لبنان
13 آب 2019, 07:52

العبسيّ لشبيبة كنيسته: لا تكونوا متقوقعين!

إختتم بطريرك الرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ لقاء الشّبية الملكيّة في الشّرق الأوسط، في قدّاس احتفاليّ ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس بولس- حريصا، عاونه فيه لفيف من المطارنة والكهنة، وسط حضور رسميّ وروحيّ وأمنيّ وإعلاميّ، إلى جانب المشاركين في اللّقاء من دول الشّرق الأوسط، وجمع من المؤمنين.

 

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى العبسيّ عظة قال فيها نقلاً عن "الوكالة الوطنيّة للإعلام": "في إنجيل هذا النّهار، يضعنا الإنجيليّ مرقس أمام جمهورين كبيرين متقابلين يلتقيان على باب المدينة: جمهور يرافق يسوع داخلاً إلى المدينة، وجمهور يرافق الأرملة خارجًا من المدينة. المدينة هي مكان الحياة. الجمهور الأوّل يسير مع يسوع ويدخل إلى المدينة مطرحِ الحياة والمجتمع الإنسانيّ، أيّ يدخل إلى الحياة، والجمهور الثّاني يسير مع الأرملة ويخرج من المدينة إلى القبر، مكان الموت، أيّ يخرج إلى الموت. الجمهور المرافق ليسوع يغمره الفرح والرّجاء بعد أن شاهد يسوع يشفي ابن قائد المئة، والجمهور المرافق للأرملة يغمره الحزن بعد أن شاهد موت ابنها. جمهور يسوع يحدوه الأمل والحماسة لأنّ الحياة انتصرت. وجمهور الأرملة يقعده اليأس والخمول لأنّ الحياة انتهت، لأنّ كلّ شيء انتهى. المرأة كانت قد خسرت زوجها وها هي تخسر ابنها، فما بقي لها رجاء بالحياة ولا معنى للوجود. وإذا بيسوع يمرّ ويأمر موكب الأرملة بأن يتوقف وكأنّه يقول للمرأة إلى أين أنت ذاهبة، أنت ذاهبة إلى الموت، وأنا أمنعك من أن تتابعي طريقك. كيف تذهبين إلى الموت وأنا هنا؟ فأنا القيامة والحياة. وأنا قادر أن أقيم ابنك وسأقيمه. إسمعي: "أيّها الشّاب لك أقول قم". على غير العادة لم يسأل يسوع المرأة هل تؤمن به قبل أن يجري لها المعجزة كما كان يسأل غيرها، كما سأل قائد المئة قبلها. رأى بؤسها وشقاءها وكان ذلك كافيًا لكي يمنح الخلاص والحياة لابنها ولها. لكن الإيمان لم يكن غائبًا هنا أيضًا إنّما جاء بعد عمل الخلاص، أتى نتيجة لقيامة الشّابّ، جاء على لسان النّاس: "لقد افتقد الله شعبه".
هكذا الخلاص يأتينا دومًا بطريقة مجانيّة من الله تعالى الّذي يريد أن يخلص جميع النّاس ويبلغون إلى معرفة الحقّ. والإيمان، أكان قبل المعجزة أو بعدها، لا يعلو على محبّة الله المجانيّة في إجراء الخلاص، فالله يحبّنا بغض النّظر عن استحقاقنا لهذا الحبّ أو لا، وقد صالحنا مع ذاته بيسوع المسيح ونحن بعد في خطيئتنا، كما يقول القدّيس بولس.
