العبسيّ يعلن رسالة الفصح للعام 2020، ومضمونها؟
"المسيح قام. يعزّ علينا أن نطلق هذه الصّرخة التي ننتظرها من عام إلى عام في كنائس خلت منكم أيّها الأبناء والبنات الأحبّاء حيثما كنتم. المسيح قام. يعزّ علينا أن نطلق صرخة الإيمان والانتصار التي قضينا خمسين يومًا نتهيّأ لها في الصّلاة والصّوم وليس في كنائسنا من يردّ علينا حقًّا قام. يعزّ علينا أن نرنّم المسيح قام من بين الأموات، "خريستوس آنستي"، ولا نسمع أصواتكم تهدر بها معبّرةً عن شدّة فرحكم. يعزّ علينا أن لا تتمكّنوا من الحصول على زيت التّائبين ولا على المناولة الفصحيّة، على جسد الرّبّ يسوع المسيح مخلّصنا ودمه المقدّسين، في فصحه، في ذكرى موته وقيامته. نعم، إنّ احتفالنا تشوبه في هذا العام غصّة في القلب، فالكنائس فارغة من المؤمنين، وليست من المؤمنين وحسب بل أيضًا وخصوصًا من أطفالنا الأحبّاء. أولئك الأطفال الذين يرسمون لنا علامة الرّجاء والفرح بنضارتهم، بنقاوتهم، ببراءتهم، بابتساماتهم، بتغريداتهم، أولئك الأطفال الذين يذكّروننا بأنّ ملكوت السّماوات لهم ولأمثالهم، بأنّ المستقبل لهم، المستقبل الذي نرجو أن يكون أكثر إنسانيّة، أكثر تضامنًا وتراحمًا وتحابًّا بحيث تتناقص وإن أمكن تزولُ الفروقات بين النّاس، وبحيث يقوم عالم جديد، عالم العدالة والمساواة والسّلام والفرح، فالأرض فيها متّسع وخيرات لجميع قاطنيها. سكت أطفالنا هذا العام إلّا أنّ الحجارة تتكلّم. حجارة كنائسنا تصدح بأصواتهم التي اختزنتها سنة بعد سنة وترنّم "حقًّا قام".
في هذا العام أدركنا بإحساس خاصّ معنى الصّليب الخلاصيّ والقيامة المحيية وارتباط أحدهما بالآخر. دخلنا أسبوع الآلام المقدّسة الخلاصيّة بجوّ من الفرح والسّلام الدّاخليّين، لا بحزن ولا بخوف، لأنّ السّيّد بموته على الصّليب وقيامته في اليوم الثّالث غلب الموت وأدخل إلى قلوبنا الرّجاء والإيمان بأنّه منتصر على الألم والشّرّ. وكم نحن في حاجة إليهما، إلى الرّجاء والإيمان، في هذه الأيّام العصيبة التي نعيشها في الألم، في القلق والخوف من وباء الكورونا الذي اجتاح العالم. في هذه الأيّام نستذكر كلام القدّيس بولس إلى أهل رومة: "إنّ الشدّة تنشئ الصّبر، والصّبرَ الفضيلةَ المختَبَرة، والفضيلة المختبرة الرّجاءَ، والرّجاءُ لا يُخزي لأنّ محبّة الله قد أُفيضت في قلوبنا بالرّوح القدس الذي أُعطيناه" (روم5: 3-5)، ونستذكر أيضًا كلامه الثّاني إلى أهل كورنثس:"إنّ الله يجعل أيضًا مع التّجربة مخرجًا". (1كور10:13). فنحن نؤمن بأنّ الله خلق العالم حسنًا جميلاً ولن يقبل به إلّا كذلك. العالم هو عالم الله قبل أن يكون عالم الإنسان. والله يحبّ عالمه فكيف يدعه يهلك والإنجيليّ يوحنّا يقول: "لقد أحبّ الله العالم حتّى إنّه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. فإنّ الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص العالم" (يوحنّا3: 16-17).
