الطوباويّ البطريرك إسطفان، مجد لبنان أعطي له، وطوبى السماء، يستحقّ الاقتداء به!
حدث تطويب البطريرك إسطفان الدويهي، علامة من علامات السماء، وسط الظروف التي يعيشها لبنان والمنطقة من حرب غوغاء تقتل الإنسان وإنسانيّته، فلا بدّ من وعي هذه النعمة الكبرى، والتفاعل معها. لطالما عاش لبنان الرسالة بطرائق عجائبيّة فتحوّل شهادة للعالم أجمع. لذلك، إنْ تأمّلنا في سيرة حياة الطوباويّ البطريرك إسطفان الدويهي، هذا اللبنانيّ المارونيّ الإهدنيّ، لوجدنا فيها دروسًا لا يمرّ عليها الزمن، وتُختزن منارة للأجيال في كلّ زمان ومكان. فهو من اختبر منذ نعومة أظفاره، اليُتم والسفر والبعد عن بلده وبيئته فكانت له محطّة للعلم وتثقيف الذات. عاد إلى لبنان فنقل ما تعلّمه كلّه ووضعه في خدمة بلده وكنيسته ورسالته. عاش الاضطهاد بأبعاده كلّها. عاش ثائرًا إلّا أنّه حافظ على التراث، كرّس الطوباويّ البطريرك إسطفان الدويهي حياته في ثلاثيّة أبعاد، التعليم والتدبير والتقديس.
في البعد التعليميّ والتأليفيّ:
لم يرضَ إسطفان الدويهي أن يكون عالمًا في الفلسفة واللاهوت في جامعات روما العريقة، إنّما أراد أن يعود إلى وطنه، ويكون معلّمًا تحت جوزة دير مار سركيس وباخوس، ومدرسة دير مار يعقوب في إهدن، ومدرسة "الكتاب المارونيّ" في حلب، ومن ثمّ طاف معلّمًا في أرجاء الشرق، وسهر على تربية الناشئة على حبّ الله والوطن.
كانت أبحاثه حول الكتب الطقسيّة، فعمل على استعادة أصالتها، رتّب كتب الرتب الدينيّة والنوافير والأسرار والأعياد والجنّازات، وجمع كتب الصلوات. ترجم سير القدّيسين من لغة إلى أخرى، ووضع الشرطونيّة، أي الرسامة الكهنوتيّة، شارحًا معانيها، وكتب حول "ريش قولو"، أي مطالع الألحان السريانيّة. أما أبرز مؤلّفاته اللاهوتيّة، فهي كتاب "منارة الأقداس" الذي يقارن فيه التاريخ واللاهوت والليتورجيا بين الطقوس الشرقيّة والغربيّة، وهو كتابه الأبرز في المجال الدينيّ العامّ.
أمّا مؤلّفاته التاريخيّة فتقسم إلى نوعين:
- النوع الأوّل، في التاريخ المارونيّ: كتاب "سلسلة بطاركة الطائفة المارونيّة" و"سجلّ الدويهي" الذي يشمل البراءات البابويّة المرسلة إلى الموارنة، و"كتاب المحاماة" في ثلاثة أجزاء و"أصل الموارنة"، وهو ردّ التهم ودفع الشبه والاحتجاج عن الموارنة، وكتب أخرى عن أصل الموارنة ونسبهم.
- النوع الثاني، يتضمّن أبرز كتاب له، "تاريخ الأزمنة" الذي يتناول فيه تاريخ لبنان والشرق بأسره. إضافة إلى كتب أخرى له مثل: "مقدّمو بشرّي" و "تاريخ المدرسة المارونيّة في روما" وغيرهما.
في البعد التدبيريّ
حاول البطريرك إسطفان الدويهي تنظيم شؤون طائفته وتحديثها متأثّرًا بتنظيمات المجمع التريدنتينيّ 1545-1563، وذلك من خلال التواصل مع الأديار والرعايا، كما من خلال تنظيم الأبرشيّات في حلب ودمشق وأورشليم وقبرص. فقام بزيارات رعائيّة في خلال حياته متنقّلًا في المناطق المختلفة وواضعًا التقارير بما يخدم الكنيسة، إضافة إلى ذلك عمل على تجديد الحياة الرهبانيّة في الكنيسة المارونيّة، وهو يُعتبر من أبرز مجدّديها وقد ثبّت قوانينها.
في البعد التقديسيّ
عاش الطوباويّ البطريرك إسطفان الدويهي حياته ملتزمًا نهج القداسة والزهد في مراحل حياته كلّها. فبدأ باختبار معجزة عودة نظره بشفاعة مريم العذراء حتّى يوم وفاته. توصف حياته بالتواضع الكامل، فأمام أي استحقاق تظهر سمات تواضعه. عاش الحياة الرهبانيّة بأبعادها النسكيّة كلّها وفي ساعات المحن انسحب إلى المغاور والأودية، فكانت الأصوام والصلاة تعزيته الوحيدة. أصبح رجل الصلاة بامتياز، ما زاده إشعاعًا وحضورًا برزا في مجمل كلماته وعظاته.
البطريرك إسطفان الدويهي ودوره الوطنيّ
أدّى البطريرك إسطفان الدويهي دوره الوطنيّ كأسلافه وخلفائه، لما فيه خير جبل لبنان. فرفض دفع الضريبة الظالمة، وتوضح المراسلات إلى ملك فرنسا دفاعه عن الشعب الذي يقيم في جبل لبنان، وعن الطوائف الأخرى، معتبرًا الكيان اللبنانيّ في تعدّدية الواقع الشرقيّ، ضرورةً وجوديّة للانفتاح الحضاريّ على الغرب والشرق.
نسألك أيّها الطوباويّ الجديد أن تنعم على لبنانك بعجائبك، لكي تنتفي الحروب في الجنوب ويعمّ السلام في الأراضي المقدّسة وفي العالم أجمع، ويبقى شرقنا منبعًا للقيم والإيمان بشفاعتك. أطلب لنا من سيّد الكون يسوع المسيح، ومن أمّه مريم العذراء التي أنعمت عليك بنور البصر أن تنعم على أصحاب القرار في وطننا بنعمة البصيرة، فنخرج من الأزمات كافّة بقوّة الإيمان، والعمل بحسب وصايا السماء.