العراق
02 أيلول 2021, 11:50

الكاردينال ساكو: العلمانيّون في الكنيسة شركة، تعاون، وحدة

تيلي لوميار/ نورسات
إنطلاقًا من كون العالم تحوّل إلى"الرّقميّة"، وتغيّر النّظرة إلى الدّيانات وبعض مفاهيمها، رأى بطريرك الكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكوِ ضرورة أن يأخذ قادة المجتمع والكنيسة الموضوع بعين الاعتبار جدّيًّا وتقييم خطط وبلورة نظرة مستقبليّة وآليّة جديدة تنقل فيها الكنيسة الإيمان إلى الأجيال الجديدة "منعًا للسّقوط في الفوضى والغوغائيّة".

وعن هذا الموضوع كتب ساكو بحسب إعلام البطريركيّة ما يلي:

"عالمنا يتحوّل بسرعة إلى "الرّقميّة"، فلا توجد مسافات أمام التّواصل الاجتماعيّ social media  والمعلومات. وتغيّرت بالتّالي القواعد الاجتماعيّة الّتي ورثناها من أهلنا، وتعوّدنا على احترامها. كذلك تغيّرت النّظرة إلى الدّيانات وبعض مفاهيمها. فثمّة تفكيرٌ جديدٌ خصوصًا عند  جيل الشّباب، وثقافة جديدة، ومنطق جديد مختلف عن السّابق، لذا يتعيّن على قادة المجتمع والكنيسة أخذها بنظر الاعتبار جدّيًّا، وتقييم خططها، وبلورة نظرة مستقبليّة، وآليّة جديدة  بالنّسبة للكنيسة لنقل الإيمان إلى أجيال هذه الثّقافة الجديدة، والتّعامل معهم بمسؤوليّة، منعًا للسّقوط في  الفوضى والغوغائيّة!

العِلمانيّون أعضاء في الجسد الواحد  

في المسيحيّة، الكنيسة جسد واحد، عائلة واحدة. والمؤمنون هم أبناؤها وبناتها. والكنيسة بيت الكلّ، وشأن الكلّ بالعماد والحياة الإيمانيّة. والكلّ مدعوّ إلى التّعاون والشّراكة والتّكامل والتّناغم من أجل إشاعة رسالة المسيح في العالم، وتقوية حضور الكنيسة وخدمة الإنسانيّة. ثمّة تحدٍّ اليوم أمام الهويّة المسيحيّة في الغرب وحتّى لدى جالياتنا الشّرقيّة في بلدان الانتشار، حيث تهيمن على المجتمع الغربيّ العقليّة الفرديّة والاستهلاكيّة، على مقاس قاعدة عامّة وليبراليّة لحقوق الإنسان، ممّا أثّر في القيم الدّينيّة والأخلاقيّة، فشهدت لدى المؤمنين المسيحيّين تراجعًا فيها.

لنقرأ بتركيز ما جاء في الرّسالة الأولى إلى كورنتس، حيث يرسم بولس لوحة نموذجيّة عن الكنيسة وأعضائها والأدوار فيه، من دون الخلط أو الإلغاء.

"كما أَنَّ الجَسَدَ واحِدٌ، ولَه أَعضاءٌ كَثيرَة، وأَنَّ أَعضاءَ الجَسَدِ كُلَّها على كَثرَتِها لَيسَت إِلاَّ جَسَدًا واحِدًا، فكذلكَ المسيح… فلا تَستَطيعُ العَينُ أَن تَقولَ لِليَد: لا حاجَةَ بي إِلَيكِ ولا الرَّأسُ لِلرِّجْلَينِ: لا حاجَةَ بي إِلَيكُما… فأَنتُم جَسَدُ المَسيح وكُلُّ واحِدٍ مِنكُم عُضوٌ مِنه. والَّذينَ أَقامَهمُ اللهُ في الكَنيسةِ همُ الرُّسُلُ أَوَّلا والأَنبِياءُ ثانِيًا والمُعلِّمون ثالِثًا، ثُمَّ هُناكَ المُعجِزات، ثُمَّ مَواهِبُ الشِّفاءِ، والإِسعافِ وحُسْنِ الإِدارةِ والتَّكَلُّمِ بِلُغات." (12/ 12- 27).

