لبنان
29 حزيران 2019, 12:47

الرّاعي: نلتمس من الله في هذه اللّيتورجيا المقدّسة، أن يزيدنا إيمانًا بالمسيح، على مثال الرّسولين بطرس وبولس

عشيّة عيد القدّيسين بولس وبطرس، احتفل البطريرك الرّاعي بالقدّاس الإلهيّ مساء أمس الجمعة، وذلك في كنيسة سيّدة الورديّة– ذوق مصبح، بعد زيارة رعويّة إلى المنطقة. وعاونه في القدّاس، المطارنة حنّا علوان، إلياس نصّار والأباتي مارون الشّدياق، بحضور لفيف من الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات والكهنة والرّهبان والرّاهبات، وحشد المؤمنين. وبعد قراءة الإنجيل، ألقى البطريرك الرّاعي عظةً بعنوان "أنت هو المسيح إبن الله الحيّ" (متّى 16:16)، قال فيها:

"إيمان بطرس المزروع في قلبه من خبرة الحياة مع يسوع، ومن كلامه وآياته، ومن تحليل العقل، أوحى إليه الجواب الذي أعطاه على سؤال يسوع: "وأنتم من تقولون إنّي أنا ابن الإنسان؟" فأجاب سمعان بطرس من دون تردّد: "أنت هو المسيح إبن الله الحيّ" (متّى 16:16). فجعل يسوع إيمانه صخرةً بنى عليها كنيسةً منيعةً بوجه قوى الشّرّ (راجع متّى 18:16).

أنا سعيدٌ جدًّا بأن أقوم بزيارة رعويّة ذوق مصبح العزيزة، وأن أحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة في باحة كنيسة السّيّدة، التي هي الكنيسة الأم. بالعودة إليها، أسترجع جمال خدمتي الرّاعويّة فيها، لمدّة تسع سنوات، وهي الأولى في حياتي الكهنوتيّة، مع إخوتي الآباء الرّهبان المريميّين وبخاصّة الأبوَين فيليب الحاج وجورج خليل، ومع الخوري يوسف الخوري، وسواهم من آباءٍ مريميّين وكهنةٍ أبرشيّين كنّا نتعاون معهم، ولم تكن ذوق مصبح بكلّ مناطقها على ما هي عليه اليوم من مبانٍ شاهقة ومتلاصقة حجبت البيوت الأصليّة. أسترجع ذكريات الخدمة في كنيسة السّيّدة، ومار الياس، ومار يوحنّا المعمدان، ومار أنطونيوس، ومار شربل، ويسوع الملك، وفي هوليداي بيتش والرّمال. وقد قامت بيننا وبين الأهالي والسّكان روابط محبّةٍ وتعاونٌ وثيق.

أودُّ أن أحيّي كلّ الذين هيّأوا هذه الزّيارة، وبخاصّة: سيادة أخينا المطران بولس روحانا، النّائب البطريركيّ العام في نيابة صربا، وكهنة الرّعيّة، والبلديّة والمخاتير ولجان الأوقاف، والذين يشاركون فيها من أخويّات ومنظّمات رسوليّة، ومن بينها أخويّة قلب يسوع التي نحتفل معها اليوم بعيد قلب يسوع الأقدس، وسائر الأهالي والسّكان. أحيّي قدس الرّئيس العام الأباتي مارون الشّدياق، شاكرًا مشاركته، ومن خلاله أُحيّي الرهبانية المارونيّة المريميّة العزيزة التي تؤمّن الخدمة الرّعائيّة في هذه البلدة العزيزة، وتحافظ على أمتن علاقات المودّة والتّعاون مع أهلها، والتي تمتدّ عبر التّاريخ.

إنّ ذوق مصبح التي أضحت مدينةً بكلّ معنى الكلمة، تنعمُ بوحدتها التي نحن حريصون عليها مع سيادة أخينا المطران بولس روحانا، نائبنا البطريركيّ العام والرّهبانيّة المارونيّة المريميّة الجليلة، في التّنظيمات الإداريّة - الرّعائيّة التي يؤمِّن من خلالها الآباء الرّهبان الثّلاثة والكهنة الأبرشيّون الأربعة والشمّاسان الخدمة الرّوحيّة بكلّ أبعادها، من دون أن يؤثّر ذلك على وحدة البلدة إداريًّا وعقاريًّا.

