الرّاعي في عيد الصّليب يُصلّي على نيّة شهداء الوطن
"أكّد الرّبّ يسوع، بجوابه إلى مطلب يعقوب ويوحنّا، أنّ طريق المجد السّماويّ تمرّ عبر الصّليب، المعبَّر عنه "بكأس الألم ومعموديّة الدمّ". ففي زمن الصّليب، الذي بدأناه أمس، يُذكّرنا الرّبّ يسوع بأنّ دعوتنا المسيحيّة ورسالتنا تقتضيان السّير على خطاه، بحمل صليب الفداء. وهو سيرٌ قائمٌ على الموت عن الذّات مع المسيح المصلوب، والإنفتاح على قيامته باعثة الحياة الجديدة. هذا النّهج سلكه بطاركتُنا الأبرار، ولاسيّما العشرون بطريركًا، الذين عاشوا هنا في مقرّ سيّدة إيليج، من البطريرك بطرس الأوّل سنة 1120 إلى البطريرك يوحنّا الجاجيّ الثّاني الذي نقل الكرسي البطريركيّ إلى قنّوبين سنة 1440. وقد ناضلوا جيلًا بعد جيل، وهم يقودون شعبهم المارونيّ من أجل الأغليَين حماية الإيمان والإستقلال الحرّ.
وهذا النّهج تبعه شهداؤنا الذين أراقوا دماءهم دفاعًا عن المسيحيّين ولبنان، في الحرب الأخيرة التي اندلعت في 13 نيسان 1975. عددٌ كبيرٌ من هؤلاء الشّهداء يرقدون هنا في ظلّ سيّدة إيليج، ونكرّمهم في غابة الأرز التي ترمز إلى خلود ذكراهم، وإلى إكليل مجدهم في السّماء، ونقدّم لراحة نفوسهم وعزاء أهاليهم هذه الذّبيحة المقدَّسة. إنّ القول المأثور: "ماتوا لنحيا"، يقتضي منّا التزامًا مُضحّيًا في سبيل لبنان بكيانه وشعبه ومؤسّساته، بعيدًا عن النّزاعات الدّاخليّة والمصالح الشّخصيّة والفئويّة، وعن المساومة في شأن الوطن وأولويّته واستقراره وكرامته. ولا ننسى في صلاتنا الشّهداء الأحياء الذين يحملون في أجسادهم علامات تضحياتهم من أجل لبنان، وهي علامات المسيح الفادي الذي تتواصل الآمه في الآمكم أيُّها الأحبّاء. أنتم لنا علامة تدعو إلى الدّفاع عن أرضه.
يُسعدني وسيادة راعي الأبرشيّة المطران ميشال عون، وإخوتنا الكهنة أن نقوم بهذه الزّيارة الرّاعويّة التّقوية الى سيدة ايليج. إنّنا نُحيّيكم جميعًا، ولاسيّما رئيس دير سيّدة ميفوق ورئيس دير مار شليطا القطارة والآباء أبناء الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة الذين يحافظون على هذا الإرث البطريركيّ النّفيس ويُحيون فيه الحياة اللّيتورجيّة وخدمة النّفوس. ونودّ أن نشكُر معكم رابطة سيّدة إيليج" التي تدعو إلى هذا القدّاس الإلهيّ وتنظّمه، وتُعنى بغابة الأرز ومدافن الشّهداء.
زمن الصّليب يحمل بُعدَين: الأوّل مسيرة الكنيسة، برعاتها ومؤمنيها ومؤسّساتها، وسط المحن والاضطّهادات والصّعوبات والتّضحيات. لكنّها تجد في صليب المسيح قوّتها ورجاءها وعزاءها، على ما قال القدّيس أغسطينوس: "الكنيسة تسير بين اضطّهادات العالم وتعزيات الله". والبُعد الثّاني هو واقع النّهايات، وعالم ما بعد التّاريخ. ونعني الموت ونهاية الأزمنة ومجيء المسيح بالمجد والدّينونة الخاصّة والعامّة والخلاص و الهلاك الأبديَّين. هذان البُعدان يشكّلان مواضيع أناجيل الآحاد طيلة زمن الصّليب.