"أيّها الشّابّ لك أقول قم". بهذه العبارة، بهذا الأمر، بهذه الصّرخة، يطلب الله منّا أن نثق به بلا شكّ، أن نثق بأنّه المخلص والمانح الحياة. إلّا أنّه يطلب منّا أيضًا أن نثق نحن بأنفسنا، بقدرتنا، بذكائنا، بإمكاناتنا. يطلب الله منّا أن لا نقبع قاعدين بل أن نتحدّى الضّعف بالقوّة، والفقر بالعمل، واليأس بالأمل. بهذه العبارة، "لك أقول قم"، يقول الرّبّ يسوع لنا، يقول لكلّ واحد منّا، أنت شابّ رائع وعظيم، أنت شابّة رائعة وعظيمة، في مستطاعك أن تصنع أشياء كثيرة عظيمة ورائعة. "لك أقول قم"، صرخة لا تهدف فقط إلى أن يقوم ذاك الّذي كان ميتًا في تلك اللّحظة بل أن يقوم في كلّ لحظة من لحظات حياته، أيّ أن يكون قوّة دائمة فاعلة خلّاقة مستمرّة، أيّ أن يكون ثائرًا، أن يكون ثورة مستمرّة، أن يصنع نفسه بنفسه، أن يقيم نفسه بنفسه.
"لك أقول قم". يعني كن قويًّا جبّارًا فرحًا متفائلاً، لا تستسلم لليأس ولا للإحباط إذا خانتك حبيبتك أو خانك حبيبك، أو فقدت عملاً، أو رسبت في امتحان، أو أخفقت في مغامرة أو تجربة، أو أقعدك مرض، أو غدر بك صديق، أو ضاقت بك الحال والدّنيا. إذا حصل لك شيء من هذا لا تعتقد أنّ كلّ شيء انتهى. مع يسوع لا تنتهي الأشياء بل تبدأ، لا تغرب الشّمس بل تشرق. يسوع يحبّك ويريد أن تكون سعيدًا ويفسح لك في المجال أن تكون كذلك.

نحن الكبار، عندما نقول لكم افعلوا هذا واتركوا ذاك غالبًا ما نكون نفكّر بأنفسنا، غالبًا ما نريد أن تكونوا مثلنا، أن تفكّروا مثلنا، أن تحسّوا مثلنا، أن تتصرّفوا مثلنا. نريد منكم أن تكونوا كبارًا لا شبابًا، ألّا تعيشوا شبابكم. نريد منكم، ربّما بفعل أنانيّة غير واع، بعد أن عشنا نحن شبابنا، ألّا تعيشوا أنتم شبابكم. في حينِ نرى يسوع يقول لكلّ واحد منكم "لك أقول قم"، أيّ اختر أنت شبابك، عش أنت شبابك. "لك أقول قم". يسوع يقول لك أنا لا أقيمك بل أعطيك القوّة على أن تقوم أنت بذاتك. قم وتحمّل المسؤوليّة وسرّ حيث تشاء. أنا أساعدك لكنّي لا أستطيع أن آخذ القرار عنك وأن أجلس مكانك. أنت حرّ وأريدك أن تتصرّف كشابّ حرّ يأخذ مستقبله بيده، يصنع هو نفسه مستقبله وحياته.
إنّ الثّقة بالله والثّقة بالذات لا تنفيان القلق. القلق مرافق لحياتنا. القلق الوجوديّ النّاجم عن جهل بالمستقبل أو بالغد أو بالآتي. هل أفقد ثقة حبيبتي ومحبّتها؟ هل ينهار زواجي؟ هل أطرد من عملي؟ هل أفقد عزيزًا؟ هل من حياة بعد هذه الحياة؟ قد يستطيع البعض منكم أن يخفي هذا القلق أو يتناساه بعيش اللّحظة الحاضرة أو باللّامبالاة، إلّا أنّه لا يستطيع أن يمحوه من حياته. وإذا ما قال لك يسوع "قم"، لا تعتقد أنّك لن تصادف من بعد ذلك صعوبات ومشاكل وهمومًا. عندما شفى المخلّع المقعد قال له "قم احمل فراشك وامشِ". لم يقل له "اترك فراشك وامشِ". الفراش الّذي يرمز إلى صعوبات الحياة سوف نظلّ نحمله إلّا أنّه لن يُقعدنا ولن يدعنا عاجزين من بعد. ستظلّ حاملاً الفراش ما دمت على الأرض. لا تخف مع ذلك بل تابع السّير، تابع المشي. لا تدع الخطيئة ولا الشّرّ ولا كلّ أشكالهما، يسيطران عليك، يُقعدانك. سرّ عكس الأهوية والأمواج. أنا أعطيك الفرصة لتكون سعيدًا فجاهد للحصول عليها. أنا أدلّك على طريق السّعادة وعليك أن تختارها وتمشي عليها بإرادتك. الكلام على القدر هروب. القدر لا وجود له. أنت الموجود. أنا أعطيك قوّة أكبر من قوّة ذاك الّذي تقول إنّه قدر. قدرك أنّه لا يستطيع أحد أن يحلّ محلّك في صنع حياتك ومستقبلك.