أشكُركم على الاستقبال اللّطيف والمُحبّ بكلّ محطّاته أوّلاً في متحف المشاهير حيث شاءت إدارتُه مشكورةً وضع تمثالٍ خاصٍّ بي، ثمّ في مدخل ذوق مصبح الغربيّ حيث تَكرّم المجلسُ البلديّ بتسمية الشّارع على إسمي، وحيث كان استقبالٌ شعبيٌّ وزيارة صلاة في كنيسة مار شربل بمحلّة أدونيس العزيزة، واطّلاعٌ على آخر الانجازات في داخلها ومجّمعها. فالشّكر من صميم القلب للمجلس البلديّ، رئيسًا وأعضاء، على هذه المبادرة التي كرّموني بها وتُشرّفني.

كلّ هذا الإطار الكنسيّ والاجتماعيّ الذي يجمعنا في ذوق مصبح العزيزة، إنّما يهدف إلى واحدٍ أساسيّ هو إعلان إيماننا بالمسيح، وهو إيمان القديسين الرّسولين بطرس وبولس، اللّذين نحتفل بعيدهما غدًا.

إنّهما مثالٌ لنا بإيمانهما. فإيمان بطرس ولَّد في قلبه حبًّا شديدًا ليسوع، جسَّده في كثيرٍ من المواقف والأفعال، على الرّغم من إنكاره للرّبّ. فكانت ندامته وتوبته ودموعه أكبر تعبيرٍ عن حبّه ليسوع. بفضل هذا الإيمان جعله يسوع "صخرةً بنى عليها كنيسته العصيّة على قوى الشرّ، وسلّمه سلطان الحلّ والرّبط" (متى 16: 18-19). وبفضل حبّه الشّديد، جعله راعيًا لخرافه (راجع يو 15:21)، وهي النّفوس التي افتداها بدمه.

وإيمان بولس ولَّد عنده غيرةً رسوليّةً فائقة، وشجاعةً خارقةً على نشر إنجيل المسيح لليهود الرّافضين وللأمم الوثنيّة البعيدة والغارقة في عبادة أصنامها. فلم يتعب من الأسفار مشيًا على الأقدام من مدينةٍ إلى أخرى، ولم يخَف من أسفار البحر وأخطار الرّياح والأمواج. همُّه إعلان إنجيل المسيح الذي بلغه شخصيًّا من فم يسوع على طريق دمشق. فكان له بُشرى خلاصٍ وتغيير لمجرى حياته، وحوّلهُ من عدوٍّ لدودٍ مضطّهدٍ للكنيسة، إلى رسولٍ ينادي ويعمل من أجل إبلاغ هذا الإنجيل إلى كلّ إنسان، ما جعله يقول: "الويل لي إن لم أعلن الإنجيل" (1كور 16:9).

في شخصيّتَي بطرس وبولس يلتقي الإيمان والعقل، وهما بمثابة جناحين يمكّنان العقل البشريّ من الإرتقاء إلى تأمّل الحقيقة، وإلى معرفة سرّ الله والذّات. إنّها معرفةٌ واحدةٌ يبلغ إليها العقل، مُعتمدًا الإدراك الحسّيّ والاختبار، ومستنيرًا بالإيمان الذي يهتدي بأنوار الرّوح القدس، بحيث يجد في المسيح الخلاص، وملء النّعمة والحقّ (البابا يوحنّا بولس الثّاني: الايمان والعقل، 1 و 9).

هذا ما نجده عند بطرس في جوابه المختلف عن جواب الآخرين، وعند بولس الفيلسوف المضطهِد، ثمّ بعد ارتداده تحوّله إلى فيلسوف سرّ المسيح والكنيسة.

الإيمان يولّد في القلب الحبّ للمسيح وللكنيسة، وفي النّفوس الشجاعةَ والغيرةَ الرّسوليّة، والخروج الدّائم من الرّاحة الذّاتيّة، والمشاريع الشّخصيّة، مع الانفتاح على تصميم الله، وإلهامات الرّوح القدس.

إنّنا نلتمس من الله في هذه اللّيتورجيا المقدّسة، أن يزيدنا إيمانًا بالمسيح، على مثال الرّسولين بطرس وبولس؛ وأن يزرع هذا الإيمان في جميع القلوب، وبخاصّة في قلوب المسؤولين، سواء كانوا في الكنيسة أم المجتمع أم الدّولة. فالإيمان، على ما يقول القدّيس أغسطينوس، يثبّت في الرّجاء، فلا خوف من المصاعب لأنّ الله لا يترك المؤمنين به، والرّجاء يؤدّي إلى مزيدٍ من المحبّة لله وللكنيسة، وبالتّالي لجميع النّاس. وهي محبّةٌ تعمل على تهدئة النّفوس بالخدمة وتوفير ما يلزم من احتياجات.