هذه هي صورة سرّ الكنيسة، الشّركة والالتزام، والرّجاء، وبُناها بوصفها جسد المسيح. من المؤكّد لقد تعرّضت الكنيسة لتطوّرات وتشويهات في فهمها لهويّتها ودورها، على مرّ تاريخها الطّويل، خصوصًا عندما سيطر الإكليروس (الإكليروسانيّة) على حوكمة الكنيسة، لكن ظهرت في منتصف القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين توجّهات كنسيّة ولاهوتيّة جريئة، تطالب بالإصلاح والتّجديد. وكان ثمرة هذه التّوجّهات انعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني 1962-1965، خصوصًا الدّستور العقائديّ عن الكنيسة، نور الأمم، والقرار عن رسالة العلمانيّين المؤمنين، والوثيقة عن الكنائس الشّرقيّة. كذلك توالت تأكيدات البابوات المعاصرين، وخصوصًا البابا الحاليّ فرنسيس على العودة إلى الجذور، وضرورة إجراء تعديلات بنيويّة في الكنيسة، مع الحفاظ على الوحدة والتّنوّع. وما دعوته البابويّة الأخيرة إلى عقد سينودس الأساقفة حول "المجمعيّة" –  synodality في أكتوبر العام 2023 إلّا تعبيرٌ عن اهتمامه بهذه المشاركة الغنيّة والدّافئة في الكنيسة. وفي هذا الصّدد، أعبّر عن رجائي بأن تؤدّي الكنائس الشّرقيّة دورًا مهمًّا في هذا السّينودس، انطلاقًا من خبرتها المجمعيّة، وتقاليدها وشهادتها للإنجيل، منذ فجر المسيحيّة، وطقوسها وروحانيّتها والعلاقة الأسريّة الحميميّة الّتي تعرفها الأسر المسيحيّة الشّرقيّة.

واقعيًّا كيف تجسّد هذه الصّورة النّموذجيّة؟

الكنيسة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة واقعيًّا تضمّ الأساقفة والكهنة والشّمامسة والمؤمنين؛ إنّه تنوّع متكامل. كلٌّ من المفروض به أن يؤدّي دورًا فاعلاً فيها، لكن ثمّة حاجة لبلورة هويّة العلمانيّين المؤمنين في الكنيسة. حيث تقول الرّسالة الأولى إلى كورنتس: "فاعتبروا، أيُّها الأخوة، دعوتكم (1/26). إنّ العمل معًا يمكن أن يُطوّر أفقًا جديدًا ونمطًا جديدًا لحياة الكنيسة أكثر شموليّة وترابطًا ومحبّة.

لا يمكن أن نتصوّر الكنيسة من دون الشّعب المؤمن للعلمانيّين رجالاً ونساءً، الّذين لهم نفس كرامة الأبناء، وهم مدعوّون لاكتشاف دعوتهم، والاهتداء إليها، تلك المعروفة كنسيًّا وعقائديًّا بـ"الكهنوت الملوكيّ" (1بطرس 2/ 9)، للمساهمة في البشارة وبنيان الكنيسة، جسد المسيح. دور العلمانيّين المؤمنين المنتمين إلى الكنيسة قلبًا وقالبًا، لا يمكن إلغاؤه أو تهميشه، شرط أن يعي هؤلاء العلمانيّون رسالتهم في دورهم الحقيقيّ في الكنيسة بعيدًا عن مزاجيّة الانتقادات والمزايدات والتّسقيطات الّتي لا تنفع، بل تُعقّد العلاقة، إن لم نقل تجعلهم في اصطفاف غير مقصود مع غير المؤمنين، ناهيك عن الّذين، من بينهم يتصرّفون بأجندات ليبراليّة إلحاديّة، تحت لباس الحديث عن الانتماء المسيحيّ وشؤونه.

