لبنان
06 آب 2019, 05:00

الرّاعي عشيّة عيد التّجلّي من أرز الرّبّ: لا بدّ من العودة إلى الله

إحتفل البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي بالقدّاس الاحتفاليّ بمناسبة عيد تجلّي الرّبّ في غابة الأرز الدّهريّة في بشرّي، وقد عاونه النّائب البطريركيّ العامّ على جبّة بشرّي وزغرتا المطران جوزيف نفّاع والموسنيور يوسف الفخري والمونسنيور فيكتور كيروز، الوكيل البطريركيّ على وقف غابة أرز الرّبّ الأب شربل مخلوف ولفيف من الكهنة. وخدمت القدّاس جوقة مار يوسف للآباء الكرمليّين- بشرّي، بحضور نائب رئيس بلديّة بشرّي يوسف الفخري، النّائب السّابق جبران طوق، الشّيخ روي عيسى الخوري، القاضي أنطوني عيسى الخوري، رئيس لجنة جبران الوطنيّة يوسف فنيانوس، رئيس لجنة أصدقاء غابة الأرز بسّام جعجع وأعضاء اللّجنة وحشد كبير من أبناء المنطقة.

 

وقد استهلّ القدّاس بكلمة للأب مخلوف رحّب فيها الرّاعي مشيرًا إلى أنّ "أرز لبنان غرسه الرّبّ في هذه الأرض وسقاها بيده كما يؤكّد حزقيال النّبيّ، إنّها الأرزة الّتي مسكنها الغيوم وعمرها الهور وجذورها الخلود وترابها المجد وبخورها إلى فوق يقدّم إلى خالق الإكوان. صنع منها أجدادنا السّفن وأبحروا، وبنوا المرافئ في المدن الّتي وصلوا إليها، وبنوا معابد لآلهتهم. وحفر الرّومان من جذوعها تماثيل أباطرتهم، واتّخذ المصريّون من صمغها مادّة لحفظ أجساد فراعنتهم، وبنى الفرس بصلابة أخشابها قصورهم. انّها الأرزة المعمّرة الّتي تنبت في جبل طورس وتنمو وتتّخذ سلسلة جبال لبنان الغربيّة موطنًا لها. غرسها الرّبّ في حضن جبل المكمل وجذّرها في أرض بشرّي وجعلها مطلّة على وادي القدّيسين. وقد أشار لامارتين إلى أنّها أكبر الآثار الطّبيعيّة شهرة في العالم. ولأنّها اتّخذت تربة لبنان وأعطته مجدها قال النّابغة جبران ابن بشرّي "لو لم يكن لبنان وطني لاتّخذت لبنان وطنًا لي". كلّ هذا المجد أعطي لغبطتكم يا حارس الأرز يا من أعطي له مجد لبنان، فأهلاً بكم يا صاحب الغبطة بطريرك الكنيسة الجامعة وبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق الكلّيّ الطّوبى.أهلاً بكم وبأصحاب السّيادة والكهنة والرّهبان والرّاهبات وبكلّ صحبكم الكريم، وبالحاضرين من أصحاب الرّتب والمقامات والمراتب وكلّ الحضور، هلمّوا إلى ديار الرّبّ وارفعوا الشّكر له وسبّحوه ومجّدوه".
وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى البطريرك عظة تحدّث فيها عن التّجلّي وقدسيّة المكان وقال:

"بعد ستّة أيّام تجلّى أمامهم".

