الراعي: نؤمن أنّ نور المسيح سيبدّد ظلمات حياتنا في لبنان وبلدان الشَّرق الاوسط
1. في هذا الأحدالسابق للميلاد، تقرأ علينا الكنيسة سلسلة نسب الربّ يسوع المسيح إلى العائلة البشريّة. هذه السلسلة هي توالي الأجيال التي هيّأت لمجيئه، وبلغت ذروتها وغايتها بميلاد المخلّص والفادي. فكان "ملء الزمن"، على ما يقول بولس الرسول (غلا4:4)، الذي هو بالنسبة إلينا، مع نهاية زمن المجيء الليتورجي، بلوغ الاستعداد التامّ لاستقبال المخلّص الإلهي، بروح التوبة والمقاصد الصالحة التي تهيّئ قلوبنا ليولد فينا، لا في مغارة رمزية. وبهذه الحالة يكون كل واحد وواحدة منا حلقة حيّة في سلسلة تاريخ الخلاص.
2. المثلّث الرحمة المطران يوسف رزق الله الخوري، راعي أبرشية مار مارون-مونتريال كندا السابق، الذي نقدّم لراحة نفسه هذه الذبيحة الإلهية مع المناولة وصلاة وضع البخور، شكّل حلقة فاعلة ومميّزة في سلسلة تاريخ الخلاص، ككاهن وأسقف وكحامل سمات جراحات المسيح في مرض سنواته الأخيرة. إننا نصلّي لكي تكون ذكرى ميلاد ابن الله إنسانًا على أرضنا احتفالًا بميلاد المثلّث الرحمة المطران يوسف في السماء بين رعاة الكنيسة وآبائها القدّيسين. وبالمناسبة نجدّد باسمكم جميعًا تعازي الرجاء الحارّة لأشقّائه وشقيقاته وعائلاتهم وسائر ذويهم وأنسبائهم الأحبّاء. ونصلّي من أجل أن يفيض عليهم الله نعمه، بتشفّعه لديه وهو كاهن إلى الأبد، وأن يعوّض على الكنيسة برعاة مثل قلب المسيح "راعي الرعاة العظيم" (1بطرس 5: 4).
3. من خلال إعلان القدّيس متّى الإنجيلي أنّ "يسوع المسيح هو ابن داود ابن ابراهيم" (متى1:1)، نكتشف هويتنا المسيحيّة.
يسوع المسيح هو ابن داود، بالمعنى المسيحاني، وليس فقط بمعنى السلالة البشريّة. فداود هو أوّل من سُمِّي "مسيح الربّ"، أي المختار من الله، المكرَّس بمسحة الزيت المقدّس ومسحة الروح القدس لتكوين شعب الله في مملكته. عندما تهدّمت مملكة داود أثناء الجلاء إلى بابل، وَعَد الربّ، على لسان الأنبياء، "بمسيح آخر نهائي يرسي مملكة تدوم إلى الأبد". فكان الملكَ الجديد المسيحُ ابن الله الذي أخذ جسدًا من مريم العذراء بقوّة الروح القدس. وكانت الكنيسة المملكة التي لا تنقضي بل تكتمل في مجد السماء، عند نهية الأزمنة. إلى هذه المملكة نحن ننتمي بالمعمودية، وفي ملوكيّة المسيح نحن شركاء بمسحة الميرون.
4. فضلًا عن انتمائه إلى مملكة المسيح بالمعمودية والميرون، فقد انتمى إليها المثلّث الرحمة المطران يوسف بمسحة الدرجة المقدّسة، الكهنوت والأسقفية. وبهما شارك في ملوكية المسيح بسلطان إلهي.
ككاهن، أدّى خدمته الملوكية طيلة أربع وعشرين سنة في الكرسي الرسولي بروما، في الدوائر التي من خلالها يقوم قداسة البابا برعاية الكنيسة الجامعة. من هذه الدوائر مجمع الكنائس الشرقية حيث أُسندت إليه مهمة الاهتمام بشؤون كلّ من الكنيسة القبطية والحبشية والكلدانية والروم الملكية واللاتينية؛والمجلس الحبري للحوار بين الأديان بمهمة مستشار؛ والمجلس الحبري للعائلة. وكان في الوقت عينه يعلّم في جامعات روما الكاثوليكية المختصّة بتنشئة الكهنة والرهبان والراهبات.
وكأسقف، مارس ملء الكهنوت في الخدمة الملوكية، أولًا كزائر رسولي على موارنة أوروبا الغربية والشمالية مدّة ثلاث سنوات، ثمّ كمطران لأبرشية مار مارون-مونتريال على مدى سبع عشرة سنة. فأظهر وجه الراعي الصالح، الساهر على خير النفوس، والمتفاني في البذل والعطاء، ورائده الحقيقة والمحبة والعدالة.
