أميركا
16 أيار 2023, 08:45

المتروبوليت إسبر في تنصيبه: لنتعاون سويًا كي نصرف وقتنا وطاقاتنا في البناء والنّموّ والتّطوير

تيلي لوميار/ نورسات
بعد تسلّمه عصا رعاية أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشّماليّة في رتبة تنصيب أقيمت في كاتدرائيّة القدّيس نيقولاوس في بروكلين- نيويورك، ألقى الميتروبوليت سابا إسبر كلمة قال فيها:

"عندما خاطبني الميتروبوليت جورج خضر عشيّة رسامتي أسقفًا في العام 1998 قائلاً: "أنت ونفر من أصحابك ستمدّون المسيح من بعدنا، في هذا المشرق، وربّما إلى أقاصي الأرض"، لم يخطر ببالي ولا ببال أحد آنذاك أنّه يقصد بكلمته أنه يلّمح بأن يكون لنا دور خارج المشرق الّذي ولدنا فيه.  

لكن كلمته، إن لم نقل نبوته، تحقّقت بعد خمس وعشرين سنة، وها أنذا بينكم في هذه الأبرشيّة المُباركة وفي قلب المجتمع الأميركيّ المدموغة ثقافته تقليديًّا بالمسيح، والمتعطّش أبدًا إلى الارتواء من ينابيع روحه القدّوس.  

لأحمل وإيّاكم مسؤوليّة عُظمى تتلخّص في تجذير كنيسة المسيح في قلب المجتمع في أميركا الشّماليّة والشّهادة لجمال المسيح في عالمنا اليوم الّذي يفتّش عن كلمة حياة.  

وشهادة للمسيح وخدمته.

أعترف لكم أنّني قرأت، في يفاعتي، تأمّلًا ترك فيّ أثرًا لا يُمحى. يدور هذا التّأمّل حول حوار بين كاهن مُتعَب والمسيح.  

يقول المسيح للكاهن في نهاية التّأمّل:

أنا بحاجة إلى لسانك حتّى ينقل كلامي إلى البشر،

وإلى قلبك حتّى يغمرهم بحبّي

وإلى يديك حتّى توصلن عطاياي إليهم

وإلى رجليك حتّى تقودانهم إلى طريقي.

وعاهدته مذّاك أن أكون هذا الكاهن الّذي يريده، وما زلت أسعى أن أكون وفيًّا لهذا العهد.

اليوم، بعد سنين كثيرة في خدمة المسيح وكنيسته، أعترف بأنّني لم أبلغ إلى مستوى هذا الكاهن المنشود، ولكنّني وعلى الرّغم من ضعفاتي وخطاياي، لا زلت أسعى وأشتهي أن أكونه من كلّ جوارحي، وأعلم أنّ ربّي يريد لسعيي هذا ألّا يتوقّف.

وما يشدّدني في هذا المسعى، هو قبوله لتعهّدي وغمره إيّاي برعاية شخصيّة وحنان لا يوصفان حتّى في أشدّ أوقات خدمتي صعوبة وعناء.

لقد كان إلى جانبي دومًا يقوّيني عندما أتعب،

ويشحنني بالرّجاء عندما أقارب اليأس،

ويسندني عندما تهزّ داخلي قضايا رعاية شعبه ودقّة مسؤوليّتها.

لقد علّمني، ولا يزال، برعايته هذه أمرًا في غاية الأهمّيّة، ألا وهو أنّني يجب أن أخدم كنيسته هو، وعليّ تاليًا أن أكون أداته هو ليجعل كنيسته بحسب ما يريدها هو.  

وهكذا جعلني يقظًا دومًا إلى اتّباع مشيئته واستشارته وطلب بركته قبل الشّروع في أيّ مشروع أو قرار أو خطوة.  

