القداسة والقدّيسين
"نعيّد في هذا اليوم المبارك الأحد الأوّل بعد العنصرة لجميع القدّيسين، الذين سبقونا وكانوا في حياتهم قدّيسين مثلنا، ووصلوا إلى نهاية نموّهم في هذه القداسة في قلب الله.
الكنيسة تكرّم أولئك الذين تعرفهم ولكن ثمّة آخرون تجهلهم، فلذلك تقيم الكنيسة تذكار جميع القدّيسين. لمرّة واحدة في السّنة المعروفين منهم والمجهولين الذين عاشوا قبل وبعد المسيح من آدم حتّى اليوم.
هؤلاء رقدوا في الصّلاح بالأعمال الصّالحة مادحين ومطوّبين إيّاهم ومتضرّعين إليهم ليشفعوا فينا أمام الله.
هم دخلوا ملكوت السّماوات بالأعمال الصّالحة والجهاد والاعتراف باسم المسيح، علينا أن نقتدي بهم، أيّ أن نفعل مثلهم.
هؤلاء القدّيسون علّمونا الكثير من الدّروس الرّوحيّة سيّما كانوا بشرًا ضعفاء مثلنا، تعرّضوا لأشدّ العذابات، فمنهم من تألّم في سيرة توبته للتّطهّر من دنس الخطايا ومنهم من تألّم في امتحان إيمانهم، ومنهم من تألّم في اعترافهم بالمسيح حتّى موت الشّهادة. جميعهم تألّموا لمجد الله وهم بذلك مصدر قوّة لنا في آلامنا.
هم عرفوا كيف يقدّسون الطّبيعة البشريّة في المسيح بالرّوح القدس الذي لا وجود لتقديس بدونه كما يؤكّد القدّيس باسيليوس الكبير، ولذلك هم قدوة لنا في كلّ الأحوال.
في هذا الخصوص يقول القدّيس يوحنّا فم الذّهب: "قدّيسينا كانوا أوّلًا في عداد الخطأة ولكن إذ جعلوا حبّ الله تلك الحميّة التي كانوا قد جعلوها في حبّ الشّرّ، إذ حُرضوا بذكر زلّاتهم وتطهّروا في نار التّوبة، كانوا نفوسًا أشدّ نقاوة ممّا قبل السّقوط .
هل ترغبون بأن تكونوا كاملين إذًا افعلوا ما فعله الرّسل القدّيسين؟
بعد أن أعطى يسوع المسيح للرُّسُل سلطاناً على طردِ الشياطين وشفاء أمراض البشر، قد قال لهم: "هوذا، إنّي مُرسِلُكم كغنمٍ في وسط الذّئاب. لا تخافوا، بل بشِّروا بالإنجيل بجرأة، وعلِّموا كلَّ واحدٍ أن يؤمن بي في قلبه ويعترف بي بفمه، لأنَّه مَن يعترفُ بي قدَّام النّاس بأنِّي أنا هو المسيح، ابن الله، فسأعترف أنا بهِ قدَّامَ أبي الّذي في السّماوات، بأنَّه تلميذيَّ الأمين."
ولذلك لا ينبغي لنا أن نخاف حتَّى من الموت، وإنَّما يجب علينا أن نعترف بالمسيح بغير خوف. ولذلك احتمل القدِّيسون كلَّ هذه الآلام وسفكوا دماءهم فقط من أجل ألّا ينكروا المسيح، لكنَّهم وفي ساعة موتهم قد وقفوا بشجاعةٍ أمام الملوك والمضطهدين مخبرين إيَّاهم، بأنَّ المسيح هو ابن الله والإله الحقيقيّ مخلِّص العالم.
لكنّ الويل لذلك الإنسان، الّذي قد ينكر المسيح - سواء أكان من أجل المال أو من أجل المجد، أم من الخوف أو من جرَّاء خطر الموت - لأنَّه لن يتمكّن من نوال الخلاص. من الأكيد أنّ لا سبيل إلى تحسّن أوضاعنا إلّا عبر الاقتداء بقدّيسي الله هكذا يعلّمنا القدّيس يوحنّا فم الذّهب حين يقول: "يا لكم ستكون شؤوننا أفضل حالًا لو كنّا نقتدي بالأتقياء."
إذًا لا يكفي أن نقرأ سير القدّيسين بل علينا أن نحاكي سيرهم وأن نكرّمهم عبر الاقتداء بهم تمجيدًا للرّبّ قدّوس القدّيسين الوحيد الذي يقدّسهم والذي يدعونا نحن أيضًا لنكون محلًّا لقداسته.
هنا قاعدة إيمانيّة يجب أن ننتبه إليها وهي إكرام القدّيسين بالاقتداء بهم لا عبادتهم بالمعتقد. لأنّ العبادة لا تجوز إلّا لله. أمّا القدّيسون فنكرّمهم ونوقّر أيقوناتهم وبقاياهم، ونطلب شفاعتهم لأنّهم عبدوا الله عبادة لائقة بمجده ليكونوا لنا ذخيرة قدوة في عبادة الله.
نحن أمام خياران: إمّا أن نكون أنصاف البشر كائنات مجرّدة من إنسانيّتها، وإمّا أن نحيا الحياة الحقيقيّة التي تجعل الإنسان إلهيًّا قدّيسًا بواسطة نعمة الرّوح القدس التي حلّت في الأحد الماضي علينا جميعًا. لأنّ القداسة هي نضوج ثمرة الرّوح القدس في الإنسان.
إذًا نحن نصير قدّيسين إذا أردنا ذلك، هذا هو المطلوب من كلّ المسيحيّين فانطلاقًا من موافقتنا يستطيع الرّوح القدس كلّ شيء بأن يجعلنا قدّيسين وبدون موافقتنا لا يستطيع شيئًا.
لهذا يجب أن نقول نعم أن نسمح أو نريد الرّوح القدس أن يدخل ويسكن في قلبنا وأن نقرر بأن نختار يسوع أو أمّا أنا. وهنا غلطتنا التي تؤدي بنا دائمًا إلى الموت بطريقة او بأخرى. أمّا هو (أيّ يسوع) متى اخترناه هو، نستعيد الشّركة مع القدّيسين أيّ مع الكنيسة التي يبدأ منها ملكوت الله.
لذا بمقدار ما تتلقّون كلّ واحد منكم الرّوح القدس تكونون وتصبحون في شركة مع الله وقدّيسيه. ألم تلاحظون في القدّاس الإلهيّ عندما يقول الكاهن في بداية الكلام الجوهريّ: "نعمة ربّنا يسوع المسيح ومحبّة الله الآب وشركة الرّوح القدس فلتكن مع جميعكم".
لهذا القداسة هي وصيّة وليست خيارًا. خلال القدّاس إذا عشتم من الرّوح القدس كمن ينبوع حياتكم فستحيون بشركة الإلهيّة وهذه الشّركة الإلهيّة هي التي تصنعكم قدّيسين. بمقدار ما تكونون في الشّركة الإلهيّة بمقدار ما تكونون قدّيسين كاملين.
أخيرًا اطلبوا إلى الرّوح القدس الذي يحلّ عليكم في كلّ القدّاس الإلهيّ أن يجعل منكم جسد المسيح الإلهيّ لتصبحوا إلهيّين. آمين."