسي دعائم دولة ينعم مواطنوها بحقوقهم بعدل ومساواة، مهما كان دينهم أو طائفتهم أو انتماؤهم.

كذلك نحن مدعوّون إلى الالتصاق بالمسيح الإله الإنسان، الّذي تجسّد من أجل خلاصنا، وإلى فهم تحديدات الإيمان الّتي وضعها الآباء القدّيسون المجتمعون في المجامع المسكونيّة السّبعة، وأن ندافع عن إيماننا، من خلال عيشه أوّلًا، قبل تعليمه، لنكون "قدوةً في الكلام، في التّصرّف، في المحبّة، في الإيمان، في الطّهارة" كما أوصى بولس الرّسول تلميذه تيموثاوس (1 تيمو 4: 12). آمين."