الرّاعي: لسنا معنيّين فقط بصنع تاريخنا البشريّ، بل وبخاصّةٍ بصنع تاريخ الخلاص الّذي يخطّطه الله في سرّ تدبيره
بهذا الجواب أوضح الرّبّ يسوع أنّ أمومة مريم الإلهيّة له ليست فقط أمومةً جسديّة، بل هي على الأخصّ أمومةٌ روحيّةٌ مبنيّةٌ على الإيمان. وهذا ما عبّر عنه القدّيس أغسطينوس عندما كتب: "لقد وَلَدَت مريمُ العذراء مَن حَبِلَت به بإيمانها. فلمّا خاطبها الملاك، وهي ممتلئةٌ إيمانًا، وأجابت: هاءنذا خادمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك، حَبِلَت بيسوع في روحها وقلبها قبل أن تحبل به في حشاها (العظات 215، 4 – PL.38, 1074).
يسعدني أن أحتفل مع سيادة أخينا المطران مارون العمّار، راعي الأبرشيّة، ومعكم، بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ونحييّ عيد مولد أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء، شفيعة هذا الكرسيّ الأسقفيّ في بلدة بيت الدّين التّاريخيّة العزيزة، حيث تُكرَّم بلقب "سيّدة الخلاص". لا نستطيع في هذه المناسبة إلّا أن نذكر جميع المطارنة الّذين تعاقبوا على خدمة الأبرشيّة، من أحياءٍ وموتى، وحافظوا على الوديعة الثّمينة على الرّغم من كلّ المصاعب الّتي واجهوها، ثمّ تجاوزوها بإيمانهم وصلاتهم وصبرهم واتّكالهم على العناية الإلهيّة، وعلى المسيح المنتصر بقيامته على الخطيئة والموت. ونذكر معهم الكهنة والرّهبان والمؤمنين الّذين عاونوا وخدموا في هذا الكرسيّ. فللأحياء نتمنّى عمرًا طويلًا مع فيض النّعم، وللموتى الرّاحة الأبديّة في السّماء.
ونذكر في هذه الذّبيحة الإلهيّة أيضًا كلّ الّذين مدّوا يد المساهمة سخيةً في إعادة ترميم هذا الكرسيّ، وإلباسه جمال حلّته الأولى. كافأهم الله بخيراته وبركاته.
إنّنا نختتم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة اليوم الأوّل من زيارتنا الرّاعويّة الّتي شاءها سيادة أخينا راعي الأبرشيّة، وقمنا بها معًا. فبعد تفقّد كفرفالوس زرنا على التّوالي كلًّا من رعايا: صفاريه وشواليق ووادي بعنقودين ولبعا حيث أزحنا السّتار عن شارع البطريرك نصرالله صفير، وبيصور ومزرعة المطحنة وبسري وخربة بسري والزعروريّة. نذكرهم جميعًا في هذه الذّبيحة الإلهيّة، ونشكرهم على حسن استقبالهم ومحبّتهم.
عيد مولد أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء هو بداية تحقيق عمل الفداء والخلاص. ففيما وُلدت مريم ككلّ إنسانٍ من ثمرة حبّ والديها القدّيسين يواكيم وحنّه، شاء الله، باستحقاقات إبنه الّذي سيأخذ جسدًا بشريًّا منها ويغلب الخطيئة بموته وقيامته، أن يعصمها من الخطيئة الأصليّة الّتي يولد فيها جميع البشر، وارثين إيّاها من أبوَينا الأوّلَين آدم وحوّاء. عصمها لأنّه اختارها لتكون أمَّ ابنه القدّوس، فادي الإنسان ومخلّص العالم.
هذه العصمة أصبحت عقيدةً إيمانيّةً هي "عقيدة الحبل بلا دنس"، الّتي أعلنَها الطّوباويّ البابا بيوس التّاسع في 8 كانون الأوّل 1854، وثبّتتها سيّدتنا مريم العذراء بعد أربع سنواتٍ في ظهوراتها للطّفلة برناديت في مغارة "مسّابيال" في لورد، سنة 1858. فإحياءً لليوبيل الذّهبيّ الخمسينيّ سنة 1904، أنشأ المكرَّم البطريرك الياس الحويّك مع السّفارة البابويّة مزار سيّدة لبنان، حريصا.
