الرّاعي: ليمنح الله لبنان مسيحيّين قدّيسين هنا والآن
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة بعنوان "أنت الصّخرة، وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي" (متّى 16: 16)، قال فيها:
"1. تحتفل الكنيسة اليوم بعيد القدّيسين الرّسولين بطرس وبولس، عمودي الكنيسة. فعلى إيمان بطرس وحبّه الشّديد للمسيح، وعلى جرأة بولس وتفانيه، بنى الرّبّ يسوع كنيسته، ثابتة على صخرة الإيمان والحقيقة، نورًا للأمم على مدى التّاريخ.
2. تحتفل الكنيسة أيضًا بعيد القدّيس خوسيماريا إسكريفا، مؤسّس حبريّة Opus Dei الّتي تعني "حبريّة عمل الله" الّذي علّمنا أنّ كلّ عمل، مهما بدا بسيطًا، يمكن أن يصبح طريقًا إلى القداسة. وقد جعل شعار حياته: "تقديس الذّات من خلال العمل، وتقديس العمل من أجل الله". وقال: "ليس المهمّ كثرة الأعمال، بل كثرة الحبّ الّذي نضعه في العمل". وقد رسم خطّة هذه الرّوحانيّة في كتابه بعنوان: "الطّريق".
3. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا وبخاصّة بأعضاء حبريّة Opus Dei، وأن أهنّئكم بهذين العيدين: القدّيسين الرّسولين بطرس وبولس، والقدّيس خوسيماريا إسكريفا. كما أرحّب بوقفيّة سيّدة العناية في أدونيس جبيل، بقيادة الأب أنطوان خضرا.
4. بطرس اسمه الأصليّ سمعان. مهنته صيّاد سمك، أمّيّ متزوّج. دعاه يسوع لاتّباعه وهو منهمك في غسل الشّباك مع شقيقه أندراوس وأبيهما. دعاهما يسوع: "اتبعاني أجعلكما صيّادي بشر". وللحال قاما وتركا كلّ شيء وتبعاه. واليوم في نواحي قيصريّة فيلبس أعرب سمعان عن إيمانه المميّز بالمسيح: "أنت هو المسيح إبن الله الحيّ". فحوّل يسوع اسمه إلى "صخرة" (Petros) باليونانيّة، "كيفا" بالآراميّة، ليبني عليها كنيسته.
بولس، على خلاف بطرس، اسمه العبريّ شاول، عالم وفيلسوف، صاحب حجّة وقدرة على الإقناع. ثابت في قناعاته، غيور، قائد مقدام: مضطهد تلاميذ المسيح والكنيسة، رومانيّ الجنسيّة. إختاره المسيح ليحمل إنجيله إلى المسكونة، من بعد أن بدّل حياته، وصحّح رؤيته، وأطلقه رسولًا إلى الأمم فتكبّد الأسفار.
إستشهدا في عهد نيرون الملك سنة 76 أو 68، بطرس مصلوبًا على تلّة الفاتيكان، وبولس بقطع رأسه خارج أسوار المدينة.
5. كان القدّيس خوسيماريا رائدًا سابقًا للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني، إذ أعلن، منذ العشرينات من القرن الماضي، إحدى أعظم حقائق الإيمان: الدّعوة الشّاملة إلى القداسة.
"القداسة ليست طريقًا مخصّصًا للقليلين، بل للجميع، لكلّ واحد، لكَ أنت أيضًا" (طريق، رقم ١).
في عالمٍ يحاول في كثير من الأحيان أن يحصر الله داخل الجدران، أعاد خوسيماريا فتح أبواب الإنجيل ليحمل النّور الإلهيّ إلى الشّارع، والمصنع، والجامعة، والمستشفى، والبيت، أيّ إلى كلّ مكان يوجد فيه الإنسان.
ذكّرنا أنّ المسيح يريد أن يُلتقى به في قلب هذا العالم، وأنّ العمل البشريّ يمكن أن يصبح تقدمة مقدّسة، وأنّ العلاقات العائليّة مدعوّة إلى أن تتألّه بالمحبّة الإلهيّة.
هذه الرّسالة ما زالت ملحّة لغاية اليوم، لاسيّما في مجتمعنا اللّبنانيّ المُتألِّم من أزمات اقتصاديّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة. أمام تجربة اليأس والاستسلام، يهمس لنا خوسيه ماريا:
"قُم! الربّ ينتظرك في حياتك اليوميّة. هناك يريد أن يقدّسك".
ما يلفت النّظر في حياة خوسيماريا هو حبّه العميق لهيكليّة الكنيسة، وللبابا، وللأساقفة. لم تكن محبّته إداريّة أو شكليّة، بل محبّة بنويّة، متواضعة، فائقة للطّبيعة. كان يردّد:
"الكنيسة هي المسيح الحاضر بيننا. الكنيسة هي أمّي".
"عمل الله" يشجّع رجالًا ونساءً يعيشون في قلب المجتمع، يشهدون للمسيح من خلال العمل المتقن، والاستقامة، والفرح، والحياة المصلّية. ليس هدفه نخبويًّا، بل تربية روحيّة عميقة: لتنبيه الضّمائر، وتكوين العقول، وتقديس البيوت، وتحويل المجتمع من الدّاخل.
خوسيماريا لم يأتِ بإنجيل جديد، بل أعاد إحياء ما عاشه المسيحيّون الأوائل: أن نكون رسلًا من دون تغيير المهنة، ومُتأمّلين من دون الهرب من المدينة، وقدّيسين في وسط العالم.
أنتم، أيّها المربّون، والأطبّاء، والمهندسون، والآباء والأمّهات، والمزارعون، والعاملون: الله يدعوكم إلى القداسة من خلال مهنتكم، وعلاقاتكم، وواقعكم.
لبنان بحاجة إلى مسيحيّين ثابتين، كفوئين، مشرقين، أحرار، ومتجذّرين في الإيمان. لبنان بحاجة إلى علمانيّين قدّيسين، متكوّنين، فاعلين، متغذّين من الأسرار والصّلاة.
6. لكن كيف يمكن أن نصبح قدّيسين في قلب الحياة اليوميّة؟ يجيب خوسيماريا بوضوح: عبر وضع المسيح في مركز كلّ شيء:
•عبر القدّاس اليوميّ، مصدر الحياة المسيحيّة وقمّتها.
•عبر الاعتراف المنتظم، نبع الرّحمة والغفران.
• عبر الصّلاة الدّاخليّة، والسّكون في حضرة الله، والإصغاء إلى صوته.
• عبر العمل المتقن، الّذي يتحوّل إلى مذبح.
• وعبر المحبّة العمليّة، الفَرِحة، الأخويّة.
7. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، بشفاعة القدّيسين الرّسولين بطرس وبولس، والقدّيس خوسيماريا، لكي يمنح الله لبنان مسيحيّين قدّيسين هنا والآن، لا ينتظرون ظروفًا مثاليّة، بل يلتزمون القداسة في العمل والصّلاة والخدمة والمحبّة والفرح والرّجاء. ولله المجد والشّكر، الآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين."