مصر
18 تشرين الأول 2022, 05:00

الرّاعي من القاهرة: لكوننا مجبولين بالضّعف نحتاج إلى فضيلتين أساسيّتين المحبّة والمغفرة

تيلي لوميار/ نورسات
حول "التّسامح في المسيحيّة ودوره في ترسيخ أسس السّلام الاجتماعيّ"، تحدّث البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي خلال مداخلة ألقاها في مؤتمر التّسامح والسّلام والتّنمية المستدامة في الوطن العربيّ، المنعقد في مقرّ الأمانة العامّة للجامعة العربيّة- القاهرة حتّى يوم الغد.

وفي كلمته قال الرّاعي:  

"1. يسعدني أن أشارك في المؤتمر بدعوة كريمة من الدّكتور أحمد بن محمّد الجروان رئيس المجلس العالي للتّسامح والسّلام، ومن السّفيرة الدّكتورة هيفاء أبو غزالة الأمين العامّ المساعد، رئيس قطاع الشّؤون الاجتماعيّة، وأن أتكلّم عن الموضوع المطلوب منّي: التّسامح في المسيحيّة ودوره في ترسيخ أسس السّلام المجتمعيّ.

2. أودّ أوّلاً توضيح مصطلح التّسامح الّذي يدعو إليه الجميع، تجّنبًا للوقوع في مفهومه السّلبيّ. بالمفهوم الإيجابيّ، التّسامح يعني قبول الآخر المختلف، والعيش معه بسلام ومساواة وتكامل. فبدون الآخر ليس بوسعي أن أعي ذاتي في غَيرِيَتها. فالآخر هو الطّريق إلى ذاتي. ومع ذلك، عليّ أن أكون ذاتي لكي أستطيع اللّقاء بالآخر، ومحاورته ومعايشته والتّنامي معه في تآلف الاختلاف. الإنتماء الدّينيّ والثّقافيّ والحضاريّ والجغرافيّ، في مضامينه الفلسفيّة والوجوديّة، لا يعني بالضّرورةِ التّعارضَ مع الآخر والدّخولَ معه في صراع الهويّات القاتلة. قبول الآخر بهذا المعنى يرسّخ السّلام الاجتماعيّ.

أمّا بالمفهوم السّلبيّ، فالتّسامح يعني مسًّا خطيرًا بحقوق الإنسان الأساسيّة. المتسامح هو الأقوى الّذي يتنازل ويسمح للآخر المختلف والمستضعف بالبقاء على قيد الحياة، أو بمشاركته الحياة، ولكن ضمن ضوابط لا ترقى مطلقًا إلى مستوى النّدية. لذا اعتماد الإنسان مبدأ التّسامح تجاه إنسان آخر، أكان فردًا أم جماعة، ينمّ عن تصرّف فوقيّ، ولو كان الهدف نبيلًا وصادرًا عن سلطة يدّعيها فريق تجاه فريق آخر. أتسامح بوجودك، بسكنك، بعملك، بممارستك، بنمط حياتك المختلف... لكن، من نكون حتّى نستعمل سلطان التّسامح تجاه أخ في الإنسانيّة؟ نفضّل قبولك بسلام، لا قبولك بتسامح. السّلام حقّ دائم ذاتيّ، بينما التّسامح حقّ قابل للطّعن، لأنّه مرهون بتسامح الآخر.

إنطلاقًا من حقوق الإنسان الطّبيعيّة، الكائن البشريّ لا يستجدي وجوده من أحد، وبناءً على ذلك، فهو ليس بحاجة إلى تسامح الآخرين في حقّه اللّامنقوص في الاختلاف. له الحرّيّةُ المطلقة في أن يكون كما هو يريد أن يكون، ضمن حدود احترام الآخر في الأمور عينها والمحافظة على السّلم العامّ.

3. ترتكز المسيحيّة في تعليمها على قبول الآخر المختلف دينيًّا وثقافيًّا وإتنيًّا واجتماعيًّا، وعلى التّضامن معه لمساعدته، والتّكامل مع مواهبه لخير الجماعة البشريّة والمجتمع الّذي نعيش فيه.

فالقاعدة الأساس هي أنّ جميع النّاس أبناء للخالق الأحد وهو أبو الجميع، وكلّنا بالتّالي إخوة وأخوات لهذا الآب السّماويّ؛ والقاعدة أيضًا أنّ كلّ إنسان، ذكرًا كان أم أنثى، مخلوق على صورة الله، بتنوّع فرادته. ولكوننا مجبولين بالضّعف نحتاج إلى فضيلتين أساسيّتين: المحبّة والمغفرة.  