لقد ارتكزت عقيدة الحبل بلا دنس على رموزٍ من الكتاب المقدَّس، من مثل عَدنَ الرّوحيّة الّتي سكن فيها آدم الجديد، بدل عدن الأرضيّة الّتي سكنها آدم وشوّهها بمعصيته؛ وسفينة نوح الّتي أنقذت الخليقة الثّانية، إذ ولدت المسيح مخلّص العالم الّذي غرّق الخطيئة؛ وتابوت العهد الّتي احتوت الإله القدّوس المتجسّدّ. وسواها من الرّموز وصُوَر الأنبياء. ولهذا يُطلق على أمّنا مريم العذراء في عيد مولدها لقب "سيّدة الخلاص". ذلك أنّ بعصمتها من دنس الخطيئة الأصليّة منذ اللّحظة الأولى لتكوينها في حشا أمّها، كانت بدايةُ عملِ الخلاص للعالم.
"أمّي وإخوتي هم الّذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لو21:8)
سمعت مريم كلمة الله في بشارة الملاك الّتي تدعوها "لتكون أمَّ إبن العليّ وهي عذراء" (لو1: 34-35). فقبلت الكلمة بإيمانٍ من دون أن تفهم كلَّ معانيها ونتائجها ومقتضياتها. وأجابت: "هاءنذا أمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك" (لو38:1). بهذا الجواب عبّرت مريم عن جهوزيّتها الكاملة للعمل بكلمة الله، بلفظة "فليكن". إنّها لفظةٌ أساسْ، حاسمةٌ لتحقيق تصميم الله الخلاصيّ. وتذكّرنا بكلمة الله "فليكن نور" قالها عندما خلق الأرض والسّماوات فتمّ الخلق كلّه بهذ اللّفظة يومًا بعد يوم (راجع تك3:1). وتذكّرنا بكلمة يسوع في بستان الزّيتون، ليلة آلامه وصلبه: "لتكن مشيئتك، يا أبتِ، لا مشيئتي" (لو42:22). بها عبّر عن طاعته الكاملة للآب، وقدّم ذاته ذبيحة فداءٍ عن البشريّة جمعاء.
جواب مريم "فليكن" ينطوي على فعلَيّ إيمانٍ وطاعة: إيمانٍ بأنّ ما يقوله الله حقيقةٌ مطلقة؛ وطاعة لله بالعيش وفقًا لهذه الحقيقة الهادية إلى خلاصنا. ولذا نقول: "من يؤمن يطيع. ومن يطيع تتحقّق فيه إرادة الله وتصميمه الخلاصيّ". بهذا المعنى كتب القدّيس أغسطينوس كما رأينا: " وَلَدَت مريمُ العذراء مَن حَبِلَت به بإيمانها". هذا يعني أنّنا نحن أيضًا ندخل في رابطةٍ روحيّةٍ من الأمومة والأخوّة، كما أكّد الرّبّ يسوع: "إنّ أمّي وإخوتي هم الّذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لو21:8).
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
سيّدتنا مريم العذراء مثالٌ لكلّ إنسان ودعوةٌ لسماع كلمة الله والعمل بها. فكلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا صاحب دورٍ مثلها في تاريخ الله الخلاصيّ، ومعاونٌ لتحقيق ما يَرسم الله من تصميم. لسنا معنيّين فقط بصنع تاريخنا البشريّ، بل وبخاصّةٍ بصنع تاريخ الخلاص الّذي يخطّطه الله في سرّ تدبيره، ويرسم لكلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا دوره الخلاصيّ. ويبقى السّعي بالصّلاة واستلهام أنوار الرّوح القدس والتّأمّل في الكلام الإلهيّ والاسترشاد بتعليم الكنيسة، إلى إدراك هذا الدّور الشّخصيّ في الحالة الّتي يتواجد فيها كلُّ واحدٍ منّا. والحقيقة تُقال أنّ التّاريخ البشريّ الّذي نخطّه يومًا بعد يوم، يصطلح عندما يرتكز على أسس تاريخ الله الخلاصيّ، أعني: على الحقيقة والمحبّة والعدالة والحرّيّة والأخوّة والسّلام. لكنّ هذه الأسس نستمدّها من كلام الله لا منّا، ولا من مصالحنا وحساباتنا والامتلاء من ذواتنا.
يا مريم، سيّدة الخلاص، إلتمسي لنا من الله الإيمان بكلامه والطّاعة له والعمل بموجبه من أجل خلاصنا الشّخصيّ وخلاص مجتمعنا البشريّ. فنرفع معكِ نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".