الرّاعي: ليس لنا مخرجًا من أزماتنا إلّا بعقد مؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان برعاية منظّمة الأمم المتّحدة
"1. تحتفلُ الكنيسة المقدّسة في هذا الأحد بعيد الثّالوث الأقدس، من بعد أن تذكّرت عمل الآب الخالق الّذي أرسل إبنه إلى العالم فأجرى فداء خطايا البشريّة بآلامه وموته، وبثّ الحياة الجديدة بنعمة قيامته، ثمّ أرسل روحه القدّوس منبثقًا منه ومن الإبن ليحقّق في كلّ مؤمن ومؤمنة ثمار الفداء. وفيما تحيي الكنيسة هذا الاحتفال، فإنّها تقوم برسالتها المثلّثة: التّعليم والتّقديس والتّدبير "باسم الآب والإبن والرّوح القدس".
يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ونقدّم للثّالوث الأقدس سجودنا وعبادتنا، هو الّذي بإسمه نبدأ، وبمجده ننهي.
2. ويطيب لنا أن نحتفل مع الحركة الرّسوليّة المريميّة بعيدها السّنويّ. فنحيّي المشرف عليها سيادة أخينا المطران غي بولس نجيم، ومرشدها العامّ قدس الأب مالك أبو طانوس، ورئيسها ومجلسها العامّ ومجالسها الإقليميّة والمحلّيّة وسائر أعضائها والآباء المرشدين. إنّ المنضوين تحت لوائها من مختلف الأعمار يسعون إلى تقديس نفوسهم بالرّوحانيّة الإنجيليّة المريميّة والرّسوليّة، فيكونون خميرة في عجين رعاياهم وبيئاتهم والوطن.
إنّ "دليل نور وحياة" هو مع الإنجيل دستور حياتهم في عيش روحانيّة الحركة ورسالتها، ما يمكنّهم مع غيرهم من المنتسبين إلى منظّمات رسوليّة أخرى، من تأدية رسالة جلّى في الرّعايا إلى جانب كهنتها، وفي الأبرشيّات على مستوى مجالسها ومخطّطاتها الرّاعويّة والرّسوليّة.
3. إنّنا نتطلّع إلى "الحركة الرّسوليّة المريميّة" في هذا الزّمن الصّعب من حياتنا الوطنيّة ليكون أعضاؤها مسيحيّين ناشطين، ومواطنين ملتزمين، صامدين بإيمانهم، ومدافعين عن القيم الأخلاقيّة وناشرينها في أماكن تواجدهم اليوم وغدًا.
فنقول لكم، أيّها الأحبّاء، ولسواكم من الأجيال الجديدة: "استعيدوا الأمل والإيمانَ بلبنان لأنّه سيَخرُج من بيِن الأنقاض ويعودُ دولةً مستقلّةً، قويّةً، فاعلةً، حياديّةً، حضاريّةً، ديمقراطيّةً، وتعدّديةً. طريقُ الخلاصِ مرسومٌ، ولا يَنقُصه سوى فعلةٍ شُجعانَ يتمتّعون بإرادةِ بناءِ وطنٍ للّبنانيّين، ويتميّزون بفكرٍ وطنيّ صافٍ ومحرّر من الولاءِ للخارج، ويَحمِلون قضيّةَ لبنان التّاريخيّةَ في العقلِ والقلب.
4. في عيد الثّالوث الأقدس، ومن كلام الرّبّ في الإنجيل، ترتسم أمامنا رسالة الكنيسة المثلّثة الأبعاد الّتي سلّمها إيّاها المسيح الإله قبيل صعوده إلى السّماء، وهي إيّاها رسالته كنبيّ وكاهن وملك، إنّها رسالة:
أ. التّعليم بإعلان الإنجيل، وتلمذة جميع الشّعوب؛
ب. التّقديس بتوزيع نعمة الأسرار بدءًا من المعموديّة- الولادة الجديدة من الماء والرّوح؛
ج. التّدبير برعاية الجماعة على أساسٍ من الحقيقة المحبّة.
5. هذه الرّسالة المثلّثة تسلّمتها الكنيسة بشخص الرّسل، وهؤلاء سلّموها إلى خلفائهم الأساقفة ومعاونيهم الكهنة بواسطة سرّ الدّرجة المقدّسة. وهم يمارسونها بسلطان إلهيّ بشخص المسيح وباسمه. لكنّ الأقانيم الثّلاثة من الثّالوث الأقدس يعملون كلّهم في هذه الرّسالة الإلهيّة. ولذا، نبدأ كلّ عمل بإاسم الآب والإبن والرّوح القدس، وننهيه بالمجد للآب والإبن والرّوح القدس.
وأشرك المسيح الرّبّ الشّعب المسيحيّ كلّه برسالته وهويّته بواسطة سرّي المعموديّة والميرون. فبهما أصبحنا كلّنا جسد المسيح. ولأنّ المسيح- الرّأس قَبِل مسحة الرّوح، فالمسحة عينها تشمل الجسد كلّه. ولهذا دُعينا مسيحيّين أيّ شركاء المسيح في مسحته، وشركاءه في رسالته المثلّثة (القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني: العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 4).
