أوروبا
18 أيلول 2020, 12:30

الكلمة الكاملة للبطريرك يونان في رسامة المطران رامي قبلان في روما

تيلي لوميار/ نورسات
خلال رسامة الخوراسقف رامي عيسى قبلان مطرانًا معتمَدًا بطريركيًّا لدى الكرسيّ الرّسوليّ في روما، باسم فلابيانوس رامي قبلان، في بازيليك القدّيس يوحنّا اللّاتران البابويّة- روما، ألقى بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان عظة جاء فيها:

"في هذا المساء نشهد حدثًا تاريخيًّا: في هذه الكنيسة البابويّة الرّائعة للقدّيس يوحنّا في اللّاتران- روما، "البازيليك الأمّ والرّأس" في المدينة المقدّسة وفي العالم. نقوم برتبة الرّسامة الأسقفيّة للأب العزيز رامي قبلان، الّذي انتخبه مجمعنا الأسقفيّ مطرانًا معتمَدًا بطريركيًّا لكنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة لدى الكرسيّ الرّسوليّ الرّومانيّ، وسُمِّيَ زائرًا رسوليًّا على أوروبا.

أودّ أن أتقدّم أوّلاً بالشّكر الجزيل إلى قداسة البابا فرنسيس على منحنا هذا الامتياز بإتمام رتبة الرّسامة في هذه البازيليك!

- أرحّب بكم جميعًا أنتم المشاركين معنا في هذه الذّبيحة الإلهيّة وفرحة الرّسامة، وأحيّي شاكرًا أخويَّ صاحبي النّيافة الكاردينال ليوناردو ساندري، رئيس مجمع الكنائس الشّرقيّة، والكاردينال ماريو زيناري، السّفير البابويّ في سوريا، وصاحبي السّيادة: مار ديونوسيوس أنطوان شهدا رئيس أساقفة حلب ممثّلاً مجمع أساقفتنا، وجورجيو ديمتري غلارو أمين سرّ مجمع الكنائس الشّرقيّة، وهما المطرانان المعاونان لنا في الرّتبة، مع سائر الأساقفة الأجلّاء، والخوارنة والكهنة والشّمامسة والرّهبان والرّاهبات، وجميع الحاضرين المبارَكين.

- نأسف معك، يا بنيَّ العزيز رامي، على غياب أفراد أسرتك، ولاسيّما والديك العزيزين اللّذين أردتَ بحقّ أن تجنّبهما مخاطر السّفر من الولايات المتّحدة بسبب الوباء!

- تتمّ رتبة الرّسامة بحسب الطّقس السّريانيّ قبيل المناولة، وذلك للتّركيز على العلاقة الحميمة لسرّ الكهنوت مع سرّ الإفخارستيّا. خلال ذبيحة القدّاس الإلهيّ، يخلّد المرشَّح للأسقفيّة إلى الصّلاة والتّأمّل خلف المذبح. وعندما يحين وقت رتبة الرّسامة، يتوجّه الأسقفان المعاونان ليرافقاه إلى أمام البطريرك، الّذي يسأله إذا ما كان قد قَبِلَ بحرّيّة وإدراك دعوة الرّوح القدس له، لخدمة الكنيسة كأسقف. وبعد الإجابة الإيجابيّة، يُطلَب من المرشَّح للأسقفيّة أن يعلن "اعترافه بالإيمان الكاثوليكيّ"، الّذي يكون قد حرّره بخطّ يده.

- بحسب التّقليد السّريانيّ، يُطلَق على الأسقف الجديد اسمٌ أبويٌّ مختارٌ من بين آباء الكنيسة، يُدعى به. وقد اختار الأب رامي اسم "فلابيانوس"، تيمّنًا بأسقفنا الشّهيد، والّذي احتفلنا بتطويبه قبل خمس سنوات في لبنان، وذلك في الذّكرى المئويّة عينها لاستشهاده في 29 آب 1915. وجديرٌ بالذّكر أنّ الأب رامي كان المحامي الغيور في دعوى التّطويب.