هذه الذّكرى الغالية على قلوبنا، ذكرى قيامة ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح من بين الأموات، تطلّ اليوم علينا والعالم كلّه في صراع مستميت مع الوباء الذي حلّ به، يزرع الموت ويروّع ويقضّ المضاجع، والنّاس في حيرة وضياع كأنّهم للمرّة الأولى يظهر بغتةً على أبوابهم، في بيوتهم، في مصانعهم، في مدارسهم، في مشافيهم، في مؤسّساتهم، في شوارعهم، عدوّ اسمه الموت، يطاردهم من مكان إلى مكان، يخبط خبط عشواء، فتجنّدوا له بكلّ ما أوتوا من قوى وإمكانات علميّة وتكنولوجيّة وغيرها. بغتة ظهر مثلُ شبح فجّر صراعًا بين الحياة والموت. أجل، نحتفل اليوم بعيد قيامة الرّبّ يسوع والعالم يشهد الصّراع بين الحياة والموت، الموت الذي يبدو أنّ النّاس نسُوه في غمرة انشغالاتهم بأمور الحياة، بركضهم المحموم وراء معيشتهم، بانجرافهم القويّ إلى الأفكار الإلحاديّة من مادّيّة وعبثيّة ولاأدريّة وغيرها، مغلقين على أنفسهم كلّ نافذة قد تُدخل إليهم نورًا من عالم آخر أو حتّى تذكّرهم أو توحي إليهم بوجود عالم آخر غيرِ الذي هم فيه.
يعود عيد قيامة السّيّد المسيح في هذا العام، عام الكورونا، ليذكّرنا نحن المؤمنين بنوع خاصّ، من بعد ما رأينا ونرى كيف يتعامل النّاس في أجوائه، كيف يتولّاهم القلق والهلع، بأنّ الموت ليس أمرًا عاديًّا وخاتمةً طبيعيّة للإنسان ما بعدها شيء، وهو ليس أمرًا لا يستحقّ ولا يستدعي الاهتمام والتّفكير وشغل البال، بل الموتُ عدوّ البشريّة الألدّ والأقوى. بيد أنّ العيد يطلّ علينا أيضًا وكما في كلّ عام ليذكّرنا بأنّ السّيّد المسيح بقيامته من بين الأموات قد قضى على الموت قضاءً نهائيًّا وتامًّا ، قضى على هذا العدوّ الذي يسمّيه القدّيس بولس العدوّ الأخير بقوله إلى أهل كورنثس: "لا بدّ أن يملك [المسيح] ’إلى أن يضع جميعَ أعدائه تحت قدميه‘، وآخرُ عدوّ يُلاشى هو الموت" (1كور15: 26). عيد اليوم يذكّرنا بأنّ الكلمة الأخيرة ليست للموت بل للحياة، ليسوع المسيح الذي هو القيامة والحياة. فالله إله أحياء لا إله أموات (متّى22: 32). لم يقل الله للإنسان "كن" ليموت من ثمّ بل ليحيا إلى الأبد. والموت مهما قويت شوكته هو مائت لا محالة: "لقد ابتُلِع الموتُ في الغلبة. أين غلبتُكَ أيّها الموت؟ أين شوكتُكَ أيّها الموت؟" (1كور15: 54-55)، يصرخ الرّسول بولس.
فالكلمة التي يقولها لنا الرّبّ يسوع في يوم قيامته هذا هي إذن كلمة رجاء، كلمة تبعث وتوقد فينا الرّجاء، كلمة تمدّنا بالقوّة على محاربة الموت بكلّ أشكاله، وما أكثر هذه الأشكال في عالمنا، تحيط بنا وتحاربنا وتتغلغل في حياتنا. فالكورونا الذي يضربنا في هذه الأيّام ليس الوباء الوحيد والأخطر.
هناك الموت فيما بين العلاقات البشريّة، العلاقاتِ بين الأفراد، العلاقات بين أعضاء الأسرة، العلاقات بين أفراد الرّعيّة، العلاقات بين المجتمعات، العلاقات بين الدّول. كثير من هذه العلاقات تسرّب إليها الموت إذ قد طغت عليها وأفسدتها الأنانيّة والفرديّة والعصبيّة والعدائيّة وكادت تقضي عليها زارعة الموت فيها. وقد رأينا مع الأسف في أزمة الكورونا مثالاً على ذلك، رأينا دولاً تمتنع أن تساعد دولاً أخرى في حاجة ماسّة لأنّها ليست من سياستها أو لا تأتمر بأوامرها أو حتّى لأنّها في نظرها لا قيمة لها، ورأينا أفرادًا تركض للاستئثار بأشياء حياتيّة وكأنّ الغير ليس له الحقّ في العيش والحياة. تدعونا قيامة الرّبّ يسوع إلى ترميم هذه العلاقات، إلى الثقة بعضُنا ببعض. تدعونا القيامة إلى النّظر إلى الآخر على أنّه أخ وصديق لا عدوّ أو خصم. تدعونا القيامة إلى أن نحبّ العالم كما أحبّه السّيّد. بهذا يُعرف أبناء الله، كما يقول القدّيس أوغسطينوس، وهو "أن من لم يَرْعَ العدل ولا يحبّ أخاه ليس من الله. فالمحبّة إذًا وحدها هي العلامة الفارقة لأبناء الله ضدّ أبناء الشّيطان." نشعر اليوم كم نحن في حاجة أن نعيد للعائلة، للمدرسة، للرّعيّة أهمّيتها ومكانتها ودورها في مجتمعاتنا لأنّها بيئة صالحة لنسج العلاقات الطيّبة والجيّدة.