6. لو أدركت الجماعة السّياسيّة عندنا رسالة لبنان وقيمتها في الأسرتين العربيّة والدّوليّة! ولو أدركوا خصوصيّته وهويّته! لحافظوا عليه وقطعوا الطّريق عن السّاعين إلى تشويهه. إنّنا نحيّي القوى الجديدة المنتفضة على المحاصصة والفساد والمحسوبيّات والخيارات الخاطئة والتّقصير في تحمّل المسؤوليّة. على هذه القوى الجديدة يُبنى لبنان، لا على جماعة سياسيّة غير قادرة على تأليف حكومة، ولا حتّى على تأمين دواء ورغيف وكهرباء ومحروقات، فأعلنت هي بنفسها فشلها.
7. نعرف الصّعوبات ونُقدِّرُها، غير أنّ هناكَ جزءًا من الأزمةِ مفتعَلٌ بسببِ الجشَعِ والاحتكارِ. لقد حان الوقتُ لترشيدِ الدّعمِ من دون المسُّ بالمالِ الاحتياطيِّ في مصرف لبنان الّذي هو مالُ المودعين. وهو خصوصًا مالُ الطّبقتَين الوسطى والفقيرة لأنَّ الباقين حوّلوا أموالهم إلى الخارج، على ما يبدو. ولكنْ، بين تأخيرِ التّمويلِ وهو كافٍ لحاجةِ السّوقِ اللّبنانيّة، وبين تخزينِ الأدويةِ المستورَدةِ وتكديسِها في المخازن من دونِ توزيعِها رغبةً بالكسبِ بعدَ رفعِ الدَّعم، وبين فِقدانِ رقابةِ وزارةِ الصِّحّةِ والأجهزةِ القضائيّةِ والأمنيّة على هذهِ المخازن والصّيدليّات، وبين التّهريبِ والتّلاعبِ في قواعد التّوزيع، بين كلّ ذلك، يَدفعُ المواطنون اللّبنانيّون ثمنَ هذا الاستهتارِ بالحياة.
فمن واجبات الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة ومؤسّسات الرّقابة، القيام بدهم المستودعات ووقف الاحتكار، وإغلاق معابر التّهريب. ونتساءل: ما هذا التّقصير العامّ؟ هل أضربت جميع مؤسّسات الدّولة؟ أنحن أمام دولة متواطئة بكاملها على شعبها بكامله؟
8. إنّنا من النّاحية الإنسانيّة، إذ نَتفَّهمُ الموقفَ السّياسيَّ للدولِ الشّقيقة والصّديقةِ الّتي تَربُطُ مساعدةَ دولةِ لبنان بتأليفِ حكومةٍ تقوم بإصلاحاتٍ جِدّيّة، فإنّ الوضعَ المأسَوي الّذي بَلغه الشّعبُ اللّبنانيُّ يدفعنا لنستحثّ هذه الدّول على مساعدةِ هذا الشّعب قبلَ فواتِ الأوان. فالشّعبُ بريءٌ من دولتِه، ومن خِياراتِها، ومن حكومتِه، ومن الجماعةِ السّياسيّةِ عمومًا. إنَّ شعبَ لبنان يَستحقّ المساعدة لأنّه يَستحقُّ الحياةَ، وأنتم تعرفونه.
9. أمّا من النّاحية الوطنيّة، ليس لنا مخرجًا من أزماتنا السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة إلّا بعقد مؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان، برعاية منظّمة الأمم المتّحدة، غايته:
1) تطبيق قرارات مجلس الأمن بكاملها، استكمالًا لتطبيق وثيقة الوفاق الوطنيّ الصّادرة عن مؤتمر الطّائف (1989) بكامل نصّها وبروحها؛
2) إعلان حياد لبنان بحيث يتمكّن من أن يؤدّي دوره كوسيط سلام واستقرار وحوار في بيئته العربيّة، وكمدافع عن القضايا العربيّة المشتركة، فلا يكون منصّة للحرب والنّزاع والسّلاح؛
3) إيجاد حلّ لنصف مليون لاجئ فلسطينيّ على أرضه، والسّعي الجدّيّ لعودة النّازحين السّوريّين المليون ونصف المليون إلى وطنهم، وممارسة حقوقهم المدنيّة على أرضه. فلبنان المنهوك تحت وطأة الأزمات، لا يستطيع حمل عبء نصف سكّانه مضافًا.
10. إنّنا بروح الرّجاء نواصل طريقنا، وسط المصاعب والمحن، متّكلين على نعمة المسيح الفادي والمخلّص الضّامن لنا بزوغ فجر جديد بقوله: "أنا معكم طول الأيّام حتّى نهاية العالم" (متّى 28: 20). للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، المجد والتّسبيح والشّكر الآن وإلى الأبد، آمين."