واليوم وقد استدعاني عبركم وعبر غبطة أبينا البطريرك والإخوة آباء المجمع الأنطاكيّ المقدّس لأخدم هذه الأبرشيّة المباركة الّتي حمل شعبها ولا يزال مسؤوليّة كهنوته الملوكيّ،

لا يسعني إلّا أن أعده بأن أبقى أمينًا على الخدمة وما تعلّمته من معاشرة السّيّد في سنوات خدمتي الماضية  

سأستلهم وإيّاكم مشيئته وبركته في كلّ خطوة نخطوها معًا، وأتطلّع وإيّاكم إلى رؤية مستقبليّة واسعة الآفاق عميقة الجذور الرّوحيّة متفهّمة للتّحدّيات القائمة، محبّة للصّلة، حاضنة للجميع، وراعية لكلّ الفئات العمريّة، ولكلّ الكهنة والأشخاص حسب حاجاتهم والتّحدّيات الّتي تواجههم.  

أتطلّع وإيّاكم إلى كنيسة حيّة بالمسيح، إلى أن نكون عائلة المسيح الحقيقيّة الواحدة. أرجو ألّا ننسى أنّنا مدعوّون إلى خلاص أنفسنا وخلاص العالم أيضًا. لن أعدكم الآن ببرنامج محدّد. فبرنامجنا هو المسيح وبهاء كنيسته الموكلة إلينا رعايتها معًا. أنني سأكون معكم وبينكم. في وسطكم دائمًا وسنبحث معًا عن كلّ عمل يخدم بشارتنا وخلاصنا.  

يجب أن تنبع مشاريعنا من رؤية نحدّد بحسبها انتظاراتنا معًا. رؤية تبتغي كنيسة حيّة، عروسًا لا عيب فيها ولا تجعّد، بقدر ما يمكن أن تتحقّق هذه الرّؤية على الأرض. رؤية تثبّت كنيسة المسيح في هذه الدّيار وتجذّر حضورها فيها، وتغذّي شعبها بالحياة الحقّة المُستمدّة من حضور الرّوح القدس الدّائم في وسط كنيسته وفي قلبها.

رؤية تَعرف هذا العالم وفكره وحاجاته ولكنّها تبقى مخلصة لفكر المسيح وشاهدة له مهما كانت الصّعوبات والتّحدّيات.

هذا يدعوني إلى أن أطلب من الإكليروس تعاونًا وتفانيًا وقداسة. حياة شخصيّة ليكون كلّ إكليريكيّ خادمًا للمسيح بحسب قلب المسيح لا بحسب ما يراه هو. وإلى أن أطلب من الشّعب المؤمن أن يكون متجاوبًا مع كلّ دعوة تجعل كنيسته كنيسة المسيح حقًّا وإلى أن يكون هذا الشّعب المؤمن مشاركًا في تطوير وتنمية كنيسته على الصُّعد المادّيّة والرّوحيّة والتّقديسيّة.

نحتاج إلى أن ننمو باستمرار في حياة القداسة والصّلة والتّنقية والمحبّة.

نحتاج إلى بناء ثقافة التّكامل والتّعاون وتنمية المواهب.

نحتاج إلى الافتقاد ونشر ثقافة المحبّة والرّوح العائليّة.

نحتاج أن يشعر كلّ واحد منّا أنّه يحيا بالآخرين ويحيوا به.

نحتاج إلى تنمية الأوقاف وبناء المشاريع الخادمة والاستثماريّة لخدمة البشارة وإخوة يسوع الصّغار.

نحتاج إلى أن نصير شهودًا للمسيح وللحياة الحقّة فيه على الصّعيد الفرديّ والجماعيّ الكنسيّ.  

نحتاج أيضًا إلى التّجذّر في روح الكنيسة الأنطاكيّة وتاليًا معرفة تاريخها وحاضرها واكتشاف دورها الفريد في اللّقاء بالآخرين إخوة كانوا موافقين لنا أم مخالفين.

ونحتاج أن نعمل كلّ يوم بجهد كبير لصنع حاضرها ومستقبلها.  

حفظت أنطاكية الإيمان المستقيم على الرّغم من الهرطقات الكثيرة الّتي ولدت تاريخيًّا في وسطها، وواجهتها بالحوار ولم تغرق في التّزمّت والانغلاق.