لم يأت يسوع ليشاكسك، ليعاكسك، بل ليصادقك، ليرافقك في الطّريق إلى السّعادة، إلى الحرّيّة. إنّه الصّديق. إنّه الرّفيق الّذي لا يطلب مقابلاً لصداقته أو محبّته. إن كان يطلب شيئًا فلصالحك. إن قال لك لا تسرق أو لا تزنِ فليس من أجل مصلحته بل من أجل مصلحتك. إن سرقت أو زنيت لا تضرّه في شيء، لا يناله سوء أبدًا. أنت هو الّذي يناله السّوء والضّرر. إن كنت تعتقد أنّك تسيء إلى الله بخطيئتك فأنت مخطئ. الله يخاف عليك من خطيئتك، يتألمّ ألم الأب على وجع ابنه، إلّا أنّه لا يناله سوء من جرّاء خطيئتك. أنت هو من يناله سوء. يسوع بموته وقيامته أعطاك القدرة على أن تتحرّر من الخطيئة، من كلّ ما يذلّ ويشوّه إنسانيّتك، من أن تكون ميتًا وأنت بعد على قيد الحياة. وأنت وحدك تختار بين أن تكون مع موكبه أو أن تكون مع موكب الأرملة.
أتيتم من بلدان عديدة إنّما أتيتم من كنيسة واحدة. أنتم كنيسة جامعة تؤمنون بأنّها تنتمي إلى كنيسة جامعة، أيّ كنيسة لا حدود لها أيّا كان شكل هذه الحدود. حضوركم الآن معًا هو الدّليل القاطع على ذلك. لا تكونوا متقوقعين. لا تنقادوا للعصبيّة. إنفتحوا بعضكم على بعض. إقبلوا واستقبلوا بعضكم بعضًا. وسّعوا قلوبكم وعقولكم. ساعدوا بعضكم بعضًا. تضامنوا بعضكم مع بعض. بهذا افرحوا وافتخروا وتمسّكوا، وإلّا فأنتم كنيسة لا قابليّة فيها للحياة. في هذه الأيّام العصيبة الّتي تمرّ بها بلادنا قد يكون لنا شعور بأنّنا في نفق لا نرى نهايته، شعور بالموت، شعور بأنّ كلّ شيء انتهى، كأرملة الإنجيل. إلّا أنّ رجاءنا المسيحيّ يحثّنا على ألّا نستسلم، على أن نختار الحياة لا الموت، كما نقرأ في سفر تثنية الاشتراع: "قد جعلتُ أمامكم الحياة والموت، البركة واللّعنة، فاخترِ الحياة لكي تحيا أنت ونسلك".
منذ يومينِ ابتدأنا لقاءنا واليوم ننطلق ويبدأ المسير. فماذا نختار؟ إلى أين ننطلق؟ ومع من نسير؟ هل نسير مع الأرملة الحاملة الشّابّ الميت إلى الموت أم نسير مع يسوع القائم من بين الأموات إلى الحياة؟ لقد اخترتم موكب المسيح، اخترتم طريق الحياة الّتي إنّما جاء المسيح لكي تفيض فينا. اخترتم أن تبقوا شبابًا. فاذهبوا وازرعوا الشّباب في بيوتكم وفي رعاياكم وحيثما كنتم. ولكلّ من تصادفونه في مسيركم ردّدوا شعار شبابكم: "لك أقول قم".
في ختام كلمته الرّوحيّة، شكر العبسيّ كلّ من سعوا لإنجاح اللّقاء والمشاركين الشّباب الّذين بحسب قوله جعلوا "من هذا اللّقاء عيدًا كبيرًا جميلاً، عيدًا ملكيًّا".