- في الرّسامة الأسقفيّة، نستمع إلى مقطعين من الإنجيل: الأوّل، وهو للقدّيس متّى، يقرأه البطريرك الرّاسم، وهو مقطع يدور حول اعتراف سمعان بطرس بألوهيّة الرّبّ يسوع في قيصريّة فيلبّس. أمّا المقطّع الثّاني، فهو إنجيل "الرّاعي الصّالح" للقدّيس يوحنّا، والّذي سيعلنه الأسقف الجديد في نهاية رتبة الرّسامة.

"وأنتم مَن تقولون إنّي أنا؟"

- يقدّم لنا إنجيل مار متّى الرّسول حدث الحوار بين الرّبّ يسوع والتّلاميذ وسمعان في قيصريّة فيلبّس، بتفصيلٍ أكثر ممّا ذكره الإنجيلان الإزائيّان لمار مرقس ومار لوقا. على سؤال يسوع: "وأنتم مَن تقولون إنّي أنا؟"، يجيب بطرس دون تردُّد، معترفًا بإيمانه بمعلّمه: "أنت المسيح، ابن الله الحيّ". إنّه اعترافٌ فريدٌ، كما قال يسوع، قد أوحاه الآب السّماويّ لبطرس. لم يكتفِ الرّبّ بمدح بطرس فقط: "طوبى لك يا سمعان بن يونا"، لكنّه أعطاه أيضًا اسمًا جديدًا: "أنت شمعون كيفا"، قال له يسوع، من الآرامية، أيّ سمعان الصّخرة. وهذه الصّخرة ليست مجرّد حجر، بل صخرة ستُبنى عليها الكنيسة، الّتي لن تقوى عليها "أبواب الجحيم". ومع الاسم الجديد أعطاه أيضًا "مفاتيح ملكوت السّماوات"، وسلطانَ "الحَلّ والرّبط".

- نتذكّر أنّ الرّبّ يسوع علّم وبشّر بلغة الشّعب العبرانيّ، الّتي كانت في زمانه الآراميّة، مستخدمًا تعابيرَ ساميّة بسيطة تفهمها عامّة النّاس، مثل: "اللّحم والدّمّ"، "أبواب الجحيم"، "مفاتيح ملكوت السّماوات"، وسلطان "الحلّ والرّبط"ز

- كم هو مفيدٌ أن نعود الآن إلى المواعظ التّعليميّة لقداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر، الّذي تحدّث في المقابلات العامّة لشهر تشرين الثّاني (نوفمبر) 2007، عن ميّزات التّراث السّريانيّ، إذ قال:

"وهكذا فإنّ الجماعات السّريانيّة في القرن الرّابع، تمثّل العالم السّامي الّذي نشأ منه الكتاب المقدّس نفسه، وهي خيرُ تعبيرٍ عن المسيحيّة، الّتي لم تختلطْ صياغتها اللّاهوتيّة مع التّيّارات الثّقافيّة المختلفة، ولكنّها عاشت حسب التّيّارات الفكريّة الخاصّة بها" (انتهى المرجع).

- لذا يمكن القول إنّ الكنيسة السّريانيّة تمثّل هذه المجتمعات السّامية ذات الثّقافة واللّغة الآراميّة. إنّها جزءٌ من الكنيسة الأولى، ولها الامتياز أن تمثّل التّقليد المشترك لكنيستَي القدس وأنطاكية، وأن تساهم في الكرازة بالإنجيل في معظم أنحاء العالم المعروف في ذلك الوقت، أيّ آسيا الصّغرى، وبلاد ما بين النّهرين، والهند، وشبه الجزيرة العربيّة، وإثيوبيا.

- لقد أقرّ الآباء السّريان، حتّى "ما بعد الخلقيدونيّين"، بالرّسالة الفريدة الّتي أوكلها المسيح إلى بطرس شمعون- كيفا، كرئيس للرّسل. أجل، لا يزال هناك تحفّظ لدى الكنائس الشّقيقة، فيما يتعلّق بممارسة "السّلطة البطرسيّة"، إذ يفضّل البعض التّحدّث عن المشاركة الأسقفيّة ما بين "الإثني عشر" رسولاً، وكذلك عن "الأوّل بين متساوين". ومع ذلك، فإنّهم لا ينكرون رسالة راعي الخراف الّتي أوكلها الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات بشكل مميّز إلى "شمعون بار يونا"، والّذي سبق أن أوصىاه أن "ثبِّتْ إخوتَك".