وهناك الموت في علاقاتنا مع الله تعالى، بل بالحريّ موت الله في حياتنا نحن البشر. موت الإيمان. قضينا على الله، على كلّ ما يذكّرنا به أو يربطنا به، أو يحيلنا إليه، وأقصيناه من حياتنا، وقضينا بالتّالي على البعد الرّوحيّ والإنسانيّ في حياتنا. وفجأة، إذ باغتتنا الكورونا، استغربنا كيف الحال هكذا، شعرنا بضرورة الصّلاة والعودة إلى الله، شعرنا بضرورة الله في حياتنا إذ شعرنا كم نحن ضعيفون وسريعو العطب. جرثومة غير مرئيّة بالعين المجرّدة قضّت علينا مضاجعنا وزرعت فينا القلق والخوف. إلّا أنّنا في يوم قيامة السّيّد المسيح من بين الأموات نشعر بأنّنا أقوياء بالرّغم من كلّ ضعفنا، مجدّدين إيماننا بالله وبقيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات.
يشكّك البعض، كثيرين أو قليلين، بقيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات، والبعض ينفيها نفيًا قاطعًا ويعدّها خرافة. صحيح، فالقيامة جمالها شديد بحيث إنّها تبدو ضربًا من الخيال. وأوّل من شكّك الرّسل أنفسهم (متّى28: 17؛ مرقس15: 11)، وفي مقدّمتهم توما الذي جاهر بشكّه وطلب براهين ملموسة مقنعة، بل يقول الإنجيليُّ لوقا كان عندهم كلام النّسوة اللواتي بشّرنهم بقيامة يسوع "بمنزلة الهذيان" (لوقا24: 11)، حتّى إنّهم، يردف لوقا، لـمّا "وقف [يسوع] هو نفسه في وسْطهم وقال لهم’السّلام لكم‘ أخذهم الدّهش والذّعر وظنّوا أنّه خيال" (لو324: 36-37). أجل، جمال القيامة الشديد يبعث على الشكّ بها وإنكارها. ومارصدّق الرّسل وآمنوا إلاّ بعد أن رأوا وسمعوا ولمسوا يسوع القائم من بين الأموات وشاهدوا القبر الفارغ. ولذلك استطاعوا أن يبشّروا بيسوع القائم بقوّة وجرأة وعقيدة حتّى إنّهم بذلوا حياتهم من أجله. ولكن إن كنّا نحن لسنا معتادين أو قادرين على رؤية الجمال الشّديد فلا يعني ذلك أنّ هذا الجمال غير موجود. إنّما لكي نراه يجب أن تكون لنا عين من نوع آخر هي عين الإيمان. وأصحاب هذه العين هم الذين سمعوا البشارة من الرّسل، هم نحن الذين سبق يسوع وطوّبهم بقوله: "طوبى للذين لم يروا وآمنوا"، هم نحن الذين قال عنّا يوحنّا في إنجيل اليوم: "أمّا جميع الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله. هم الذين آمنوا باسمه، الذين لم يولدوا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يوحنّا1: 12-13). هؤلاء، ونحن منهم، قلبوا المعادلة، إذ قد صار إيمانهم، بما يرتّب من حياة إنجيليّة صافية، هو البرهانَ على القيامة وليس العكس.