أصحاب السّيادة والمقامات المدنيّة والعسكريّة والجمعيّات،

أيّها الأخوة والأبناء الأحبّاء،

يسعدنا أن نحتفل معًا بعيد تجلّي الرّبّ على الجبل جريًا على عادة البطاركة أسلافي الّذين حافظوا على هذا التّقليد الّذي يحمل معاني عديدة. وإنّني لسعيد مع أخي سيادة النّائب البطريركيّ العامّ على الجبّة وإخواني الكهنة أن نقدّم لكم التّهاني بالعيد راجين لنا جميعًا أن ننعم بما يعلّمنا هذا العيد عن مكوّنات هذا العيد الأربعة: الظّرف الّذي تجلّى فيه الرّبّ، تجلّي يسوع في بهاء ألوهيّته، ظهور موسى وإيليّا والإعلان الإلهيّ بصوت الآب .
الظّرف هو إعلان بطرس إيمانه بيسوع في قيصريّة فيليبوس بأنّه المسيح ابن الله الحيّ. وبعدها فورًا عندم أعلن يسوع أنّه سيسلّم إلى الآلام والموت ويقوم في اليوم الثّالث اعترض بطرس لأنّه لم يقبل أن يخضع يسوع للألم والموت فكان التّجلّي لكي يجدّد إيمان بطرس، ولكي يظهر له آلامه وقيمة إيمانه. نعم يتألّم من أجل فداء البشر يموت على الصّليب من أجل إحياء البشريّة ويقوم من الموت كي يبعث الحياة الإلهيّة في كلّ إنسان. هكذا شرح لهم أبعاد آلامه وقيامته وكشف أيضًا معنى آلام البشر الرّوحيّة والجسديّة والمعنويّة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة وكلّ ما يؤلم الإنسان آخذًا معان من آلام يسوع وأصبحنا في آلامنا الشّخصيّة نواصل آلام الرّبّ يسوع من أجل فداء العالم. هذا ما علّمنا إيّاه الآباء والرّاهبات عندما كنّا أطفالاً لنقول ونحن أطفالاً "مع آلامك يا يسوع"، وهذا يعني أنّ الآلام ضرورة في حياتنا لكنّنا نستطيع أن نعطيها معنى كبيرًا. وبولس الرّسول يقول "أنا أكمل في جسدي ما نقص من آلام المسيح من أجل الكنيسة، ولا يسعني هنا إلّا أن أحيّي كلّ متألّم لأيّ سبب كان وأيّ موجوع. وأوجّه تحيّة خاصّة إلى الّذين يتألّمون على فراش الألم والمسمّرون عليه، أو الّذين يحزنون حزنًا شديدًا على عزيز فقدوه وفارق قبل أوانه، أو الّذين يحملون آية إعاقة في أجسادهم، نقول لهم أنتم تحملون آثار آلام المسيح وأنتم تواصلون آلامه من أجل البشريّة. أنتم تحملون ما يقي العالم من ما يصيبه من مآسي فالرّبّ يريد أن يدلّنا من خلال هذا التّجلّي على مجد القيامة وقد هيّأ التّلاميذ ليدركوا أنّ هذا الضّعيف الّذي سيرفع على الصّليب عريانًا سينتصر بقيامته .
التّجلّي هو استباق مجد القيامة ليقول لنا لا تخافوا! الكلمة الأخيرة هي للقيامة وليست الخضوع للآلام، وينتهي كلّ شيء هناك، يدعونا إلى الصّمود وإلى الصّبر في وجه كلّ محنة وصعوبة. هذا الأرز وفكرة البطاركة الّذين أنشأوا هذه الكنيسة أكّدوا أنّ التّجلّي مربوط بهذا الأرز الشّامخ، فبتجلّي يسوع أظهر شموخه الإنسانيّ والإلهيّ وصموده، وهذا الأرز الّذي تعرفوه بأنّه ينمو بصمود ويواجه الرّياح والعواصف والّثلوج الّتي لولاها لما عاش هذا الأرز وأجدادنا وآباؤنا عبر العصور، فهموا هذه الحقيقة ولهذا صمدوا في أرضكم، أيّها الأحبّة في بشرّي وهذه المنطقة في وادي القدّيسين، بوجه كلّ مصاعب الحياة بوجه كلّ الّذين حاولوا أن يخضعوا هذا الجبل، صمدوا بقوّة صلاتهم وبقوّة إيمانهم وقوّة تعلّقهم بهذه الأرض. ونحن مدعوّون إلى هذا الصّمود. هذا هو الظّرف الأوّل الّذي كان من أجله التّجلّي ثم ظهر إيليّا وموسى المعروفان بأمر أساسيّ. موسى كليم الله وحبيب الله تسلّم الوصايا وعاد إلى الشّعب الّذي كان يعبد البقرة والحجر، فكان عليه أن يعيد إيمان الشّعب بالإله الحقيقيّ. وإيليًا أيضًا واجه كهنة بيعال وأقام تلك الذّبيحة معهم على الجبل