بعد القدّاس، ألقى زير البيئة فادي جريصاتي كلمة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، قال فيها: "أيّها الشّباب والشّابّات، ما أجمل الّلقاء مع مستقبل وطننا. هذا ما تمثّلونه أنتم الشّباب بالنّسبة إلينا، نحن الجيل السّابق الّذي نعمل من أجل أن نسلّم لبنان إليكم بصورة أفضل.
لفتني عنوان لقائكم كشبيبة الرّوم الكاثوليك في الشّرق الأوسط والدّول العربيّة "لك أقول قم" وكأنّه يأتي ليجيب على هواجس ومخاوف كثيرة راودتكم في ظلّ فترة صعبة ودقيقة ومصيريّة عاشها الشّباب في هذه البقعة من العالم، وانتقلت عدواها إلى شباب الدّول في مختلف أصقاع الأرض.
لقد وثقت إلى حدّ الإيمان ولا أزال بقدرة الشّباب وبدورهم في المجتمع والحياة، ولذلك خصّصت لهم رسالة خاصّة بهم في شهر تمّوز الفائت، خاطبتهم فيها بلهجة تحاكي قلقهم على الوطن والصّعوبات الّتي يعيشها، والّتي يمكن تخطّيها إذا ما صفت النّوايا واجتمعت مع إرادة صلبة تميّز بها اللّبنانيّون على مدى التّاريخ.
وجودكم اليوم في هذا المؤتمر دليل على أنّ هذه الإرادة لم تمت وهي لا تزال نابضة بالحياة في قلب كلّ منكم، وتدفعه إلى عدم الاستسلام وعدم الاستماع إلى شائعات كاذبة في ثياب حقائق هدفها إبعادكم عن طريق الحياة والحوار والعلم والمعرفة والتّعرّف إلى الآخر، إنّ لقاءكم يدعوكم ليس فقط إلى النّهوض، بل إلى القيامة مع كلّ ما تحمله هذه الكلمة من معان روحيّة وفكريّة وجسديّة، وهي دعوة شخصيّة لكلّ منكم، ومن خلالكم إلى كل الشّباب الّذين عانوا من اضطهاد، ومن ظروف معيشيّة صعبة، ومن ممارسات الفكر الإرهابيّ المجرم. هذا هو جوهر الإيمان، آمنوا بالله وثقوا بقدراتكم، واعملوا بوحي المداميك الثّلاث الّتي تحمي الوطن: حقّ الاختلاف، حرّيّة المعتقد والرّأي، وحرّيّة التّعبير، فتكسبوا أنفسكم ونكسب مستقبلاً زاهرًا للبنان.
إنّ اعتمادي على إطلاق "أكاديميّة الإنسان للتّلاقي والحوار" الّذي آمل تبنّيه رسميًّا خلال الدّورة العاديّة للجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة في أيلول المقبل، هو عليكم بالدّرجة الأولى، لأنّكم أساس هذا التّلاقي والحوار، ومن دونكم تفقد الأهداف معناها الّتي وضعتها لهذه الأكاديميّة.
هنيئًا لكم لقاءكم، وهنيئًا لكم رعاية غبطة البطريرك يوسف العبسيّ لأعمالكم، ونتطلّع إلى أن تهنّئوا بعضكم بعضًا بلبنان الّذي تتطلّعون إليه جميعًا وطن قداسة ومهد الحوار والتّلاقي بين الحضارات والثّقافات".
من جهته، شدّد نائب رئيس المجلس الأعلى للطّائفة ميشال فرعون ممثّلاً رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري على أهمّيّة هذا اللّقاء، آملاً أن يعيش هؤلاء الشباب مستقبلاً "أفضل من الماضي الّذي عشناه في سوريا وفلسطين ولبنان في العقود الأخيرة المنصرمة. فالشّبيبة اليوم يمثّلون التّشبّث بالأرض والشّهادة المسيحيّة وشهادة انفتاح الكنيسة الكاثوليكيّة ودورها في الخصوصيّة الرّوحيّة والحوارّية". كما دعا إلى  التّمسّك بالتّاريخ العربيّ والثّقافة وحماية بعضنا البعض وتغذية روح الاعتدال بين الدّيانات.