ماذا يحتاج العلمانيّون ليكون دورهم فعّالاً ومؤثّرًا في الكنيسة؟

1. تنشئة المؤمنين تنشئة مسيحيّة سليمة ومستدامة ضروريّة، وتثقيف أنفسهم بمعرفة لاهوتيّة، وكنسيّة رصينة تدعم شراكتهم. كيف يقدرون أن يشتركوا في حياة الكنيسة وهم لا يميّزون الفرق بين البطريرك والأسقف، أو يتقصّدون الخلط في ذلك، في إطار استهداف مبرمج! كيف لا يعرفون حقيقة الأمور كما حصل أخيرًا في موضوع التّسمية الخاطئة للبطريركيّة الكلدانيّة! كيف يذهب أحدهم لحدّ مطالبة السّينودس بالاعتذار عن تصحيح تسمية خاطئة؟ هذه الحالة تكشف الحاجة إلى المزيد من التّثقيف والتّوعية. وأودّ أن أقول من هذا المقام، بأنّ كلّ هذا يترك ضلاله على المنابر الّتي يستخدمونها، والّتي تضعهم على صفحاتها، عندما يوصف أبناء الشّعب المؤمن بالحشرات الضّارّة، وتستخدم تعابير مستهجنة مثل الصّراصر، الزّريبة، ورعاية العشب والبرسيم، وغيرها من التّعابير، الّتي يبأ القلم من ذكرها. هذا إلى جانب ما يترك في الصّفحات الدّاخليّة من تعليقات بعيدة عن الرّقيّ. فنسترعي انتباه قرّائنا، وكتّابنا، في هذه المنابر.

2. يجب الإقرار بوجود المركز الأوّل في الكنيسة، أيّ القيادة، إن كان بالنّسبة للبابا في الكنيسة الجامعة، أو البطريرك في الكنيسة المحلّيّة، أو المطران في أبرشيّته، فهم الأب والرّأس كما هي الحالة في العائلة بالنّسبة للأب والأمّ، وعليه، ينبغي وجود الثّقة المتبادلة، والالتزام بتعليم الكنيسة الكاثوليكيّة الرّسوليّة الجامعة. هناك فرق بين أبناء الشّعب المؤمن في حضن الكنيسة، وبين ناشطين قوميّين اجتماعيّين وسياسيّين من المجتمع المدنيّ.

3. المركز أو المرجعيّة لا يعني التّسلّط والانفراد، إنّما الاحتضان والاحتواء. ولدى الكنائس الشّرقيّة آليّة للعمل الجماعيّ تسمّى السّينودس– المجمعيّة. والكنيسة الكلدانيّة دعت عددًا من المؤمنين من كلا الجنسين للمشاركة في سينودس العام 2019، لكن هذا العام لم تتمكّن من دعوتهم بسبب جائحة كورونا.

4. على الكنيسة أن تُعزّز التّبادل والمشاركة بين أولادها، وأن تنفتح على مطالب المؤمنين، وتشجعهم على تشكيل جماعات راعويّة للإسهام في العمل الرّاعويّ، من خلال المجالس الخورنيّة والأبرشيّة، وتكليفهم ببعض المسؤوليّات كما فعل البابا فرنسيس في الدّوائر الرّومانيّة. هؤلاء هم الّذين تعني الكنيسة بكونهم العلمانيّين المؤمنين، وليس مجرّد أناس منتمين بالإسم إلى كنيسة. وفي مجال مكانة المرأة، أذكر على سبيل المثال أنّه في البطريركيّة توجد إمرأة هي مسؤولة الدّائرة الماليّة والتّنمية الاقتصاديّة، وأخرى أمينة سرّ البطريركيّة، وراهبة هي معاونة عميد كلّيّة بابل للفلسفة واللّاهوت، واستعادت كنيستنا دور الشّمّاسات. والباب مفتوح أمام أيّ مؤمن رزين وملتزم ومتعاون.

أخيرًا نخلص إلى الوحدة. فتزداد أهمّيّة الوحدة في الكنيسة الواحدة، وهي الشّرط الأساسيّ للمشاركة في الخير العامّ، والشّهادة المسيحيّة الفاعلة، والانخراط  في العمل الاجتماعيّ. لا سبيل للمسيحيّ أن يكون مسيحيًّا على هواه، لحسابه الخاصّ، ومنعزلاً بالتّالي عن الكنيسة. الإنقسام عثار يشوّه مسيحيّتنا خصوصًا وأنّنا نشكل نسبة محدودة بين غالبيّة من غير مسيحيّين، وعلينا أن نشهد لهم عن شيء مختلف، فنكون بحسب دعوة الرّبّ، ملحًا وخميرة ونورًا.

إنّي أجد أنّ الكنيسة الكلدانيّة في العراق تتّجه بشجاعة وثقة نحو هذه الإصلاحات والتّجديدات المطلوبة لكي تغدو شاهدة لنور المسيح، مهما كانت الصّعوبات والتّحدّيات".