هذا هو الطّريق الّذي يؤدّي بنا إلى "ترسيخ أسس السّلام المجتمعيّ"، وهذه هي الوسيلة "لمكافحة الكراهيّة ونشر ثقافة التّسامح في الخطاب الدّينيّ".

إنّنا نلتقي هنا مع مقدّمة "وثيقة الأخوّة الإنسانيّة" (أبو ظبي 16 فبراير 2019) حيث نقرأ:

"يحملُ الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرَى في الآخَر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبَّه. وإنطلاقًا من الإيمان بالله الّذي خَلَقَ النّاسَ جميعًا وخَلَقَ الكونَ والخلائقَ وساوَى بينَهم برحمتِه، فإنَّ المؤمنَ مَدعُوٌّ للتّعبيرِ عن هذه الأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ بالاعتناءِ بالخَلِيقةِ وبالكَوْنِ كُلِّه، وبتقديمِ العَوْنِ لكُلِّ إنسانٍ، لاسيَّما الضُّعفاءِ منهم والأشخاصِ الأكثرِ حاجَةً وعَوَزًا."

4. نتناول من المسيحيّة ثلاثة نماذج متكاملة عن قبول الآخر المختلف (التّسامح) بكلّ أبعاد هذا القبول. وهي تلتقي مع تعليم الإسلام و"وثيقة الأخوّة الإنسانيّة":

النّموذج الأوّل، الانفتاح على الاختلاف الدّينيّ وعدم جعله حاجزًا أمام العلاقة مع الآخرين.

نذكر لقاء الرّبّ يسوع مع المرأة السّامريّة على بئر يعقوب في مدينة من السّامرة إسمها سوخار (يوحنّا 4: 5-42)، جلس يسوع على حافّة البئر وكان تعبًا من السّفر، فيما تلاميذه ذهبوا إلى المدينة يشترون طعامًا. جاءت إمرأة سامريّة لتستقي ماءً. فطلب منها أن تعطيه ليشرب. فأجابت: "أنت يهوديّ وأنا سامريّة. فكيف تطلب منّي أن أسقيك، واليهود لا يخالطون السّامريّين" (الآية 9).

أمّا يسوع فأكمل حواره الصّعب معها، مرتفعًا بها إلى قمم الرّوح، وأفهمها أنّه عارف بكلّ ظروف حياتها حتّى هتفت: "يا سيّدي، أرى أنّك نبيّ" (الآية 19). وإنتهى اللّقاء بأنّ كثيرين من السّامريّين آمنوا به، وألحوّا عليه أن يقيم عندهم، فمكث يومين (الآية 40).  

أراد يسوع مواصلة الحوار مع تلك المرأة السّامريّة لكي يخرجها من تقوقعها وأفكارها المسبقة. ويريد ذلك منّا جميعًا لكي ننفتح على جميع النّاس كما فعل هو. ويحثّنا على أن لا نعتبر انتماءاتنا كافية لتبرئتنا، إذا كنّا لا نعيش حقًّا بحسب قيم هذه الانتماءات وتعاليمها.

هذا التّعليم يلتقي مع كلام الله في القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (سورة هود (11): آية 118). وأيضًا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات (49): آية 13).

النّموذج الثّاني، التّضامن مع الآخر المختلف ومساعدته على أساس المحبّة الشّاملة والرّحمة.

نذكر مثل السّامريّ الصّالح (لوقا 10: 30-37)، وقد شرح به يسوع لأحد معلّمي الشّريعة معنى: "من هو قريبي" الّذي عليّ أن أحبّه كنفسي؟ كما نقرأ في التّوراة (الآيات 26-29). القصّة أنّ رجلًا كان نازلًا من أورشليم إلى أريحا. فوقع بين أيدي لصوص عرّوه وضربوه ثمّ تركوه بين حيّ وميت. مرّ على طريقه إثنان من ملّته ومسؤولان روحيًّا، الواحد تلو الآخر، كاهن ولاويّ، فمالا عنه ومشيا. ومرّ سامريّ مسافر– من غير ملّته ودينه– فتوقّف وضمّد جراحه وحمله على دابتّه وجاء به إلى فندق وأنفق عليه ما لزم.

