العراق
05 كانون الثاني 2022, 14:50

الكنيسة في رحاب الرّوح القدس... تعليم البطريرك ساكو الثّالث عشر

تيلي لوميار/ نورسات
في تعليمه الثّالث عشر، كتب بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو عن الرّوح القدس الّذي "يدخلنا إلى عالم الله" و"يساعدنا على الصّبر والثّبات والصّمود في نقل الرّسالة".

وفي هذا الإطارتوسّع وكتب بحسب إعلام البطريركيّة: "مثلما تجلّى الله الآب للبشر وتجسّد ابنه يسوع المسيح من أجلهم، هكذا أيضًا تجلّى الرّوح القدس. إنّه الله واحد في ثلاثة تجلّيات كاملة كما في عماد يسوع (متّى 3/13/17).

العَنصرة معرَّبة عن اللغة العبرية atzeret وتعني اجتماعًا واحتفالاً، أمّا لفظة Pentecost اليونانيّة فتعني خمسين يومًا. إنّها إشارة إلى الفترة بين أحد قيامة المسيح وأحد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ.

في اليوم الخمسين تغيّر كلّ شيء بالنّسبة للتّلاميذ: "ولَمَّا أَتى اليَومُ الخَمْسون، كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد، فانْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه، وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعاً مِنَ الرُّوحِ القُدس" (أعمال 2/ 1-4).

فترة الخمسين يومًا (الحجر)، كانت فترة تأمّل ومراجعة لمّا سمعوه من يسوع، وما شاهدوه من أعماله، ليُهضَم ويُستَوعَبْ، وينضج لبلورة إيمانهم ودعوتهم. كانوا يعيشون كعائلة واحدة كما جاء في سِفر أعمال الرّسل: "وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم" (أعمال 2/ 44). ونقلهم الرّوح القدس بحلوله من حالة القلق والخوف إلى حالة المواهب والتّأهّب للرّسالة.

للرّوح القدس دور في حياتنا مثلما كان له دور في حياة التّلاميذ الأوائل. إنّه يواصل بمواهبه وأنواره تجلّيات الله في عالمنا ويشهد له (يوحنّا 15/ 26). الرّوح القدس يدخلنا إلى عالم الله. هذا هو الكاريزما الّذي يساعدنا على الصّبر والثّبات والصّمود في نقل الرّسالة (يوحنّا 14/ 16).

الرّوح القدس ضمان جامعيّة الكنيسة

يذكر سِفر أعمال الرّسل حلول الرّوح القدس على التّلاميذ وانطلاقهم بثقة وحماسة إلى تبشير العالم عملاً بوصيّة يسوع: "اذهبوا إلى العالم كلّه، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مرقس 16/ 16).

حلول الرّوح القدس يشير بقوّة إلى جامعيّة الكنيسة (universality)، ليس على الصّعيد الجغرافيّ فحسب، بل إلى جامعيّة الإيمان وجامعيّة الخلاص. فالكنيسة ليست رومانيّة ولا يونانيّة ولا غربيّة ولا شرقيّة، إنّها كنيسة رسوليّة جامعة.

وموهبة التّكلّم بلغات تُشير إلى شموليّة البشارة، بعدما فرَّقتهم بابل (بلبلة) في رواية برج بابل، فيجمعهم الرّوح القدس باندهاش (أعمال الرّسل 2/1-13).

الرّوح القدس يضمن وحدة الكنيسة الجوهريّة، واكتمال ملكوت الله. الرّوح القدس يحتضن الكنيسة، ويسكب عليها مواهبه من دون كلل. والكنيسة بصفتها تحمل رسالة يسوع المسيح، يتعيّن عليها أن تفسح المجال واسعًا أمام الرّوح القدس لينشئها ويقودها بالرّغم من التّحدّيات والعقليّات والمصاعب…

الأنجلة الجديدة

حلول الرّوح يضع الرّسل أمام تدخّل إلهيّ جديد ليملأهم من مواهبه، وكذلك يضعنا نحن أيضًا اليوم، ويحرّك الكنيسة ويجدّدها.

في العقود الأخيرة، تطوّرت عقليّة النّاس كثيرًا وأخلاقهم وسلوكهم. لذا يتعيّن على الإكليروس أن يساعدوا النّاس الحاليّين لا بعقليّتهم وأحكامهم القديمة، بل بعقليّة منفتحة ليكونوا مسيحيّين واعين وملتزمين (ملحًا وخميرة ونورًا) في مجتمعاتهم المتنوّعة. هذه الفسحة من الحرّيّة والإصغاء والتّجديد لن تُفقدنا إرثنا الأصيل، فالكنيسة عبر تاريخها الطّويل تركت بعض أحكامها وأساليبها في سبيل التّأوين وملاءمتها مع متطلّبات العصر. إرثنا يشبه كنائسنا القديمة الّتي شُيّدت وفق هندسة ذلك الزّمان وفنّه وريازته ومتطلّبات النّاس، ويكلّفنا اليوم صيانتها وتجديدها مبالغ كبيرة، لكن الصّيانة تقوم على أسسها لأنّها متينة. هكذا التّجديد يتواصل عبر الأزمان.

الجديد يقلق ويخيف أحيانًا لأنّه "يدفع" بقوّة العادات والتّقاليد. لا ينبغي أن نخاف، بل يجب أن تكون لنا الثّقة بأنّ الرّوح القدس هو من يصون الإيمان ويحافظ على الكنيسة لكي لا تقوى عليها أبواب الجحيم. الأنجلة بطبيعتها تتجدّد لكي تستمرّ في كلّ زمان ومكان.

الكنيسة تعيش في العالم ومن أجل العالم من دون أن تكون من العالم (الإنجيل) تمامًا كما كان يسوع. وإذا كان للكنيسة رسالة في العالم فلا يمكنها أن تعزل نفسها في قلعة محصّنة، بل عليها أن تتحرّك وتعمل كلّ شيء لتكون مكانًاً لتجلّيّات الله المدهشة. الكنيسة سرّ محبّة الله وبإمكان كلّ إنسان أن يجد فيها الملجأ.

إنّ النّقص في الإيمان هو ما يُقسّي في معظم الأحيان العقليّات ويحنّطها. الأسئلة الّتي يطرحها المؤمنون عن الكنيسة ومؤسّساتها الكثيرة، ليست بالضّرورة ضدّها، بل تُعبّر عن محبّتهم لها وإلّا كانوا قد تركوها.

الكنيسة عائلة يمكن أن تناقَش فيها الأشياء بمحبّة. المواهب نعمة من الله وليست مُدعاة للخصام. الموهبة الّتي أمتلكها تكتمل من خلال موهبة الآخرين. والكنيسة تعيش اكتمال مواهبها لتنمو وتتقدّم وترتقي كجسم واحد بنعمة الرّوح القدس".