هذه هي القيامة الجميلة التي نحتفل بها اليوم والتي قال عنها بولس الرّسول للّذين كانوا يتردّدون في الإيمان بها أو يشكّكون حتّى منذ أيّامه: "إن كان المسيح لم يقم فكرازتنا إذن باطلة وإيمانكم أيضًا باطل...رإيمانكم باطل وأنتم بعد في خطاياكم". (1كور15: 14-17). يعني أنّه لا إيمان مسيحيّ ولا دين مسيحيّ ولا مسيح ولا خلاص من دون قيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات. القيامة هي للإيمان المسيحيّ ختم الصّدق وضمانة الصّدق بحيث إنّها كانت الموضوع الوحيد من إنجيل يسوع في بشارة الرّسل، وبحيث إنّنا نستطيع نحن أن ننعتها بِال"بينغ بانغ" الذي فجّر الحياة المسيحيّة إلى مدًى وزمان غير متناهيين لا وِسع لهما، إلى ما تسمّيه الليتورجيّا بعبارة بسيطة "النهار الذي ليس له غروب أو مساء"، أو أيضًا "الملكوت" الذي وعد الربّ به اللصّ وافتتحه معه وهو بعد على الصليب.
اليوم يأتي يسوع المسيح القائم إلى مدننا وبلداتنا وأحيائنا راغبًا في أن يلحق بنا في قلب حياتنا ومقدّمًا لنا ذاته على أنّه هو الذي يستطيع أن ينقذنا من كلّ عبوديّاتنا، من الشرّ والخطيئة، من الحقد والاستعباد، من الكبرياء والامتلاء من الذّات، من العتمة والظّلمة، هو الذي يستطيع أن يجعل منّا صنّاعَ حياة أكثر إنسانيّة، وأن يفتح لنا آفاقًا إلهيّة، أرضًا جديدة وسماوات جديدة. اليوم يأتي الرّبّ يسوع إلينا متواضعًا حاملاً الخلاص بقيامته التي نحتفل بها. فلنفتح له بيوتنا ولنفرش له قلوبنا ولنهلّل له. ليكن له في كلّ بيت محلّ تجتمع العائلة إليه ويضيء هو منه عليها، اليوم وبعد اليوم، أكانت الكنائس مغلقة أم مفتوحة. لكنّ الكنائس أيّامُ إغلاقها لن تطول. وسوف نعود نلتقي فيها لأنّ الله ارتضاها مسكنًا له ولأنّها مكان لقاء العريس، الرّبّ يسوع، بكنيسته، بالجماعة المسيحيّة، فصلاة الجماعة المسيحيّة في الكنيسة لها أساسها وما من صلاة أخرى تحلّ محلّها أو تلغيها. وما أكثر أبناءنا الذين يتشوّقون إلى الصّلاة في الكنائس في هذه الأيّام الصّعبة عينها.
في هذه الأيّام والمواسم الخلاصيّة المحيية نصلّي بعضنا من أجل بعض. نصلّي من أجل أن لا تطول جائحة الكورونا التي نزلت بالعالم، من أجل المصابين أن يشفيهم الرّبّ الإله وأن يرحم من رقد منهم، ومن أجل جميع الذين هبّوا لدرء الخطر الدّاهم من أطبّاء وممرّضين وعلماء ومعنيّين وتقنيّين ومؤسّسات وحكومات ومسؤولين وغيرهم أن يبارك الله عملهم، من أجل بلادنا ومن أجل العالم كلّه أن يتمكّن من التّغلّب على الوباء بعمل مشترك ومتضافر وبقلب واحد وعزيمة واحدة وفي عمل محبّة شاملة لا تعرف حدودًا أيًّا كانت، من أجل كلّ واحد منّا أن يستخلص عبرة ويرى ما في وسعه أن يقدّم من مساعدة للتّخفيف من المعاناة. نصلّي من أجل أن يحلّ في بلادنا كلّها الأمان والمسالمة والاستقرار والازدهار. نصلّي من أجل العالم أجمع لكي يعمّ فيه السلام والعدالة.
ومع الصّلاة لا ننسى الغفران، أن نغفر بعضنا لبعض. هذا الغفران تُعلّمنا الكنيسة في صلوات العيد أنّه نبعَ من القبر. نبعَ الغفرانُ من القبر دافنًا فيه صراعاتنا وخلافاتنا، صعوباتنا ومشاكلنا، متاعبنا وهمومنا، مراراتنا وخيباتنا، خطيئتنا وضعفنا... دافنًا الموت. ولننشد مع الكنيسة برجاء وإيمان، بفرح ونشوة، بتفاؤل وعزيمة قائلين: "اليوم يوم القيامة فلنتفاخر بالموسم أيّها الإخوة. ليصافح بعضنا بعضًا، ولنصفح لمبغضينا عن كلّ شيء في القيامة، ولنهتف قائلين’المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور."