الرّهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة أحيت أربعين المطران حدّاد
"إجتمعنا اليوم لنُحيي ذكرى الأربعين لراهبٍ من رهبان هذا الدّير العامر، ورجلٍ من رجالات لبنان الحديث، وأسقفٍ من أعمدة كنيسة الرّوم الكاثوليك، هو المثلَّث الرّحمة المطران أندره حدّاد المخلّصيّ.
1- أندره الرّاهب المخلّصيّ
الأب أندره هو واحد من هذه الكوكبة الرّهبانيّة الّتي سارت على خطى المؤسّس أفتيميوس الصّيفيّ. فمنذ دخوله الرّهبانيّة وإبرازه النّذور المقدّسة سنة 1946 وهو يعمل بكدّ ليكون رسول المخلّص. بعد امتلائه من الرّوحانيّة المخلّصيّة فترة التّنشئة، انطلق أبونا أندره يعلّم في مدرسة دير المخلّص ومدارس بيروت ويؤسّس الفرق الكشفيّة ويتقدّمها بالهمّة. حاول بكلّ جهده الاهتمام بالشّبيبة الّتي آمن أنّها مستقبل الكنيسة والوطن، فأسّس لها "بيت الشّباب" أيّام رئاسته على دير المخلّص، فبادلته الحبّ والوفاء ورأت فيه مرشدًا أمينًا قائدًا قديرًا ومرجعًا تستند عليه.
لم يألُ جهدًا في تطوير المدرسة وتوسيعها فاتحًا إمكانيّات الرّهبانيّة لمزيد من الخدمة والرّسالة. إنتهى به المطاف مديرًا لدار الصّداقة في زحلة، الّتي كانت في حينه بذرة صغيرة أصغر من جميع المؤسّسات، غذّاها بإيمانه وعنفوانه حتّى أصبحت شجرةً كبيرة يستظلّ بها كثيرون.
2- أندره من رجالات لبنان الكبار
برز أندره الكاهن ومن ثمّ الأسقف مناضلاً لا يلين من أجل إحقاق الحقّ ومن أجل الحفاظ على ما تبقّى من عنفوان المسيحيّين في لبنان ومن كرامتهم. عاش في زمن البغض والحروب: قتلٌ في كلّ مكان، تهجير، ذبحٌ على الهويّة، وجود مسيحيّ بخطر... فكان صوتُ المطران أندره صوتًا يدوّي في وجدان لبنان. فالسّلام بالنّسبة إليه لم يكن يعني أبدًا استسلامًا، بل نهجَ حياة شُجاعة ومِقدامة لا تخاف من التّبشير بالسّلام ولو كلّفه ذلك حياته.
وقف في وجه كلّ ظالم وحاقد. تصدّى لكلّ من يعتدي على ديره أو شعبه، لكن في الوقت نفسه أحسن وساعد كلّ من طرق بابه من دون أن ينظر إلى دينه أو انتمائه الحزبيّ أو الطّائفيّ. لم يساوم يومًا على حقوق المسيحيّين، خصوصًا في أثناء حرب زحلة سنة 1981. صادق الأعداء ليربح شعبه، قاوم المتكبّرين من أجل ودعاء الشّعب. كان كبيرًا مع الكبار، وأبًا حنونًا وسندًا للفقراء في وجدانه قول المسيح: "لا تعلم يمينك ما أعطت شمالك".
كلّ هذه المسيرة الشّجاعة جعلته في عيون المسيحيّين عامّة والزّحليّين والبقاعيّين على وجه الخصوص بطلاً من الأبطال. فتوجّهت إليه أنظارهم وطالبوا به مطرانًا على عاصمة الكثلكة، وقد قدّرت كنيسة الرّوم الكاثوليك عطاءاته الكبيرة فانتخبه سينودسها مطرانًا على أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع في 14 حزيران 1983.
3- أندره أسقف من أعمدة الكنيسة
منذ دخوله المطرانيّة، وكعادته، بدأ العمل في جميع المجالات: عزّز الحضور المسيحيّ في المدينة، سعى بكلّ جرأة لدرء الفتن ووقف حمّامات الدّم، فعاشت زحلة في عهده سلامًا مشرّفًا مع محيطها ومع ذاتها. بعد ذلك، التفت إلى الشّبيبة وراح يشجّع الرّعايا على تنظيم نشاطات وجمعيّات للشّبيبة وللأولاد فيها. رعى المرضى وراح يطوّر مستشفى تلشيحا لتصير من أكبر مستشفيات البقاع. دعم الرّعايا وشجّع الرّعاة على خدمة أكمل للنّفوس، كان العين السّاهرة على كلّ أبنائه، والأذن الصّاغية لكلّ شكوى وطلب، والقلب المبادر إلى رفع كلّ ظلم وتنفيذ المحقّ من الطّلبات. فعّل الجمعيّة الخيريّة لخدمة الحاجات الاجتماعيّة لشعبه وفقرائه. هذا الاهتمام بأبرشيّته لم يُنسه اهتمامه بقضايا الوطن عامّة وكنيسته خصوصًا. فكان المرجعَ والرّأيَ السّديد وصاحب الخبرة والحكمة في سينودس كنيسة الرّوم الكاثوليك، حتّى صار صوتُه الصّارخ إبّان الحرب اللّبنانيّة وما بعدها حدًّا من الصّعب تخطّيه، وركيزةً ثابتةً للبناء في زمن التّحوّلات.
تحوّلت زحلة في أواخر عهده إلى لؤلؤة الشّرق المسيحيّ وعاصمة الكثلكة فعليًّا: رمّم معظم الكنائس القديمة ودعمها بالمال والمعنويّات اللاّزمة، وبنى كنائس جديدة تليق بزحلة (مار يوسف الميدان، مار أندراوس الحمّار، ودار المطرانيّة في زحلة بعد الدّمار الّذي لحق بالمبنى القديم إثر الانفجار الّذي أصابها وكاد أن يودي بحياته. إلّا أنّ العناية الإلهيّة رأت أنّ دور هذا الأسقف الهُمام ضروريّ في تلك المرحلة من عودة المسيحيّين إلى الوطن وعودة الوطن إليهم.
رحل المطران أندره بعد نصف قرن ونيّف من الجهاد والنّضال من أجل تحرير الإنسان كلّ الإنسان، ومن أجل بناء كنيسة البشر قبل بناء الحجر، رحل لكنّه ترك للأجيال القادمة وخصوصًا لأبناء زحلة والبقاع إرثًا من الشّجاعة والإقدام والهمّة، إرثًا إنسانيًّا وروحيًّا. أضحى ضريحه ذخيرة في قلب زحلة ووسامًا للرّهبانيّة المخلّصيّة بأنّها أعطت للكنيسة وللوطن هذه الهامة المخلّصيّة الّتي انضمّت إلى الهامات العظيمة التي سبقتها من رهبانيّتي، وفخرًا لعائلته وأهالي روم ومنطقة جزّين عامّة.
إنّي أشكر الله معكم على هذه النّعمة الّتي أعطانا إيّاها لتكون لنا قدوة في حياتنا ومسيرتنا الإنسانيّة والرّهبانيّة والوطنيّة.
أجدّد التّعزية للعائلة الكريمة ولأهالي بلدة روم الحبيبة ولسينودس كنيستنا الملكيّة ولأبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع وللأمّ الرهبانيّة"..
في ختام القدّاس توجّه الجميع الى صالون الدّير لتقديم التّعازي.