عندما طلبَ الرّسولان يعقوب ويوحنّا أن "يجلسا عن يمين الرّبّ ويساره في مجده" صحّح يسوع نظرتهما، مُبيّنًا لهما أنّ طريق المجد تمرّ بالطّريق الذي سلكه هو أمامهم، وهو "كأس الألم، ومعموديّة الدمّ". وقد دعانا بولس الرّسول للسّير وراء المسيح في هذا الطّريق، إذ كتب: "تخلّقوا، أيُّها الإخوة، بأخلاق المسيح الذي، وهو الله، لم يحسب ألوهته مكسبًا، بل أخلى ذاته، مُتّخذًا صورة الخادم، وصار على مثال البشر، فوضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصّليب. لذلك رفعه الله إلى العُلى..." (فيل2: 5-11)واعطاه كل مجد فوق كل أمجاد.
في الواقع سلك يعقوب الرّسول، أسقف أورشليم، طريق الآلام إذ مات شهيدًا، وكان الشّهيد الأوّل بين الرّسل الإثني عشر. ويوحنّا الرّسول أخوه مات منفيًّا في جزيرة بطمس بعد جميع الرّسل.
إنّ بطاركتنا عامّةً، وأولئك الذين عاشوا هنا في مقرّ سيّدة إيليج خاصّةً، سلكوا الطّريق إيّاه: نذكر من بينهم دانيال الشّاماتي (1230-1239) الذي أكرهته الاضطّهادات على الإنتقال إلى كفيفان ثمّ إلى كفرحي؛ ودانيال الحدشيتيّ (+1282) الذي واجه الجيوش الجرّارة المملوكيّة وأخاف سلطان سيف الدّين قلاوون، حتّى قبضوا عليه بالحيلة؛ والبطريرك لوقا من بنُهران في الكوره (1282-1297) الذي ناضل بوجه المماليك عند اقتحامهم جبّة بشرّي، وأنزلوا بها قتلاً ونهبًا وتدميرًا؛ والبطريرك شمعون (1297-1339) الذي واجه هجوم جيش السّلطان المملوكيّ على بلاد كسروان، فاستنجد البطريرك بمقدّمي لحفد ومشمش وإيليج والعاقورا وحردين، وأنزلوا بهم الهزيمة؛ والبطريرك الشّهيد جبرايل من حجولا (1357-1367) وقد سلّم نفسه لنائب السّلطان المملوكيّ في طرابلس من أجل تحرير الأساقفة والرّهبان الذين قبض عليهم وزجّهم في السّجن. فأعدمه النّائب السّلطان المملوكيّ حرقًا وهو حيّ في ساحة طرابلس؛ والبطريرك يوحنّا الجاجيّ (1404-1445) الذي ألزمه العسكر المملوكيّ على هجر سيّدة إيليج واللّجوء إلى وادي قنّوبين.
هؤلاء البطاركة حلقاتٌ في سلسلةٍ لم تنقطع على الرّغم من محاولات كسر هذه الحلقات في مسيرتهم الرّامية إلى حماية الإيمان الكاثوليكيّ والاستقلاليّة والحريّة. حتّى وصلوا إلى مبتغاهم مع المكرَّم البطريرك الياس الحويّك "بإعلان دولة لبنان الكبير" في أوّل أيلول 1920. وها نحن نستعدّ للاحتفال كنسيًّا ومدنيًّا بالمئويّة الأولى لهذا الإعلان. إنّنا سنعود فيها مع اللّجنة البطريركيّة واللّجنة الوطنيّة إلى الجذور، إلى فلسفة الصّيغة اللّبنانيّة التي هي المواطنة المدنيّة بدلاً من المواطنة الدّينيّة، والتّعدّديّة الدّينيّة والثّقافيّة في الوحدة، بدلاً من الأحاديّة، والعيش معًا كمسيحيّين ومسلمين بالتّعاون والمساواة والإحترام المُتبادل، وإقرار جميع حقوق الإنسان الأساسيّة والحرّيّات العامّة، والنّظام الدّيموقراطيّ اللّيبراليّ. ونأمل بأن تُشكلّ العودةُ إلى فلسفة الصّيغة اللّبنانيّة مناسبةً فريدةً لكي نصحّح على ضوئها الواقع الحاضر، ونخطّط لمستقبلٍ أفضل.
وإنّا غداة عيد الصّليب، نجدّد إيماننا بقوّته الخلاصيّة، ونرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."