فسأل يسوع عالم الشّريعة: "أيّ واحد من هؤلاء الثّلاثة كان قريب هذا المعتدى عليه؟ فأجابه: الّذي عامله بالرّحمة. فقال له يسوع: إذهب أنت واعمل مثله."  

خلاصة هذا المثل: إنّ التّضامن بين النّاس بروح المحبّة والرّحمة يجب ألّا يحدّه أيّ اختلاف دينيّ أو مذهبيّ أو اجتماعيّ. بهذا المثل يرتفع يسوع بمفهوم "القريب" من صلة الدّم والعائلة أو الوطن أو الدّين، إلى معنى روحيّ لاهوتيّ، هو أنّ كلّ إنسان قريب لأخيه الإنسان، لأنّهم جميعًا مخلوقون على صورة الله. لهذا علّم يوحنّا الرّسول: "من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبّة الله فيه. يا أبنائي، لا تكن محبّتنا بالكلام أو باللّسان بل بالعمل والحقّ." (1 يوحنّا 3: 17-18).

هذا التّعليم يلتقي مع الحديث الشّريف "الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله". ويلتقي أيضًا مع "وثيقة الأخوّة الإنسانيّة"، الّتي إذ تنبّه إلى أهمّيّة دور الأديان في بناء السّلام العالميّ، تؤكّد "القناعةَ الرّاسخةَ بأنَّ التّعاليمَ الصّحيحةَ للأديانِ تَدعُو إلى التّمسُّك بقِيَمِ السّلام وإعلاءِ قِيَمِ التّعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المشترَكِ، وتكريس الحِكْمَةِ والعَدْلِ والإحسانِ، وإيقاظِ نَزْعَةِ التّديُّن لدى النَّشْءِ والشّبابِ؛ لحمايةِ الأجيالِ الجديدةِ من سَيْطَرَةِ الفكرِ المادِّيِّ، ومن خَطَرِ سِياساتِ التّربُّح الأعمى واللّامُبالاةِ القائمةِ على قانونِ القُوَّةِ لا على قُوَّةِ القانونِ".

النّموذج الثّالث، الاعتراف بالتّنوّع والتكامل بين النّاس في الحياة المجتمعيّة.

نختار صورة الجسد وأعضائه الّتي يعطيها بولس الرّسول (1 كورنتس 12: 14-16). فالجسد البشريّ مؤلّف من أعضاء كثيرة ومتنوّعة تجعله كاملًا، وتمكّنه من العيش والتّحرّك والعمل. "الأعضاء كثيرة، لكنّ الجسد واحد. وليس من أيّ عضو أن يحلّ مكان الآخر أو أن يستغني عن الآخر. والعضو الّذي نحسبه أضعف أعضاء الجسد هو ما كان أشدّ ضرورة. وما نحسبه أقلّ كرامة هو الّذي نخصّه بمزيد من التّكريم. فالله صنع الجسد بطريقة تزيد من كرامة الأعضاء كلّها بعضها ببعض" (الآيات 20-25).

أجل، الحياة لا تسكن إلّا في التّنوّع، على شاكلة الجسد الحيّ، حيث لا خليّة تشبه الأخرى ولا عضو يشبه الآخر، وتتكامل الخلايا والأعضاء وظائفيًّا لتكوّن هيكل الحياة. بينما وحدةُ الشّكل والأنظمة الشّموليّة الّتي تستند إلى اعتبارات دينيّة منحرفة تسحقُّ الإنسانَ وحرّيتَه وكرامتَه، إنّما هي موكب جنازة الحياةِ، على شاكلة الجثّة المنصهرة أعضاؤها في هدأة الموت.

التّنوّع في الوحدة نجده في حديث شريف عن المساواة وعن الفرق بالتّقوى: "لا فضل لعربيّ على عجميّ ولا لعجميّ على عربيّ ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلّا بالتّقوى. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (رواه البيهقيّ).

الخاتمة

5. وضعت المسيحيّة جميع أعمالها وإنجازاتها في مفهوم السّلام، والمفهوم الإيجابيّ للتّسامح، تمامًا من أجل ترسيخ أسس السّلام المجتمعيّ في العالم. والمسيحيّة أعطت البشريّةَ الحقَّ الطّبيعيّ في التزام الخير، وجعلت هذا الحقّ واجبًا بديهيًّا. إنّ قراءة الإنجيل تزيدنا توقًا للخدمة، لأنّها الطّريق لمعرفة الآخر، والتّضامن معه.

أتمنّى لهذا المؤتمر النّجاح والثّمار المرجوّة، مع الشّكر لإصغائكم!".