 

بالمحبّة يخرج المسؤول من ذاته وأنانيّته ومصالحه، وينطلق بتجرّد نحو الخدمة العامّة، وتوفير الصّالح العام الذي منه خير الجميع وخير كلّ شخص، مُدركًا أنّ هذا هو مبرّر وجوده في السّلطة. ليست السّلطة للتّسلّط أو القهر أو الظّلم أو الإهمال. ولا هي لإقصاء من لا يشاطرونها الرّأي والنّظرة واللّون الحزبيّ والسّياسيّ. فلا تكون ثمّة حاجة إلى إضرابات واعتصامات وقطع طرقات وحرق دواليب ومقاطعة انتخابات. هذه كلّها لا تتماشى مع مفهوم السّلطة في الكنيسة والمجتمع والدّولة. وعلى المستوى المدنيّ، لا تتلاءم مع النّظام الدّيمقراطيّ.

أجل، الإيمان والمحبّة فضيلتان ضروريّتان لدى أيّ صاحب سلطة. بهما حوّل بطرس وبولس مدينة روما عاصمة الإمبراطوريّة الرّومانيّة الوثنيّة، إلى مدينةٍ مسيحيّةٍ وعاصمةِ الكثلكة، من دون سيفٍ وسلاحٍ وجنودٍ مدجّجةٍ ومدافع. هكذا يستطيع المسؤولون في لبنان، إذا اغتنت قلوبهم بالإيمان والمحبّة، أن يعيدوا إلى هذا الوطن بهاءه الإنسانيّ والثّقافيّ وطيب العيش فيه معًا بروح المشاركة والتّعاون والتّكامل، بفضل التّنوّع الذي يشكّل طبيعته وهويّته، لاسيّما وأنّنا على مشارف بداية مئويّة إعلان دولة لبنان الكبير بكلّ أجزائها التي سلخها عنه الأتراك، وتسبّبت مع الحصار بموت ثلث الشّعب اللّبنانيّ جوعًا، ونفي عدد وافرٍ من أعيانهم، وتعليق عددٍ من خيّار الشّبيبة اللّبنانيّة على المشانق. فانفرط عقد المجتمع.

وقد لعب الدّورَ الإغاثيّ الأساسيّ البطريرك الياس الحويّك الذي سيُعلن في هذه الأيّام مُكرَّمًا، أي أنّه عاش ببطولةٍ الفضائل الإلهيّة والمسيحيّة والإنسانيّة. وهي المرحلة الأخيرة قبل التّطويب. نصلّي لكي يتمّ ذلك بالتّزامن مع هذه المئويّة، هو الذي عمل جاهدًا في مؤتمر السّلام بفرساي سنة 1919، حتّى سُمّي "بأبي لبنان الكبير". كلّ ذلك بفضل ما تميّز به من إيمان بطوليٍّ ومحبّةٍ عظمى. نلتمس من الله نعمة ارتفاعه على المذابح، راجين تشفّعه من أجل لبنان الذي أحبّهُ.

وإنا معًا نرفع نشيد المجد والتّسبيح والشّكر إلى الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."

 

ثمّ، بارك الرّاعي الماء بمناسبة عيد القدّيسين بطرس وبولس.

وفي ختام القدّاس، ألقى كاهن الرّعيّة الأب ميلاد طنّوس كلمةً، شكر فيها الرّاعي على هذه الزّيارة الرّعويّة "وعلى مبادرته الأبويّة وشراكته ومحبّته الرّوحيّة التي عبّر عنها بشكل واضح وملموس." ووجّه طنّوس تحيّةً للمطران روحانا "العين السّاهرة على أبنائها مثنيًا على تفانيه في عمله الرّسوليّ الدّاعي إلى المحبّة والسّلم."

وقدّم طنّوس بإسم البلديّة والرّعيّة هدايا تذكاريّة للرّاعي تعود إلى التّاريخ الذي كان لا يزال فيه كاهنًا مريميًّا خادمًا للرّعيّة على مدى تسع سنوات، من أقراص مدمجة تجمل عظاته في القداديس التي كان يحتفل بها، ومُجلّد صور له وهو كاهن يُعمّد ويُكلّل ويُبارك ويُصلّي منذ العام 1982