القدّيس الحرديني في مزيارة - زغرتا
إستهلّ الاحتفال بتدشين الكنيسة الجديدة ومسح مدخلها بالميرون المقدّس، ورشّ داخلها بالمياه المقدّسة، ليترأّس بو جوده بعدها رتبة التّكريس بحسب الوكالة الوطنيّة. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى بو جوده عظة جاء فيها:
"يطيب لي ويسرّني أن أكرّس اليوم هذه الكنيسة التي تبرّع ببنائها وتقديمها إلى وقف مزيارة العزيز حبيب الشّدياق، على إسم القدّيس نعمةالله كسّاب الحرديني، الرّاهب اللّبنانيّ المارونيّ، الذي كان معلّمًا لقدّيس لبنان مار شربل مخلوف الذي نحتفل بعيده اليوم، في هذا الأحد الثّالث من شهر تموز. القدّيس نعمةالله هو إبن حردين، القرية المسيحيّة اللّبنانيّة المعروفة بإيمان أبنائها وبناتها، وبتعدّد المزارات والكنائس والأديرة فيها، والتي يقول العارفون أنّها تضاهي عدد أيّام السّنة.
ولد يوسف جرجس كسّاب سنة 1808 في قرية حردين، في قضاء البترون وبدأ دروسه في مدرسة دير مار أنطونيوس- حوب التّابعة للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة من سنة 1816 حتى سنة 1822، ثم عاد إلى قريته للاهتمام بالأرزاق والمواسم والمواشي، مثل كلّ أبناء الجبل اللّبنانيّ في ذلك العصر. في العشرين من عمره سمع صوت الرّبّ يدعوه فقال كما قال صموئيل: تكلّم يا ربّ، فإنّ عبدك يصغي. وعلى مثال الرّسل سمع صوت الرّبّ يسوع يدعوه ويقول له: أترك كلّ شيء واتبعني، فترك كلّ شيء ودخل إلى دير مار أنطونيوس قزحيا وبدأ مرحلة الابتداء في الحياة الرّهبانيّة، فتخلّى عن إسمه القديم "يوسف" واتّخذ له اسم "نعمةالله" دلالة على موته عن حياة قديمة وبداية لحياة جديدة. تمرّس الأخ نعمةالله في الدّير بمبادئ الحياة الرّهبانيّة، من صلاة وعمل وحياة مشتركة وتعرّف إلى تقاليد الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة وعادات رهبانها وتقاليدهم، وتعلّم صناعة تجليد الكتب.
تابع دروسه الفلسفيّة واللّاهوتيّة في كفيفان وسيم كاهنًا في 25 كانون الأوّل سنة 1833، مع إثنين وعشرين من رفاقه الذين انطلقوا للعمل في أديار الرّهبانيّة وأرزاقها ورعاياها ومدارسها. إهتم الأب نعمةالله أوّلًا بتعليم الأولاد، ثمّ في الخدمة الرّعائيّة، إلى أن عُيّن سنة 1838 مديرًا للإخوة الدّارسين، وكان أستاذًا لمادّة اللّاهوت الأدبّي وكان من تلاميذه في تلك الفترة الأخ شربل مخلوف الذي أصبح قدّيس لبنان. تتميّز الحياة الرّهبانيّة التي عاشها الأب نعمةالله بميزات ثلاث، هي ميزات الحياة الرّهبانيّة: وهي الصّلاة، والعمل، والحياة المشتركة. وقد عاشها نعمةالله بكلّ أمانة وإلتزام، فعاش النّذور الرّهبانيّة الثّلاث: العفّة والطّاعة والفقر بكلّ تواضع، مكرّسًا ذاته كلّيًّا للمسيح، فأصبح مثالًا وقدوة لإخوته الرّهبان. ولذلك عيّنته السّلطة الكنسيّة مدبّرًا عامًّا في الرّهبانيّة ثلاث مرّات، وبقي ملازمًا التّعليم في دير كفيفان، مع ممارسته فنّ تجليد الكتب، حتّى وهو في وظيفة المدبّريّة".