5. و"يسوع المسيح هو ابن ابراهيم". بهذه السلالة تنجلي هويتنا المسيحية. فابراهيم هو أبو المؤمنين، المخلِص والأمين لله. أما المسيح فهو محطّ إيمان البشر، وفيه تتمّ كلّ الوعود الإلهيّة، وهو "الأمين بامتياز". ابراهيم رجل الثقة بالله الذي "ترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه" (تك12: 1)، تلبية لدعوة الله التي كان يجهل مآلها. أما يسوع "فأخلى ذاته، ولم يحسب ألوهيّته غنيمة. بل صار مثل البشر وأخذ صورة خادم، وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فيل2: 5-8).
ابراهيم يعلّمنا المغامرة مع الله، والسَّير معه برجاء في غموض سرِّه الذي ينجلي لنا حتمًا ساعة يريد. ليس هذا بالأمر السهل عندما تكتفنا ظلمات المرض والفقر والفشل والظلموالموت. لقد علّمنا الربّ يسوع أن نصلّي كما صلّى هو في ذروة الحزن في بستان الزيتون: "لتكن مشيئتك، يا أبتِ، لا مشيئتي" (متى 26: 39).
6. مشى المثلّث الرحمة المطران يوسف مع الله، مسيرة إيمان ورجاء ومحبة، مذ غادر بحويطه بلدته ملبِّيًا الدعوة الإلهية إلى الكهنوت. فانتقل إلى الإكليريكية البطريركية في غزير، ومنها إلى معهد نشر الإيمان في روما لدراسة الفلسفة واللاهوت، فإلى جامعات روما لمتابعة الدروس العليا في القانون الكنسي والمدني، واللّاهوت الأدبي وتاريخ الإلحاد المعاصر والمحاماة في محكمة الروتا الرومانية.
وأكمل مسيرته مع الله حاملًا مرضه كسمات جراحات المسيح، فأضحت ذبيحة الفادي الإلهي القربانية بين يديه، ذبيحته الشخصيّة، التي قدَّمها مع قربان الابن الوحيد من أجل استكمال عمل الفداء.
وسار مع الله بمزيد من الإيمان والانفتاح على حاجات الكنيسة، منذ رسامته كاهنًا في مثل هذا اليوم من سنة 1964، والكنيسة الجامعة تحتفل بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، عنصرتها الجديدة. وبفضل هذه المسيرة الإيمانيّة المخلصة، دعاه الله إلى اتّساع مساحاتها، أسقفًا زائرًا رسوليًّا في اوروبا، ثمّ مطرانًا للموارنة في كندا.
7. إنّ مشاركة المسيحيين في ملوكية المسيح، بنعمة المعمودية ومسحة الميرون، فيما هم يعيشون في العالم ويتعاطون الشؤون الزمنية، ولاسيّما من بينهم الذين يعنون بالشأن السياسي، تقتضي منهم الالتزام بخدمة الخير العام، وتحسين أوضاع المواطنين، وإنماء الشخص البشري وحفظ كرامته، وترقّي المجتمع. هذه المسؤوليات العامة تقتضي من أصحاب السلطة السياسية التحلّي بالقيم الروحية والأخلاقية، ولا سيّما منها التجرّد وعزّة النفس، وبالتمسّك بالمبادئ الإنسانية التي توجّه ضمير الشخص المسؤول إلى ما يجب أن يقوم به أو يتجنّبه.
8. كنّا نأمل، مع المواطنين اللبنانيّين المُخلصين للبنان، أن تتحسّس الكتل السياسية والنيابية حراجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، الضاغطة على شعبنا، فيسارعوا، بروح المسؤولية والتجرّد، إلى تسهيل مهمّة تشكيل الحكومة الجديدة. ألا تكفي السنتان والخمسة أشهر من الفراغ الرئاسي، بالإضافة إلى شهرَين من عدم التفاهم على الحكومة الجديدة، لكي يعي المسؤولون السياسيّون شرّ مثل هذه الممارسة السياسيّة؟ فلم يريدوا إهداء الشعب حكومة جديدة بمناسبة عيد الاستقلال، وربّما لن يهدوه إيّاها بمناسبة الأعياد الميلادية. وكأنّهم لا يعرفون جمال العطاء والإهداء، فيما القدّيس بولس الرسول يؤكِّد: "السعادة في العطاء أعظمُ منها في الأخذ" (أعمال 20: 35).
ومع هذا كلّه، نحن نؤمن أنّ نور المسيح، الذي أشعّ ليلة ميلاده في قلب الظلمة، سيبدّد ظلمات حياتنا في لبنان وبلدان الشَّرق الاوسط، ظلمات الازمات والنزاعات والحروب والقتل والهدم والتهجير. فلنسرع برجاء إلى ملاقاة نور المسيح. فهو يضيء في الظلمة، والظلمةُ لا تطفئه. ولنهتف:
وُلد المسيح! هللويا! أمين.