علّمها تاريخها الشّاقّ أن تطلب وجه المسيح وملكوته وأن تعلي سعيها إلى المسيح على كلّ المطالب الأخرى.

لقد طهّرها تاريخها من طلب أمجاد هذه الدّنيا وحلاوتها ولم تقع مرّة في فخّ التّشدّد المُتزمّت ولا المطالب الدّنيويّة تلك الّتي يمكن أن تحجب وجه المسيح وحضوره الحيّ عن كنيسته.

بقيت الكنيسة الأنطاكيّة شاهدة لوحدة الشّعوب بالمسيح على الرّغم من الأخطار الكثيرة الّتي تحيط بها وتتأجّج نارها هنا وهناك.

تتميّز الرّوح الأنطاكيّة، الّتي نحملها، ويجب أن نحافظ عليها بالتّجذّر في الإيمان المسيحيّ الأرثوذكسيّ الأصيل، والتّفريق تاليًا بين جوهره والتّعبيرات الّتي لبسها عبر الزّمن.  

تتميّز الرّوح الأنطاكيّة بالقدرة على الحوار والصّلة وقبول الآخرين، والقدرة على التّمييز بين محبّتهم الشّخصيّة وعدم قبول مواقفهم الّتي لا يسمح ضميرنا المسيحيّ بقبولها.

يجب أن نبقى ككنيسة أنطاكية قادرين على لعب دور الجسر الّذي يصل جميع الأطراف ببعضها بالمسيح.  

أعرف أنّ الإغراءات والتّحدّيات الّتي تواجهنا وتحيط بنا من كلّ صوب كثيرة، لكنّنا يجب أن نبقى قادرين بالمسيح على أن نصير كما طلب من أجلنا قبل آلامه: "أن نكون في هذا العالم لكنّنا لسنا من هذا العالم".

هذا كلّه يعطى ولنا ويزاد أيّها الأحبّة إن طلبنا فكر المسيح وفكره وحده في قلب هذا العالم.  

أطلب صلواتكم كي أكون أمينًا له ووفيًّا لكم لنسير سويًّا إلى تمتمة ملكوته السّماويّ في عالمنا الأرضيّ على رجاء التّمتّع به بملئه في الدّهر الآتي.  

أمُدّ يداي وأفتح قلبي لكم وأنتظر تجاوبكم.

ساعدوني لأكون أبًا حاضنًا إيّاكم بالمسيح، وإلى أن تكون هذه العصا الّتي استلمتها لشقّ الطّريق إلى ملكوت الله، أكثر منها للتّأديب والتّقويم.

لنتعاون سويًّا كي نصرف وقتنا وطاقاتنا في البناء والنّموّ والتّطوير، لا في البحث عن طرق للمصالحات وسبل لحلّ للمشاكل الّتي نصنعها بأيدينا.

أمّا إخوتي في مجلس الأساقفة الأرثوذكس الحاضرين بيننا اليوم والغائبين عنّا، فسأكون أخًا لهم وسنحمل معًا مسؤوليّة الشّهادة للتّراث الأرثوذكسيّ العظيم الّذي نحن مؤتمنون عليه، وسنلتمس معًا أثر المسيح في كلّ الوجوه وفي كلّ مطارح سيادته، بحيث لا يبقى أحد أو شيء ممّا ائتمنّا عليه خارج خدر المسيح.  

لن نصمّ آذاننا عن سماع شهادة إخوتنا في الكنائس غير الأرثوذكسيّة. وسنسعى كي نقوى بخبرة الّذين يطلبون وجه الرّبّ في قلب هذا العالم.  

سنشهد في علاقاتنا ونبقى أُمناء للتّقليد المُقدّس الّذي تسلّمناه من آباء القرون الأولى، ذاك التّقليد الّذي يوحّدنا جميعًا في الحياة في الكنيسة.  

أذكروني في صلواتكم كما سأفعل أنا أيضًا.  

المسيح قام."