- في القومة الثّانية من صلاة اللّيل ليوم الإثنين في طقسنا السّريانيّ التّرنيمة السّريانيّة التّالية: «ܡܽܘܫܶܐ ܪܺܝܫܳܐ ܕܥܰܬܺܝܩܬܳܐ ܘܫܶܡܥܽܘܢ ܕܰܚܕܰܬܳܐ܆ ܬܪ̈ܰܝܗܽܘܢ ܕܳܡܶܝܢ ܠܰܚܕܳܕ̈ܶܐ ܘܰܐܠܳܗܳܐ ܒܗܽܘܢ ܫܪܶܐ. ܡܽܘܫܶܐ ܐܰܚܶܬ ܠܽܘܚ̈ܶܐ ܕܢܳܡܽܘܣܳܐ܆ ܘܫܶܡܥܽܘܢ ܩܰܒܶܠ ܩܠܺܝܕ̈ܶܐ ܕܡܰܠܟܽܘܬܳܐ. ܡܽܘܫܶܐ ܒܢܳܐ ܡܰܫܟܰܢܙܰܒܢܳܐ ܘܫܶܡܥܽܘܢ ܥܺܕܬܳܐ ܒܢܳܐ܆ ܡܶܢ ܥܰܬܺܝܩܬܳܐ ܘܰܚܕܰܬܳܐ ܠܳܟ ܫܽܘܒܚܳܐ ܡܳܪܝܳܐ. ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ ܨܠܽܘܬܗܽܘܢ ܬܥܰܕܰܪ ܠܰܢ». وتعريبها: "موسى رئيسٌ للعهد القديم وسمعان للعهد الجديد، كلاهما شبيهان والله حالٌّ فيهما. أنزل موسى لوح الوصايا، وقَبِلَ سمعان مفاتيح الملكوت. بنى موسى خيمة العهد وبنى سمعان الكنيسة. ممجّدٌ أنتَ يا ربّ بالقديم والجديد، هلّلويا، صلاتهما تشفّع بنا".

"أنا الرّاعي الصّالح، الرّاعي الصّالح يبذل نفسه عن الخراف"

- على الأسقف الجديد، بعد سيامته، أن يعلن إنجيلَ "الرّاعي الصّالح" بحسب القدّيس يوحنّا. إنّه تعهّدٌ رسميّ يبرمه أمام الجماعة الكنسيّة، فيعرّف عن نفسه أنّه الرّاعي الصّالح، على مثال الرّبّ يسوع، وبصفته تلميذًا أمينًا. لذلك يجب عليه أن يعرف خرافه، ويرعاها ويحبّها حتّى بذل الذّات من أجلها، أيّ النّفوس الموكَلة إليه من إكليروس ومؤمنين.

- كما سمعنا في القراءة الأولى، فإنّ بولس الرّسول يوصي تلميذه تيموثاوس بألّا يكلّ عن بذل نفسه بشجاعة لإنجاز المهام الصّعبة الموكَلة إليه، أيّ خلاص النّفوس. فيقول: "لهذا نحن نتعب ونجهد، لأنّنا وضعنا رجاءنا في الله الحيّ الّذي هو مخلّص جميع النّاس، وخاصّةً المؤمنين" (1تيم 4: 10).

- إنّ أسقفنا الجديد عالمٌ بمسيرة كنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة، وهي كمثل مسيرة كنائس الشّرق الأوسط الأخرى، "دربُ الصّليب"، والّذي يبدو إلى يومنا وكأنّ لا نهاية له! أجل هي مسيرةٌ من الاستشهاد طوال تاريخها. وعلى عكس "درب الصّليب" الّذي ساره المخلّص، والّذي تُوِّجَ بالقيامة المجيدة، فإنّ درب الصّليب الّتي لا تزال كنائسُنا الشّرقيّة سائرةً عليه، يبدو وكأنّه عتيدٌ أن ينتهي في القبر!