باحتفالنا اليوم بتكريس هذه الكنيسة على إسمه، ومع احتفالنا بعيد تلميذه القدّيس شربل نتوقّف عند الصّفة المميّزة للقداسة كما عاشها هذان القدّيسان، والتي تتناقض جذريًّا مع روح العالم ونظرته إلى الأمور، وتتوافق مع تعليم السّيّد المسيح في الإنجيل، الذي يطوّب المساكين والفقراء والحزانى والمضطهدين، والذي يشتّت المتكبّرين في قلوبهم ويحطّ المقتدرين والأقوياء عن العروش ويرفع المتواضعين. القداسة في الكنيسة، في الواقع، ليست صفة مميّزة واستثنائيّة لبعض الأفراد الذين ترفعهم الكنيسة إلى المذابح، بإعلان تطويبهم أو تقديسهم. إنّها صفة كل المسيحيّين الذين اعتمدوا ولبسوا المسيح فأصبحوا أعضاء فاعلين في جسده السّرّيّ، يستمدون منه الحيويّة ويمدّون بها سائر الأعضاء فينمو الجسد بصورة متكاملة حتى يبلغ هذا الجسد ملأه. الأمر الاستثنائيّ وغير الطّبيعي هو عدم القداسة الذين نحن سببه عندما نقرر أن نبني ذاتنا بدون الله وضده، ونحاول أن نعيش حياتنا خارجًا عنه، معتقدين، مثل الإبن الشّاطر، أنّنا نحقق سعادتنا خارجًا عن البيت الأبويّ، في البحث عن الملذّات والغنى والثّروات، لكنّنا في النّهاية نكتشف عرينا ومحدوديتنا، فنقوم ونرجع إلى بيتنا الأبويّ. القدّيس نعمةالله هو مثال عن الإنسان المؤمن الذي تقدّس بحياته اليوميّة الطّبيعيّة، بالصّلاة والعمل والحياة المشتركة، فحافظ على حياة الله فيه ولم يستسلم إلى مغريات العالم، بل عاش قريبًا من الطّبيعة، يصغي إلى كلام الله ويعمل به، يعمل في الأرض وفي تجليد الكتب فيجبل الأرض بعرقه ويستثمرها بتعب زنوده، فيصبح مرجعًا وقدوة للفلّاحين والمؤمنين، فيأخذون من حياته أمثولة لهم.
إنّه إنسان عاديّ بسيط من هذا الجبل اللّبنانيّ الذي تميّز أبناؤه منذ القديم بحياة التّقشف والأمانة والعمل الدّؤوب، ففتتوا الصّخور وجعلوا الأرض تعطي الثّمار بوفرة. فكم نحن بحاجة اليوم للعودة إلى أصالتنا والمحافظة على أرضنا والعمل فيها واستثمارها، إذ أنّ الرّبّ قال لنا عندما خلقنا وأعطانا الحياة: أنموا وأكثروا وإملأوا الأرض وأخضعوها وسيطروا عليها(تك1/28). نعمةالله هو شاب من قرية من قرانا اللّبنانيّة الجبليّة، سمع صوت الطّبيعة وصوت الرّبّ يناديه فقال كصموئيل: تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يصغي، فقام وترك بيته وقريته وأهله وذهب ليعيش في الدّير، منفّذًا قول المسيح: من كان أبوه وأمّه أحبّ إليه منّي، فلا يستحق أن يكون لي تلميذًا. مرّات كثيرة، في عقليتنا المعاصرة التي تسعى فقط إلى الفعاليّة المادّيّة والانتاجيّة، نطرح على أنفسنا وعلى غيرنا سؤالًا نعتبره منطقيًّا فنقول: "ما معنى الحياة التي يعيشها الرّاهب والمتوحّد والنّاسك، وما هي الفائدة التي يجنيها منه المجتمع؟ معتبرين أنّ الفعاليّة الانتاجيّة وحدها هي التي تساعد وتساهم في تقدّم المجتمع ورقيّه: فيأتينا الجواب قاطعًا، ولو بعد سنوات طويلة.
إنّنا بدورنا نطرح السّؤال على المشكّكين والمنتقدين للذين يكرّسون حياتهم لخدمة الرّبّ في الحياة الرّهبانيّة مثل شربل والحرديني، فنقول: من منّا يعرف، إلّا الباحثون في كتب التّاريخ، من كان الكبار والحكّام والأغنياء والمقتدرين في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر؟ من منّا كان يعرف عنّايا وكفيفان وحردين لولا شربل ونعمةالله، إلا أبناؤها وأبناء القرى المجاورة؟ لقد أصبحت اليوم مراكز سياحيّة، اجتماعيًّا ودينيًّا تضاهي الكثير من المراكز السّياحيّة الدّينيّة في العالم. إنّنا نتوجّه بالشّكر لك أيّها العزيز حبيب على هذه المبادرة، ببناء هذه الكنيسة على اسم القدّيس الحرديني، ونطلب لك من الله بشفاعته الصّحّة والعافية، الشّكر لك على كل ما تقوم به من أعمال خيّرة في خدمة الكنيسة ولبنان، كما نتمنّى التّوفيق في الحياة الزّوجيّة لأبنائك وبناتك وبصورة خاصّة لإبنك الذي سيتكلّل قريبًا في هذه الكنيسة".
وبعد العظة، كرّس بو جوده المذبح بالميرون المقدّس، ليتابع بعدها القدّاس الاحتفاليّ.