لبنان
09 كانون الأول 2018, 11:44

الرّاعي: إنّ ذكرى مولد يوحنّا المعمدان تدعونا للّجوء الدّائم إلى رحمة اللّه في كلّ ظرف من حياتنا

ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاس الأحد في مقرّ البطريركيّة في بكركي. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظةً بعنوان "إسمه يوحنّا" (لو 63:1)، وجاء فيها:

بمولد يوحنّا الموعود لزكريّا الكاهن وزوجته أليصابات، تجلّت أمانة الله لوعده، ورحمته ف"يوحنّا" اسم أطلقه الملاك عندما تراءى لزكريّا من عن يمين مذبح البخور. فلفظة يوحنّا في اللّغة العبريّة أصلاً "يهو حنان" تعني "اللّه رحيم". إنّنا نلتمس من اللّه في تذكار مولد يوحنّا نعمة الرّجاء والثّقة بتجلّيات رحمة اللّه في حياتنا وفي وطننا، وفي العالم.

يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، ونحن نقترب من عيد ميلاد ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، الذي، وهو الإله، أخذ طبيعتنا البشريّة وضمّها إلى طبيعته الإلهيّة في وحدة أقنومه، لكي يرفعنا إلى مستوى بنوّتنا للّه بالابن الوحيد. إنّنا نرجو أن يكون زمن الميلاد هذا ينبوع نِعم تقدّس نفوسنا بالصّلاة وقبول نعمة الأسرار، وبأفعال المحبّة والرّحمة تجاه العائلات الفقيرة المحرومة من بهجة العيد.

"إسمه يوحنّا". لقد شاء الله أن يكشف لنا وللعالم رحمته اللّامحدودة، لكي نعود إلى رحمته الغافرة عندما نتغرّب عنه بالخطيئة وفعل الشّرّ؛ وإلى رحمته السّخيّة لنلتمس منه، بروح الأبناء والبنات، ما نحتاج إليه من نعم وعطايا، واثقين مع القدّيس يعقوب الرّسول: "إنّ كلّ عطيّة  صالحة وكاملة تهبط من فوق من أبي الأنوار الذي لا تغيير عنده ولا تبديل". ونعود إلى رحمة اللّه لنتعلّم الرّحمة، وهي حاجة للعائلة، والمجتمع، والكنيسة، والدّولة. فلا نستطيع أن نعيش معًا بمحبّة وسلام وخدمة وسط أيّة جماعة، من دون فضيلة الرّحمة.

أجل بمولد يوحنّا تجلّت رحمة الله لزكريا وأليصابات الطّاعنين في سنّيهما، بفضل صلاحهما عند اللّه، وحفظهما رسومه ووصاياه، وسلوكهما بدون لوم، ومواظبين على صلاة الرّجاء (راجع لوقا 6:1). وعندما كتب زكريا على لوح: "إسمه يوحنّا"، انحلّت عقدة لسانه وامتلأ من الرّوح القدس، ومجّد اللّه بنشيده البيبليّ: "تبارك اللّه إلهنا لأنّه تفقّد شعبه واقتناه، وأقام لنا مخلّصًا قديرًا في بيت عبده داود..." (1: 67-69) وتجلّت الرّحمة الإلهيّة لنا وللعالم كوسيلة للعيش الهنيئ معًا. فجعل اللّه يوحنّا بمثابة الفجر الطّالع أمام شمس المسيح الفادي، الذي به أخذت رحمة اللّه في التّاريخ إسمًا هو يسوع المسيح.

الأسماء المضافة على اسم يوحنّا تكشف لنا رسالته وظهور رحمة الله للعالم. إنّه السّابق للفادي الإلهيّ إذ يكبره بستة أشهر. وكان عليه أن يعدّ الطّريق للمسيح الفادي إلى القلوب والنّفوس. وهو المعمدان الذي عمّد بالماء للتّوبة، إعدادًا للنّفوس كي يقبلوا "معموديّة المسيح بالرّوح القدس والنار" (متى 11:3). بممارسة المعموديّة بالماء هيّأ يوحنّا القلوب لقبول نعمة الرّوح القدس، التي تقدّس وتبدّل وتشفي، هذه النّعمة التي تُفاض على العالم من موت المسيح وقيامته. هو ايليّا الجديد، إذ قال عنه الملاك أثناء الرّؤيا لزكريّا أنه "يسير أمام الرّبّ بروح ايليّا وقوّته" (لو 71:1). وعنه قال المسيح: إنّه ايليّا المنتظر رجوعه (متّى 14:11) و"إنّه الآتي ليصلح كلّ شيء". لقد تجلّت فيه روح ايليّا في كلمات يوحنّا القاطعة كالنّار، وفي حياته القشفة كما يصفها متّى الإنجيليّ (متى 3: 1-12). وعن يوحنّا قال المسيح إنّه "أكبر من نبيّ" (لو 26:7)، لأنّه ختم أنبياء العهد القديم، وافتتح مجيء الفادي الإلهيّ كأوّل رسول في العهد الجديد. عنه قال يسوع: "لم يولد في مواليد النّساء مثل يوحنّا" (لو 28:7).