- صحيحٌ أنّ هذا ليس وقت الشّكوى والتّباكي! لكن يجب أن نتساءل: أليس من المأساويّ، بل المروّع حقًّا، أن نشهد اقتلاعًا من أرض الأجداد لكنائسَ خاصّةٍ، تعود إلى فجر المسيحيّة وساهمتْ في تطوّر الحضارة الإنسانيّة وفي التّنوّع الدّينيّ والثّقافيّ في المشرق، لمجرّد أنّها تفتقر إلى الأرقام أو موارد الغنى أو وسائل الدّفاع عن الذّات! ينكَّل بها من قِبَل القريب والغريب، وتهمِّشها القوى العظمى الّتي تستأثر بمفهوم الدّيمقراطية والحرّيّات! يكفي أن نذكر أوجاع التّنكيل والاضطهاد والتّهميش والتّهجير الّتي مرّت وتمرّ بها سوريا المعذَّبة والعراق الجريح، والآن لبنان الحبيب، حيث يعاني اللّبنانيّون عامّةً، والمسيحيّون خاصّةً، سيّما بعد الانفجار المروّع في مرفأ بيروت في الرّابع من شهر آب المنصرم!

- فلنرفع في هذا المساء، ليلة عيد ارتفاع الصّليب، عيوننا إلى الرّبّ الفادي الّذي جعل من خشبة الصّليب عنوانًا لفداء العالم، ضارعين إليه كي يثبّتنا في الإيمان، وينفح نفوسنا بعطية "الرّجاء فوق كلّ رجاء" (رو 4: 18). هو الّذي وعد وقال: "في العالم سيكون لكم ضيق، لكن تشجّعوا: أنا غلبتُ العالم!".

- من بين المسؤوليّات الملحّة الّتي سيتحمّلها الأسقف الجديد، السّعي لتلبية احتياجات المهجَّرين من أبناء كنيستنا السّريانيّة وبناتها إلى البلدان الأوروبيّة، وذلك بتسمية كهنة مُعَدِّينَ لخدمتهم الرّعويّة والطّقسيّة، بعد استشارة مجمع الكنائس الشّرقيّة والسّلطات الكنسيّة المحلّيّة. ولكي نُدرك خطورة التّشتُّت بين المؤمنين في كنيستنا وحاجتهم إلى كهنة مُرسَلين، يكفي أن نلاحظ أنّ عدد كهنتنا الّذين أُرسِلوا لخدمة كنيسة الانتشار في أوروبا، قد ارتفع في غضون بضع سنوات، من ستّة إلى أكثر من عشرين!

- كما أنّه مدعوٌّ لخلق مناخٍ من الوفاق والأخوّة ما بين الكهنة العاملين والمؤمنين، مُذكّرًا بتوصية مار إغناطيوس الأنطاكيّ، في رسالته إلى كنيسة أفسس، حيث يقول: "... وهكذا تصبحون أنتم الأفراد متّحدين في سيمفونيةٍ متناغمةٍ، مترنّمين بصوتٍ واحدٍ بنغمة الله في الوحدة..." (الرّسالة إلى مسيحيّي أفسس 4: 1-2).

- أدعوكم لنصلّي من أجل أسقفنا الجديد مار فلابيانوس رامي، كيما، برحمة الله الآب، وبنعمة يسوع الكاهن الأعظم، وبكمال مواهب الرّوح القدس، يستطيع أن يُتمّم رسالتَه المزدوجة، بصفته معتمَدًا بطريركيًّا لدى الكرسيّ الرّسوليّ في روما، المدينة الخالدة الّتي "ترأس في المحبّة"، وزائرًا رسوليًّا في أوروبا، على مثال الرّاعي الصّالح، وبقلب "وديع ومتواضع".

- فليبارككم الثّالوث الأقدس، بشفاعة والدة الله مريم الكلّيّة الطوبى، والقدّيس يوحنّا الرّسول، ومار أفرام السّريانيّ، والطّوباويّ مار فلابيانوس ميخائيل، بإسم الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد، حقًّا، آمين!".