فكانت النّار آتية إلى ذبيحته بينما ذبائح آلهة الوثن فأمر عندها بيعال بقتلهم جميعًا بحسب الرّهان. ما أكثر أصنام اليوم الّذين ولو اعتدوا بإيمانهم بالله لكنّهم يعبدون أنفسهم وجيوبهم ومالهم وسلطتهم وسلاحهم ونفوذهم، نحن بحاجة لأن نتحرّر من كلّ هذه الأصنام الشّخصيّة الّتي تستعمل النّاس إيديولوجيّات وسواها أصنام جديدة في عالم اليوم هي الّتي تضعفنا فلا بدّ من العودة إلى الله لأنّ عيد التّجلّي هو العودة إلى الله، هو الإقرار بسيّد واحد هو يسوع المسيح، زعيم واحد اسمه يسوع المسيح، ربّ واحد اسمه يسوع المسيح كلمته ووصيّته هي فوق كلّ اعتبار. وإذا كان لبنان يتهاوى نحو الهاوية فلأنّ النّاس نسوا كلمة الله بالرّغم من كلّ شيء وجبران قال "ويل لأمّة كثرت فيها الأديان وقلّ فيها الإيمان". نعم إن لم يعد الشّعب والقادة إلى عبادة الله والخضوع له والعمل بوصاياه من الصّعب أن نصل إلى الخلاص. هذه هي النّقطة الثّانية في معنى ظهور موسى وإيليّا في يوم تجلّي الرّبّ وكان صوت الإعلان الإلهيّ صوت الآب الّذي يعلن عن يسوع "هذا هو ابني الحبيب الّذي به سررت". هذا هو إيماننا أيّها الأخوة والأبناء الأعزّاء، هذا الإيمان الّذي أتينا نجدّده في ظلّ هذا الأرز لكي نتعلّم الشّموخ في الإيمان والصّلاة والكرامة في النّبل والقيم الرّوحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة. لهذا السّبب وجدت كنيسة التّجلّي هنا ولهذا تأتون والبطريرك أمامكم والكهنة كي نحتفل معًا بعيد التّجلّي .
أحيّيكم جميعًا يا أبناء بشرّي والمنطقة الأحبّاء، وأحيّي صمودكم وأمانتكم في تاريخكم وكلّنا مسؤولون عن تربية أجيالنا بهذه المفاهيم. وأحيّي إخوتي الكهنة الّذين يواصلون مع النّائب العامّ رسالتهم الرّعويّة والآباء الكرمليّين وراهبات القدّيسة الأمّ تريزا وراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات ونهنّئهننّ بإعلان البطريرك الكبير الياس الحويّك مكرّمًا أيّ أنّ الكنيسة في دعوى تطويبه أعطت علامات بأنّه عاش ببطولة الفضائل الإلهيّة والمسيحيّة. ونحن نصلّي كي تظهر قداسته من خلال أعجوبة ونأمل أن أعلن بمناسبة المئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير فنحتفل أيضًا بقداسته بالمناسبة ونحن سعداء أيضًا بأنً بطريركًا آخر وضع أسس هذا الوطن وهو البطريرك إسطفانوس الدّويهيّ على مقربة أيضًا من أن يرفع على المذابح ونصلّي من أجل أن يظهر الله قداسته. وهكذا نحن نتذكّر أنّ شعبنا شعب مقدّس حاملاً إرثًا عظيمًا من القداسة والإيمان لذا هو مدعوّ للحفاظ عليه .
لا تخافوا من المصاعب مهما كثرت وهذا الأرز دعوة لنا للصّمود والشّموخ، ولولا الصّمود لا يمكن أن ينمو وكي ينضج لأنّ المصاعب ضروريّة كي ننضج وننمو. يا ربّ في عيد تجلّيك أظهرت لنا أنّك تدعونا لأن نعيش بهاء بشريّتنا، نسألك النّعمة الّتي تقدّسنا وتحرّر بشريّتنا وتظهر فينا صورة الله خالقنا لك المجد مع أبيك وروحك الحيّ القدّوس الآن وإلى الأبد آمين".
وبعد القدّاس قدّم الفنّان رودي رحمة للبطريرك الرّاعي منحوتة على شكل أرزة باسم أبناء بشرّي ولجنة أصدقاء غابة الأرز، وتبع القدّاس ريستال أحيته جوقة قوى الأمن الدّاخليّ بقيادة العميد فؤاد حميد الخوري. 
وكان البطريرك الرّاعي وجريًا على العادة زار مدرسة التّزلّج حيث استقبله قائد المدرسة العقيد سميح خليل والضّبّاط وعلى وقع موسيقى الكشّاف الماروني ّونثر الورود والأرز، انتقل البطريرك سيرًا إلى داخل الغابة حيث ترأّس الذّبيحة إلهيّة في باحة كنيسة التّجلّي وسط الغابة .