إنّ ذكرى مولد يوحنّا المعمدان في هذا الأحد تدعونا للّجوء الدّائم إلى رحمة الله، في كلّ ظرف من حياتنا، ولنتعلّم الرّحمة ونمارسها فيما بيننا. فعندما شاء الله في سرّ تدبيره أن يكشف جوهر طبيعته بإعطاء اسم يوحنّا المولود في بيت زكريّا وأليصابات ، فللدّلالة أنّ رحمة الله في لفظتَي الكتاب المقدّس "حِسِد" باللّفظة العبريّة أي "أمانته لذاته"، والتي تتغلّب على خطايانا والشّرور في العالم؛ وهي "رحاميم" أي "محبّته الفريدة والمجّانيّة" التي تنبع من أحشاء أبوّته لكلّ إنسان، من أي لون وعرق ودين. فاللّه صبور علينا بحنانه وشفقته والمسارعة إلى الغفران (راجع البابا يوحنّا بولس الثّاني: "في الرّحمة الإلهيّة، 14").

في عظة الجبل، المعروفة بالتّطويبات وبدستور الحياة المسيحيّة، قال الرّبّ يسوع: "طوبى للرّحماء فإنّهم يُرحمون" (متّى 7:5). هذا التّبادل يدعو كلّ إنسان ليكون رحيمًا في كلّ عمل وموقف. بهذه الطّوبى نتوجّه إلى المسؤولين السّياسيّين عندنا المدعوّين لخدمة الخير العامّ الذي منه خير الإنسان وكلّ الإنسان، راجين أن يفتحوا قلوبهم لقبول عطيّة الرّحمة، ولممارستها في مسؤوليّاتهم، بدءًا من السّلطة العليا في الدّولة، فإلى السّلطات التّشريعيّة والإجرائيّة والإداريّة والقضائيّة. نناشدهم العمل على التّحلّي بمشاعر الرّحمة، فتتبدّل حياتهم ونظرتهم، ويخرجوا من سجن عتيقهم، وسجن مطالبهم ومواقفهم، ويفرجوا عن ولادة الحكومة الجديدة رحمةً بالوطن المتقهقر والمتفكّك، وبالشّعب الذي يفتقر ويتضوّر جوعًا، ويهاجر نحو بلدان أفضل، ورحمةً بالاقتصاد الذي يتعثّر ويتسبّب بإقفال العديد من المؤسّسات الصّناعيّة والتّجاريّة. فلو دخلت الرّحمة قلوبهم طيلة السّبعة أشهر منذ تكليف رئيس الحكومة، لأفرجوا عن الحكومة الجديدة، وتخطّوا مصالحهم، وصحّحوا نواياهم. وبدلاً من التعلّق بالحرف والتعثّر بشرحه، فليذهبوا واضعين بلادنا فوق كلّ اعتبار، وليتراجعوا عن عِقدهم المفروضة من هنا وهناك وهنالك. مرّةً أخرى نناشدهم ونقول: "لا يحقّ لكم إهمال الدولة في مؤسّساتها وشعبها وكيانها. فأنتم لستم أسياد الدّولة بل خدّامها"، تمامًا كما قال الرّبّ يسوع في إنجيله: "من أراد أن يكون بينكم الأوّل، فليكن للجميع خادمًا: (مر 43:10).

إنّنا نلتمس من اللّه الغنيّ بالرّحمة، أن يملأ قلب كلّ إنسان بهبة الرّحمة لكي نعيش معًا بفرح وسعادة في الخدمة والرّسالة والعطاء. عندها نستطيع أن نرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس."